الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حاجة الأمة للنزول المفرق
ونتناول وجها آخر يتعلق بالأمة وحاجتها إلى هذا النزول المفرق: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)[آل عمران]. بهذا وصف الناس قبل بعثة النبى صلى الله عليه وسلم؛ كانوا فى ضلال مبين، شمل ضلال العقيدة، والتصورات التى بنيت عليها نحو الكون والإنسان والحياة، كما تشمل الضلال فى السلوك العملى للإنسان والعلاقات بين الناس، ومن مظاهر الضلال فى العقيدة: أن يصنع الإنسان إلهه بيده ثم يسجد له ويعلق حياته به رغبة ورهبة، ومن ضلال تصورات الإنسان نحو الحياة أن جعلوها كل شىء ولا حياة بعدها، وهذا التصور يفسد الحياة حيث يتحول فى هذا التصور الإنسان إلى حيوان مفترس يريد أن يحظى بكل شىء، ولو على حساب الآخرين، وأن يشبع شهواته ولو أفسد حياة غيره، فهذا التصور يقيم حياة الناس على أساس الظلم الذى قال عنه زهير الشاعر الجاهلى:
ومن لا يظلم الناس يظلم
ومن ضلال التصور للإنسان أن الإنسان يقاس بما يملك من مال وما ينتمى إليه من عصبية، فمن ملك ذلك فهو العظيم فى تصورهم، ومن حرم من شىء من ذلك كان وضيعا، وليس أهلا للمكرمات، فصارت النظرة قائمة على عنصرية ظالمة لا دخل للإنسان فيها. ومن خلال التصور نحو الكون الذى يعيش فيه وبين آياته أن اتخذت بعض هذه الآيات للتقديس والعبادة من دون الله. ومن مظاهر الضلال فى العلاقات أن النفوس التى بنيت على المعانى الفاسدة السابقة صارت نفوسا ضعيفة وشحنت بالعداوة والبغضاء، وصار الطيش والسفه من سمات هذه النفوس، وأصبحت الحروب تشن لأتفه الأسباب، وصار التناصر فى الحروب لا يقوم على الحق وإقامة العدل بل تحكمت فيه العصبية.
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
للنائبات على ما قال برهانا
ومن هذا السفه وهذه الحماقة أخذت هذه الحياة صفة الجاهلية:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومن مظاهر الضلال المبنى على التصورات السابقة أن أموال الناس صارت تؤكل بالباطل، وأن امتصاص دماء الآخرين عن طريق التعامل بالربا صار متبعا، وأما العلاقات الاجتماعية فوجد فيها الضلال فى علاقة الزوج بزوجته حيث كانت من سقط المتاع؛ لا يعبأ برأيها زوجة ويتشاءم منها، وتنشأ بينهما طفلة، وتورث إذا مات زوجها، وامتهنت كرامتها فيما شاع من سفاح وفاحشة.
هذه صورة موجزة لحالة الأمة قبل البعثة والتى وصفت بالضلال المبين مرة ووصفت بالجاهلية أخرى، ووصفت بالظلمات مرة، وبالموت والخمول أخرى. فكيف يعمل الوحى عمله فى هذه الضلالات المتراكمة والمترابطة؟ هل يجدى أن ينزل الوحى جملة واحدة ليعالج مثل هذه الحالات المتشابكة؟ أم أن ينزل على فترات ليأخذ بيد الناس أخذا رفيقا يرتب فيه الأهم فالمهم، ويقدم العلاج الذى يجتث هذه الأمراض المتمكنة؟ وإن كنا سنتناول ذلك تفصيلا فيما يتعلق بوجه المنهج إلا أننا نركز هنا أن النزول مفرقا كان لا بدّ منه لمواجهة هذه الحالات المتشعبة والضاربة فى كل اتجاه. فإذا أضفنا إلى ذلك حالة الأمة فى كونها أمة أمية وأن عدد الكتاب والقراء فى بداية الوحى كان قليلا، أدركنا الحكمة من نزول القرآن الكريم مفرقا ليقرأه الرسول على الناس على مكث وليرتله ترتيلا يسهل معه حفظه وفهمه والعمل به.
وإذا كانت تصورات الناس فى الرسل أن يكونوا ملائكة، وأن هذا جعل بعضهم يستبعد أن يرسل الله بشرا رسولا. ونظر بعضهم بالمقاييس السابقة فقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)[الزخرف] ويقصدون بالعظمة هنا عظمة المال والجاه. كان لا بدّ فى مواجهة هذه التصورات الفاسدة نحو النبوة أن يظل اتصال جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم مستمرا، وعلى فترات طويلة؛ حتى يتأكد لهم الدليل بعد الدليل على نبوته ورسالته، وحتى تؤتى المعجزة ثمارها فى قلوب هؤلاء.
وحالة الناس هذه على قدر شدة ضلالها وشدة ظلماتها وخمولها تحتاج إلى زمن وجهد متواصل فى نقلهم من الظلمات إلى النور ومن الضلال إلى الهدى ومن الموت والخمول إلى الحياة الطيبة النقية: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106)[الإسراء].
ومما يتصل بحالة الأمة كذلك أن من آمن منها تعرض لتحديات فى حاجة إلى تثبيت مستمر كذلك، وتسليحهم بالصبر وتوجيههم إلى سبيل المواجهة الصحيحة، ومنحهم
تجارب الأمم السابقة مع رسلهم وكيف كانت عاقبة المؤمنين، وفى الوقت نفسه تعرض أمام المعاندين نتائج عناد من سبقهم، وهذا لا يتأتى بنزول القرآن جملة واحدة، فكيف يخاطب قوم بمثل قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)[النور]، كيف يخاطبون بذلك ولم يدخلوا مثل هذه التجربة؟ وكيف تحكى غزوة الأحزاب ولما تحدث بعد؟ وكيف يحكى يوم حنين ولما يأت بعد؟ إن من دلائل الإعجاز أن يكون كل هذا مسطورا فى اللوح المحفوظ قبل أن يحدث بين المؤمنين والكافرين، وأن يكون محفوظا فى بيت العزة، وأن ينزل مفرقا حسب ما شاء الله وعلى ما يناسب وقت التنزيل: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
(6)
[الفرقان] ويتضح ذلك جليا عند تمام الحديث عن حكم نزول القرآن مفرقا فى الوجه الثالث الذى يتعلق بمنهج التبليغ للناس.