الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «الكافرون»
بعد سورة «الماعون» التى نبهت إلى صفات من يكذب بالدين، وتنزل سورة «الكافرون» لتعلن فى صورة حاسمة البراءة من عمل الكافرين الذين اتخذوا من دون الله أندادا، ولتأمر بالإخلاص لله وحده فلا إله إلا هو، ولتحسم الأمر فى المساومة التى حاولها المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فشلهم فى الفتنة البدنية والمالية، وفى السخرية والاستهزاء، وفى محاولات التشويه لشخصية النبى صلى الله عليه وسلم والطعن فى مضمون دعوته. فلجأ المشركون بعد هذا الفشل إلى أسلوب المساومة على المبادئ، وإذا ساغ لهم هذا باعتبار أنهم ليسوا على شىء، وليسوا على مبدأ يقينى، فإنه لا يجد قبولا لدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدى أصحابه، فقد استقرت عقيدة التوحيد فى القلوب واطمأنت بها فلا تقبل تحويرا ولا تبديلا ولا شركا، فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل السهمى، وكانوا ذوى أسنان فى قومهم، فقالوا:
«يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت فى الأمر، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه» «1» . فهذا العرض وتلك المساومة، تدل على أنهم ليسوا على شيء، وكان الجواب الذى لا جواب سواه رفضه هذه المساومة وينزل فى ذلك قول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6).
ويقول ابن كثير فى تفسيره: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذى يعمله المشركون وهى أمره بالإخلاص فيه فقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهون بهذا الخطاب هم كفار قريش، وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون معبوده
(1) السيرة لابن هشام 2/ 388.
سنة فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال:
لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) يعنى من الأصنام والأنداد، وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وهو الله وحده لا شريك له، ف «ما» هاهنا بمعنى من، ثم قال: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) أى ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدى بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذى يحبه ويرضاه ولهذا قال: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) أى لا تقتدون بأوامر الله وشرعه فى عبادته بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم كما قال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)[النجم] فتبرّأ منهم جميع ما هم فيه فإن العابد لا بدّ له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه ولهذا كانت كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أى لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)» كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)[يونس]، وقال: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [الشورى: 15].
وهذا التكرار فى الآيات الكريمة يوجه إلى واحد من المعانى الآتية: الأول: التأكيد على هذه التفرقة بين الحق الذى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الباطل الذى عليه الكافرون ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)[الشرح] وحكاه كذلك ابن الجوزى وغيره عن ابن قتيبة. والثانى: ما حكاه البخارى وغيره من المفسرين أن المراد: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) أى فى الماضى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) فى المستقبل. الثالث: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أن المراد بقوله «لا أعبد ما تعبدون» نفى الفعل لأنها جملة فعلية، وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) نفى قبوله لذلك بالكلية؛ لأن النفى بالجمة الاسمية آكد فكأنّه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك، ومعناه نفى الوقوع، ونفى الإمكان الشرعى أيضا.
وبهذا التأكيد وهذا القطع فى السورة الكريمة يعرف المؤمنون والكافرون أن الإيمان والكفر لا يلتقيان، وأن المساومة من الكافرين على العقيدة والمبادئ مرفوضة، فالمؤمنون بربهم يعبدونه وحده لا شريك له، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، والكافرون
لهم منهجهم الذى انحرفوا به عن عقيدة التوحيد فاتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله، ويعملون لهم، وليس بنافعهم أن يقولوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم:
ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] فإن القرب من الله بإخلاص العبودية له، وبما شرعه لعباده وجاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه البراءة فى سورة «الكافرون» حرص النبىّ صلى الله عليه وسلم على غرسها واستمرارها فى نفوس أصحابه وأتباعه فكان من هديه الذى علّمه ما ثبت فى صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهذه السورة وبقل هو الله أحد فى ركعتى الطواف، وفى صحيح مسلم كذلك من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما فى ركعتى الفجر، وروى الإمام أحمد رحمه الله حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ فى الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة- أو بضع عشرة مرة- قل يا أيها الكافرون وقل وهو الله أحد. كما روى الإمام أحمد كذلك حديث الحارث بن جبلة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله علّمنى شيئا أقوله عند منامى، قال:«إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ: «قل يا أيها الكافرون» فإنها براءة من الشرك» «1» .
(1) تفسير ابن كثير 4/ 559، 560، وتفسير السعدى 7/ 681، وأسرار ترتيب القرآن للسيوطى 159.