المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة «مريم» نزلت بعد فاطر فهى مكية بإجماع، ومما يدل على - تاريخ نزول القرآن

[محمد رأفت سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التعريف بالوحى

- ‌صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌رؤية النبى صلى الله عليه وسلم للملك

- ‌صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل

- ‌النفث فى الرّوع

- ‌كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌صلصلة الجرس:

- ‌ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج

- ‌تنزلات القرآن الكريم

- ‌الحكمة من هذه التنزلات

- ‌حاجة الأمة للنزول المفرق

- ‌نقل الناس من الضلال إلى الهدى

- ‌أول ما نزل من القرآن

- ‌ترتيب الآيات القرآنية

- ‌دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف)

- ‌ترتيب السور القرآنية

- ‌ليلة نزول القرآن الكريم

- ‌تفصيل ما تضمنته سورة العلق

- ‌سورة «القلم»

- ‌سورة «المزمل»

- ‌سورة «المدثر»

- ‌سورة «الفاتحة»

- ‌سورة «المسد»

- ‌سورة «التكوير»

- ‌سورة «الأعلى»

- ‌سورة «الليل»

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «الضحى»

- ‌سورة «الشرح»

- ‌سورة «العصر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌سورة «الكوثر»

- ‌سورة «التكاثر»

- ‌سورة «الماعون»

- ‌سورة «الكافرون»

- ‌سورة «الفيل»

- ‌سورة «الفلق» و «الناس»

- ‌سورة «الإخلاص»

- ‌سورة «النجم»

- ‌سورة «عبس»

- ‌سورة «القدر»

- ‌سورة «الشمس»

- ‌سورة «البروج»

- ‌سورة «التين»

- ‌سورة «قريش»

- ‌سورة «القارعة»

- ‌سورة «القيامة»

- ‌سورة «الهمزة»

- ‌سورة «المرسلات»

- ‌سورة «ق»

- ‌سورة «البلد»

- ‌سورة «الطارق»

- ‌سورة «القمر»

- ‌سورة «ص»

- ‌سورة «الأعراف»

- ‌سورة «الجن»

- ‌سورة «يس»

- ‌سورة «الفرقان»

- ‌سورة «فاطر»

- ‌سورة «مريم»

- ‌سورة «طه»

- ‌سورة «الواقعة»

- ‌سورة «الشعراء»

- ‌سورة «النمل»

الفصل: ‌ ‌سورة «مريم» نزلت بعد فاطر فهى مكية بإجماع، ومما يدل على

‌سورة «مريم»

نزلت بعد فاطر فهى مكية بإجماع، ومما يدل على مكيتها ما ذكره أبو داود «1»: لما كانت وقعة بدر، وقتل الله فيها صناديد الكفار، قال كفار قريش: «إن ثأركم بأرض

الحبشة، فأهدوا إلى النجاشى، وابعثوا إليه رجلين من ذوى رأيكم لعله يعطيكم من عنده من قريش، فتقتلوهم بمن قتل منكم ببدر؛ فبعث كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعثهما، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو ابن أمية الضّمرىّ، وكتب معه إلى النجاشى فقدم على النجاشى، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين، وأرسل إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم: كهيعص (1) وقاموا تفيض أعينهم من الدمع فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82). وقرأ إلى قوله تعالى:

فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83). وفى السيرة «2» فقال النجاشىّ: هل معك مما جاء به عبد الله شىء؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشى: اقرأه علىّ. قال: فقرأ: كهيعص (1) فبكى والله النجاشى حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفتهم حتى أخضلوا لحاهم حين سمعوا ما يتلى عليهم، فقال النجاشىّ: إن هذا والذى جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا «2» . فهذا يدل على نزول سورة «مريم» فى مكة وحفظ الصحابة لها قبل ذهابهم إلى الحبشة وهجرتهم إليها فكانت قراءة جعفر لها على النجاشى والقسيسين.

وقد قيل: إن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58). آية مدنية، ذكر ذلك مقاتل «4» وقيل كذلك: إن قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) آية مدنية. ولكن ليس مع القولين دليل قوىّ مما جعل القرطبى يحكى أنها مكية بإجماع دون أن يستثنى وكذلك الشوكانى فذكر ما أخرجه النحاس وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت بمكة سورة كهيعص (1) وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة مريم بمكة «5» .

