الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «البلد»
وبعد المعالجة السابقة فى سورة «ق» تنزل سورة البلد لتذكر الناس بنعمة المكان الذى يقيمون فيه. وموقع الإنسان فى هذه الحياة وما يكابده، وكيف تلعب الظنون بهذا الإنسان فيترك الطريق السوىّ وينسى نعم الله عليه. وتقدم السورة الكريمة للإنسان طريق أصحاب الميمنة، وتحذره من طريق أصحاب المشأمة فالسورة كلّها مكية باتفاق ونزلت بعد سورة «ق» قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20).
وعالجت سورة البلد مجموعة من المسائل والقضايا المتعلقة بالإنسان وما أنعم الله به عليه من نعم كثيرة، منها ما يخصّ أهل مكة من تمتعهم بأمن الحرم، فقد مكّن الله لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كلّ شىء، وجعله الله مثابة للناس وأمنا. وشرفهم بحلول الرسول وبعثته فى هذا البلد الأمين أفضل البلدان على الإطلاق. روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذى وصححه عن عبد الله بن عدى بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«والله إنك لخير أرض الله وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» . وروى الترمذى وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: «ما أطيبك من بلد، وأحبّك إلىّ، ولولا أن قومى أخرجونى منك ما سكنت غيرك» «1» فنعمة الحرم ونعمة حلول الرسول وبعثته فى مكة المكرمة ونعمة التوالد والخروج المستمر والذى تعمر به هذه الحياة بدءا بآدم عليه السلام وما نسل من ولده وما فى هذا التوالد المتنوع من آيات القدرة والإبداع فذكر المكان وذكر الإنسان
(1) فقه السنة 1/ 691.
المنعم بهذا المكان يقتضى أن يكون هذا الإنسان مقدرا لحرمة هذا المكان شاكرا لأنعم الرحمن سبحانه حتى يجد مع الشكر ومع الصبر أى مع الإيمان ما يجعله يتجاوز المتاعب التى سيمر بها رغما عنه براحة القلب وطمأنينة النفس وفى هذا إشعار لهذا الإنسان الذى تكبر ونسى نفسه أنه لا حول له ولا قوة إلا بخالقه والمتفضل عليه
سبحانه ولهذا قال القرطبى رحمه الله فى وصف هذه المكابدة: قال علماؤنا أول ما يكابد قطع سرّته، ثم إذا قمط قماطا وشدّ رباطا، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، ولو فاته لضاع ثم يكابد نبت أسنانه وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام، الذى هو أشدّ من اللطام، ثم يكابد الختان، والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلّم وصولته، والمؤدّب وسياسته والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور وبناء القصور ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، فى مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها، من صداع الرأس ووجع الأضراس، ورمد العين وغمّ الدّين، ووجع السنّ وأ لم الأذن ويكابد محنا فى المال والنفس مثل الضرب والحبس، ولا يمضى عليه يوم إلا يقاسى فيه شدّة ولا يكابد إلا مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مساءلة الملك وضغطة القبر وظلمته ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقرّ به القرار إما فى الجنة، وإما فى النار، قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) فلو كان الأمر إليه لما اختار هذه الشدائد ودلّ هذا على أن له خالقا دبّره وقضى عليه بهذه الأحوال فليمتثل أمره» «1» .
وعلى الرغم من تجسيد هذا الوصف لما يكابده الإنسان، فإن هذا الإنسان عجيب عند ما يتصور الأمور على غير حقائقها، فيظن أن قدرته مطلقة، ولن يقدر عليه أحد ويستعمل نعمة الله فى المال مثلا فيما يغضب الله عليه. يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً (6) أى كثيرا مجتمعا. عن ابن عباس قال: كان أبو الأشدّين يقول: أنفقت فى عداوة محمد مالا كثيرا، وهو فى ذلك كاذب. وقال مقاتل: نزلت فى الحارث بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبى صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يكفّر فقال: لقد ذهب مالى فى الكفّارات والنفقات منذ دخلت فى دين محمد. وهذا القول منه يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغيانا منه، أو أسفا عليه، فيكون ندما منه.
أيظن هذا الإنسان أن الله سبحانه لا يراه ولا يحاسبه على أعماله ومنها إهلاكه
(1) القرطبى 20/ 62، 63.
لنعمة المال فالمال الذى يوجه إلى المعاصى والشهوات أهلك وأهلك صاحبه، وتقرّر السورة الكريمة هذا الإنسان بنعم الله القريبة منه، من العينين واللسان والشفتين ومن الدلالة على طريقى الخير والشر. فهلّا أقر هذا الإنسان بهذه النعم الظاهرة فأنفق ماله الذى يزعم أنه أنفقه فى عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن، وذلك بعتق الرقاب وتخليصها من الأسر أو من الرق، وفى حديث البراء «وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها» «1» .
وفى هذا فتح كبير يقدمه الإسلام للإنسان فى تخليصه من الأسر ومن الرق وهذا الفتح يأتى مبكرا فى الفترة المكية من نزول القرآن الكريم.
وكذلك يوجه المال إلى الإطعام وخاصة عند الحاجة فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) وكذلك يوجه المال فى هذا المجال إلى صاحب الحاجة القريب فإذا عنى كلّ بقريبه كفى المجتمع كله: يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16).
فاقتحام العقبة فى الدنيا والآخرة يكمن فى هذا السلوك المستقيم الذى يؤدى إلى التراحم بين الناس، والعناية بضعافهم ممن يقع فى الأسر أو الرق أو يقع فى الجوع أو اليتم أو شدة الفقر. وهذا السلوك لا بدّ أن يكون منطلقا من أساس الإيمان الذى تقبل به الأعمال، ولكى يستمر هذا لا بدّ من التواصى بالصبر والتواصى بالمرحمة.
وهذا مسلك أصحاب الميمنة. أما من وقع فى الكفر بآيات ربه فلن يسلك هذا السلوك أولئك أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة.
لقد نبهت سورة البلد الناس إلى نعم الله عليهم فى المكان، وفى حلول النبى صلى الله عليه وسلم فيه وإلى وجود فريقى الخير والشر وبيان سلوك أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة.
وكيف تكون النجاة من العقبة.
(1) القرطبى 20/ 68.