(1) القرطبى 11/ 72، 73.

(2)

القرطبى 11/ 73.

(4)

قلائد المرجان فى بيان الناسخ والمنسوخ فى القرآن: مرعى بن يوسف الكرمى 137.

(5)

فتح القدير 3/ 320.

ص: 321

وتقرر السورة الكريمة فى هذه الفترة التوحيد الخالص لله سبحانه، وكمال قدرته وتنزهه جل شأنه عما لا يليق بجلاله مما انحرف فيه وضل أهل الكتاب من نسبة الولد والشريك لله سبحانه وتعالى عن قولهم، وتتناول السورة الكريمة فى هذا البيان جانبين الأول: قصص الأنبياء بدءا بزكريا عليه السلام وما كان من توحيدهم الخالص وما حدث معهم من مظاهر العبودية الصادقة فى حسن التوجه إلى الله، والطمع فى رحمته مع بيان مظاهر قدرة الله سبحانه فى تحقيق ما طلبوا، وكذلك آيات قدرته فى خلقه حتى وجدنا اسم السورة الكريمة مبرزا هذا المعنى فى «مريم» عليها السلام.

والجانب الثانى: فى بيان انحراف الناس وضلالهم فى فطرتهم إلى أنبيائهم، ورسل الله إليهم ودعوتهم إلى الصواب الذى يتفق مع ما جاء به هؤلاء الأنبياء. فهذا زكريا عليه السلام يدعو ربّه ويذكر حاله ولا يستبعد أن يحقق الله له رغبته فى الذرية الصالحة على الرغم من حالته وحالة زوجته فيبشّر بالغلام ويسمّى ونقف على آيات قدرته سبحانه فى هذا الخلق وكيف يكون الإنجاب فى مثل هذه الحالة وكيف يكون غلاما زكيا ويكون برا بوالديه ويكون تقيا، وهذه عاقبة الاستقامة مع الله سبحانه فى الحياة الدنيا وفى الآخرة قال جل شأنه: كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15).

وفى عرض هذه القصة تعليم وتوجيه للناس فى التوجه إلى الله سبحانه لتحقيق المراد، والثقة الكاملة فى فضل الله ورحمته، وكمال قدرته والخضوع والتذلل له، وذكر نعمه وآلائه يصاحب الدعاء والمسألة وفى ذكر القصة بتفصيلاتها وجوانبها الخفية ما يدلّ على أن هذا كلام الله سبحانه وحده، فلا علم بهذه الجزئيات الخفية لدى الناس.

وبعد ذكر قصة زكريا ويحيى عليهما السلام وما كان من حالهما، وتناول ذكر مريم عليها السلام والتى سميت السورة الكريمة باسمها، وما كان من شأنها فى انقطاعها لعبادة

ص: 322

ربّها، وكيف جاءها الملك ليبشّرها بالولد وتتعجب كيف يكون الولد من غير أن يمسسها بشر وهنا يكون الحال مدعّما لما سبق ذكره مع زكريا عليه السلام وزوجته حيث رزقه الله بالغلام وليسا فى حالة تسمح بالإنجاب، وكان الغلام مظهرا من مظاهر قدرة الله سبحانه، ويكون الغلام هنا كذلك من مريم آية على قدرة الله جل شأنه وكانت المواجهة بعد أن ظهر الحمل وكان الموقف النفسى شديدا مع مريم عليها السلام: ويطمئن كذلك من الجانب المعنوى حيث تكون آية القدرة الأخرى بعد الولادة فى

كلام عيسى عليه السلام فى المهد، وكلامه يبرئ أمه الطاهرة ويدعّم العبودية لله سبحانه، وأنه عبد الله ورسوله والمؤدى لما يطلب منه من صلاة وزكاة، وبارّ بوالدته فهو بشر ولد وسيموت وسيبعث، فليس كما زعم الضالون ولدا لله سبحانه فما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه، قال تعالى فى بيان ذلك: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36).

ومع بيان هذه الحقائق فى شأن عيسى عليه السلام وأمه وتصحيح المفاهيم الخاطئة نحوهما وتنزيه الله سبحانه عن افتراء الضالين وكذبهم تكشف الآيات الكريمة بعد ذلك حال الناس بعد هذا البيان وتذكر الوعيد الذى ينتظر الظالمين، قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) وبعد الوصول إلى الوعيد

ص: 323

مع سمع قوى وبصر قوى يقفون بهما على الحقائق يبقى الظالمون فى ضلالهم المبين لا يستطيعون عودة لتصحيح عقيدة أو سلوك: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) وأىّ حسرة أشد ممن يقع فى هذا الوعيد ويفوته رضا الله وجنته وسيتحقق سخطه وعذابه ولا يستطيع الرجوع ليستأنف العمل: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40).

وأخرج البخارى ومسلم وغيرهما عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون: نعم هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبح ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ

الآية وأشار بيده، قال: أهل الدنيا فى غفلة» «1» . وأخرج النسائى وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة مرفوعا نحوه.

وفى تجلية هذه الحقائق للناس تخليص للإيمان من الشوائب التى ضل فيها البشر من اتخاذ الشركاء، أو من نسبة الولد إلى الله سبحانه فأى ضلال أبين من أن يعتقد المرء فى إنسان حمله الرحم وأكل وشرب وأحدث واحتاج أنه إله أو ابن لله، وينسى أن الله سبحانه قادر يفعل ما يشاء وإذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وبعد وقوفنا عند قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام وتصحيح المفاهيم نحوهما، والوقوف على مظاهر قدرة الله فى خلقه وفى كلامه فى المهد، وفى تقريره لعبوديته لله سبحانه- تذكر الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك قصة إبراهيم عليه السلام وما كان من موقفه مع أبيه الذى وقع فى الشرك، فعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنه شيئا وكيف تلطف إبراهيم عليه السلام فى دعوته لأبيه فقدمها فى رفق وضمّنها حججه القوية، وحذّره من عبادة الشيطان بطاعته كما أنذره وخوّفه من عذاب الله، وكان موقف أبيه الإعراض والتهديد لإبراهيم بالرجم، قال تعالى فى بيان ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم حتى يدرك الناس حرص الابن على هداية أبيه وكيف يكون الإعراض من الأب، وأن عاقبة الطاعة لله الخير والبركة وعاقبة الكفر العذاب والهلاك: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ

(1) فتح القدير 3/ 334، 335.

ص: 324

لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50).

وتذكر الآيات الكريمة بعد ذلك مجموعة من أنبياء الله ورسله، وتبرز فى الوقت نفسه مجموعة من الصفات والمنح والعطايا من الله سبحانه لهم فموسى عليه السلام كان مخلصا وكان رسولا نبيا وكلّمه الله ووهب له هارون نبيا يساعده على أمره قال تعالى:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53).

وهذا إسماعيل عليه السلام تبرز الآيات الكريمة فيه صدق الوعد مع الرسالة والنبوة وأمره لأهله بالصلاة والزكاة وكان عند الله رضيا زاكيا صالحا، قال تعالى: وَاذْكُرْ

فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا

(55)

.

فهذه مجموعة من الأخلاق التى تجعل الإنسان صالحا فى حياته مع الله وفى حياته مع الناس.

وهذا إدريس عليه السلام يقول الله فيه: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57).

وبعد ذكر هؤلاء الصفوة تفصيلا يذكرون إجمالا بإنعام الله عليهم: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) ومعنى ذلك أن هؤلاء التقوا بصلاحهم على تباعد ما بينهم من زمن وأنهم جميعا يشتركون فى صدق توجههم إلى ربهم وحسن تلقيهم لآيات الرحمن بالسجود والبكاء.

وبعد ذكر هؤلاء المخلصين يأتى الإخبار والتحذير من خلف أتى بعدهم، ولم يكن على حالهم فبدّلوا وغيروا وصاروا إلى فساد يتمثل فى إضاعة الصلاة ومن ضيع الصلاة فهو لما سواها أضيع «1» ، واتبعوا شهوات أنفسهم فنفوسهم ليس لها ضابط بتضييعهم للصلاة، واتباع شهوات النفس والإسراف فيها يزيدهم بعدا، وسيوقعهم فى العذاب

(1) قول لعمر، انظر: القرطبى 11/ 122.

ص: 325

الشديد إن لم يتداركوا أنفسهم بالتوبة الصادقة النصوح والإيمان الصحيح وما يتبعه من عمل صالح فإن تداركوا أنفسهم بذلك وجدوا رحمة الله واسعة، ووجدوا أنفسهم فى جنات عدن وعدا من الله سبحانه لا يتخلف وهذا ما وعد الله به عباده المتقين قال جل شأنه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63).

وبعد ذكر الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وما ذكر من وعيدهم، وفتح الباب أمامهم كى يتوبوا ويؤمنوا ويعملوا صالحا؛ ليجدوا رحمة الله ونعيمه فى جنات عدن.

بعد ذلك نجد الآيات الكريمة تضع الناس أمام مجموعة من الحقائق منها: أن نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يكون بأمر الله سبحانه فى الوقت الذى يريد وبالأمر الذى يريد سبحانه، ومنها: ارتباط هذا التنزيل بما وصف الله سبحانه به نفسه، فله الأمر كله ماضيا وحاضرا ومستقبلا فى الزمان والمكان، وأنه سبحانه لا ينسى شيئا، وهو ربّ السموات والأرض وما بينهما خلقا وتدبيرا، وهو وحده المستحق للعبادة، والعبادة تحتاج إلى صبر ومجاهدة، وليس لله سبحانه نظير حتى يشاركه فى العبادة. ومع هذه الحقائق التى تملأ قلب الإنسان يقينا فى قدرة الخالق الرازق الذى بيده ملكوت كل شىء لا يستكثر الإنسان أن يخرج حيا بعد الموت، وقد خلق من قبل ولم يك شيئا أصلا فإعادته بعد أن صار شيئا أيسر وأسهل فى حساباته العقلية. فإذا لم يفد الإنسان من هذه الآيات الباهرات فأمامه من الوعيد الشديد حيث يحضر جاثيا على ركبتيه من شدة الهول وسينزع من كل طائفة وفرقة من الظالمين أشدهم ظلما فهم قادة الظلم والكفر فى الدنيا، والمقدّمون إلى العذاب يوم القيامة، وينجى الله الذين اتقوا من هذا العذاب. «1»

تبسط هذه الحقائق فى قوله تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ

(1) القرطبى 11/ 128، وفتح القدير 3/ 345.

ص: 326

هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) أخرج البخارى رحمه الله وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا» ؟

فنزلت: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ

الآية، وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وكان ذلك الجواب لمحمد «1» .

وبعد بيان هذه الحقائق السابقة وما يتنزل بأمر الله من الوحى، تذكر الآيات الكريمة مقالة الكافرين للذين آمنوا فى المقارنة بين فقراء أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من خشونة فى العيش، والمشركين وما كانوا فيه من ترف، وخدعوا فى هذه المقارنة فلم يبصروا القيم التى تجعل الإنسان إنسانا كريما فرأوا أن أصحابهم أحسن مظهرا، ونسى هؤلاء سنة الله فى الإمهال، وأن من كان فى الضلالة مثلهم فليدعه فى طغيانه، جهله وكفره، ليجد مصيره الأليم وهذا غاية فى التهديد والوعيد، وهذا المصير قد يكون فى الدنيا فيعذبون بالنصر عليهم وقد يكون فى الآخرة، قال تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76).

وتقدم الآيات الكريمة بعد ذلك صورة من الغرور والجهل الذى كان عليه المشركون فقد روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن خباب قال: كان لى على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لى: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، قال: فقلت له: لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث، قال: وإنى لمبعوث من بعد الموت؟ فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مال وولد. قال وكيع: كذا قال الأعمش فنزلت هذه الآية: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وفى رواية قال: كنت قينا فى الجاهلية أى كان حدادا فعملت للعاص بن وائل عملا فأتيته أتقاضاه. خرّجه البخارى- أيضا- وقال الكلبى ومقاتل: «كان خباب قينا فصاغ للعاص حليّا ثم تقاضاه أجرته، فقال العاص: ما عندى اليوم ما أقضيك. فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضينى، فقال العاص: يا خباب مالك؟ ما كنت هكذا، وإن كنت لحسن الطلب فقال خباب: إنى كنت على دينك فأما اليوم فأنا على دين الإسلام مفارق لدينك. قال

(1) القرطبى 11/ 145، 146.

ص: 327

أولستم تزعمون أن فى الجنة ذهبا وفضة وحريرا؟ قال خباب: بلى. قال فأخّرنى حتى أقضيك فى الجنة- استهزاء- فو الله لئن كان ما تقول حقا إنى لأقضيك فيها فو الله لا تكون أنت يا خباب وأصحابك أولى بها منى فأنزل الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا يعنى العاص بن وائل- الآيات» «1» .

ومع ذكر النموذج المغرور الذى كفر بآيات الله، وطمع مع كفره فى المال والولد وسخر واستهزأ وتوعّده الله بالعذاب.

تنزل الآيات الكريمة بعد ذلك لتبين سببا من أسباب اتخاذ الآلهة من دون الله، وذلك لينالوا بها العز ويمتنعوا بها من عذاب الله وأنها ستكون عليهم بلاء: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) لقد ترك هؤلاء الكافرون لأهوائهم كما أرسلت الشياطين عليهم تعرفهم بالكفر والشر، وتقول للواحد منهم: امض امض فى هذا الأمر حتى توقعه فى النار.

وبقاء الكافرين فى الحياة على ما قدّر الله سبحانه وكل ما يتصل بهم من لحظات وأعمال معدود عليهم عدا: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)، وتقدم الآيات الكريمة هذا المشهد الذى يدعو إلى التفكير كيف يحشر المتقون فى صورة كريمة إلى النعيم وكيف يساق المجرمون إلى الجحيم: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وليس للمشركين عهد عند الله، وفى ختام السورة الكريمة تذكير بأهم ما تعالجه سورة مريم من تنزيه الله سبحانه عما لا يليق بجلاله من نسبة الولد إليه سبحانه نتيجة قصور الفهم لدى الضالين الذين لم يدركوا أن الله يخلق ما يشاء، وهو القادر الذى يقول للشيء كن فيكون، فتعرض الآيات الكريمة لقول هؤلاء الضالين وأنه منكر من القول وزورا تتفطر منه السموات وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، والحق أن كلّ من فى السموات والأرض عبد لله من خلقه وتحت قدرته ومشيئته، وسيأتى كل إنسان إلى ربّه يوم القيامة فردا، قال تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95).

وبعد ذلك تبين الآيات الكريمة مكانة المؤمنين الذين يعملون الصالحات عند الله

(1) فتح القدير 3/ 345.

ص: 328

سبحانه فى قوله الكريم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) ولقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن ابن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد فى نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

الآية وهذه الرواية لا تستقيم ولا تصح، لأن السورة الكريمة كما ذكرنا من قبل مكية كلها، وقال ابن كثير معلقا على هذه الرواية: وهو خطأ، فإن السورة مكية بكمالها لم ينزل شىء منها بعد الهجرة، ولم يصح سند ذلك «1» .

وأخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت فى علىّ بن أبى طالب إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) قال: محبة فى قلوب المؤمنين. وأخرج ابن مردويه والديلمى عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلىّ: «قل اللهم اجعل لى عندك عهدا واجعل لى عندك ودّا واجعل لى فى صدور المؤمنين مودة» فأنزل الله الآية فى على وأخرج عبد الرزاق والفريابى وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس: «ودا» قال: محبة فى الناس فى الدنيا. وأخرج الحكيم الترمذى وابن مردويه عن علىّ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) ما هو؟ قال: «المحبة الصادقة فى صدور المؤمنين» وثبت فى الصحيحين وغيرهما من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إنى قد أحببت فلانا فأحبّه فينادى فى السماء، ثم ينزل له المحبة فى أهل الأرض فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إنى قد أبغضت فلانا فينادى فى أهل السماء، ثم ينزل له البغضاء فى الأرض» .

وتجمل الآيتان الأخيرتان من سورة مريم ما قصّه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فى كتابه الكريم من أنباء السابقين ممن اصطفاهم الله من خلقه، وكيف كان صلاحهم، وممن خالف وكفر وصار ذلك ميسّرا لمن أراده يبشّر به المتقون وينذر به المبطلون، كما تقدّم عبرة التاريخ التى يجدونها والتى ينبغى أن يفيدوا منها فقد أهلك هؤلاء من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من المعاندين المكذبين لما استمروا فى طغيانهم فلا صوت لهم ولا حركة، قال تعالى: فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98).

(1) فتح القدير 3/ 345.

ص: 329