الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «الليل»
ومع روضة جديدة من روضات القرآن الكريم مع سورة الليل. وهى سورة مكية نزلت بعد سورة الأعلى، والذى يشد انتباهنا فى ترتيب هذا التنزيل المبارك تتابع الحديث عن آيات الله سبحانه فى هذا الكون الكبير فى السور الكريمة السابقة، وفى هذه السورة وما نزل بعدها من سورة الفجر وسورة الضحى. أنها تبعث الإنسان من نومه ليفكر فيما حوله، وليتنبه من الاستغراق فى هذه النعم ليذوق حلاوتها، وليستثمرها ويشكر المتفضل بها سبحانه، فالليل والنهار آيتان عظيمتان جعلهما الله فى
حياة الإنسان وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء: 12] إنهما يمثلان صفحة من كتاب العمر الذى يضم بين دفتيه الأيام والليالى، والإنسان فى الليل والنهار، بنوعيه الذكر والأنثى ليس على حالة واحدة إنه فى تفرقة العقدى وتفرقة الخلقى وتفرقه السلوكى يشبه الليل والنهار فى الظلمة والنور، ولكن الليل مع ظلامه مسخر لسكن هذا الإنسان ونومه، والنهار كذلك مسخر لحركة الإنسان ومعاشه ونشاطه.
وكذلك للذكورة خصائصها ووظيفتها التى تلائمها وللأنوثة- أيضا- خصائصها ووظائفها، فعلى الرغم من اختلاف هذه الآيات الكونية فى الخلق، فإن لكل آية بتسخير الله سبحانه لها وظيفة ومهنة، أما تفرق السلوك الإنسانى والسعى البشرى فهو تفرق لا يتلاءم مع نعمة الله عليه، فإن من صفت نفسه وسما قلبه ونظر فى آيات ربه سيكون سلوكه سلوك التقى المعطى والمصدق بالحسنى، فيزيده الله توفيقا وتيسيرا، وأما من لم يفتح لآيات الله قلبه وعقله فسيكون على الطرف الآخر فى سلوكه تكذيبا وبخلا واستغناء، ولا يغنى عنه استغناؤه ويزيده الله من جنس عمله.
قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) ونزول السورة الكريمة بهذه المعانى التى تحفز همم المتقين المعظمين المصدقين، والتى تحذر الفريق الآخر المكذب البخيل تدل على ترشيد الوحى المستمر لمسيرة الدعوة وتفاعل الناس معها، قال ابن جرير وذكر أن هذه
الآية نزلت فى أبى بكر الصديق رضي الله عنه: حدثنا مروان بن إدريس الأصم حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربى حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضي الله عنه عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن فقال له أبوه: أى بنى أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك فقال: أى أبت إنما أريد- أظنه قال- ما عند الله، قال:
فحدثنى بعض أهل بيتى أن هذه الآية نزلت فيه فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)«1» .
وترسى هذه السورة الكريمة مجموعة من القيم وتدعمها فمنها: الدعوة إلى العمل الصالح وعدم التعلل بالمكتوب فى ترك العمل، فكلّ ميسر لما خلق له، فالله سبحانه يجازى من قصد الخير بالتوفيق له ومن قصد الشر بالخذلان، وكل ذلك بقدر مقدر.
وقد تضافرت الأدلة من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم على ذلك منها رواية أبى بكر رضي الله عنه والتى يقول فيها: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مستأنف؟ قال: «بل على أمر قد فرغ منه» ، قال: ففيم العمل يا رسول الله؟، قال:«كلّ ميسر لما خلق له» . رواه الإمام أحمد، ومنها ما رواه البخارى رضي الله عنه عن علىّ رضي الله عنه قال: كنا فى جنازة فى بقيع الغرقد فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة «2» فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد- أو ما من نفس منفوسة- إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة» ، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء؟ فقال: «أما أهل السعادة فيسيرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاء فيسيرون إلى عمل أهل الشقاء ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10)، وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق عن سعيد بن عبيدة به.
ومنها كذلك ما روى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله: أتعمل لأمر قد فرغ منه، أو لأمر تستأنفه؟ فقال:«لأمر قد فرغ منه» فقال سراقة: ففيم
(1) ابن كثير 4/ 519، 520.
(2)
المخصرة: كالسوط وكل ما اختصر الإنسان بيده فأمسكه من عصا ونحوها، مختار الصحاح ص 138.
العمل إذن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل عامل ميسر لعمله» رواه ابن جرير ورواه مسلم عن أبى الطاهرة.
ومنها ما رواه ابن جرير كذلك عن بشير بن كعب العدوى قال: سأل غلامان شابان النبى صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو فى شىء يستأنف؟، فقال:«بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» ، قالا:
ففيم العمل إذا؟ قال: «اعملوا فكل عامل ميسر لعمله الذى خلق له» ، قالا: نجدّ ونعمل. وهذا الفهم وتلك الاستجابة من الشابين هى المقصودة، أن نجدّ ونعمل بما أمرنا.
ومن هذه القيم البذل والعطاء حتى يتكافل الناس ولا يقع إنسان فى آلامه صريع الحاجة، روى ابن جرير عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت فيه شمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين:
اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا»، وأنزل الله فى ذلك القرآن: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) ورواه ابن أبى حاتم عن أبيه «1» عن ابن أبى كبشة بإسناده مثله.
ونتابع القول فى سورة الليل وما تضمنته من معان وقيم، يقول الله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى
(21)
.
فمن هذه القيم العظيمة التى ترسيها هذه السورة، الاطمئنان إلى فضل الله بعباده ورحمته بخلقه فى هداية الفطرة من ناحية، فهو الذى خلق فسوى وقدّر فهدى، كما مر بنا فى السورة السابقة، ومن فضله كذلك ما بينه لخلقه من الهداية بإرسال الرسل بالكتب والآيات حتى لا يكون هناك حجة لأحد.
والقيمة الأخرى التى يطمئن بها قلب المؤمن أن الكل لله، والآخرة والأولى لله فهو المالك والمتصرف فيهما، وهذا ما أكد عليه فى أكثر من سورة سابقة فهو رب العالمين ومالك يوم الدين وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) وسيأتى هذا بعد ذلك فى
(1) ابن كثير 4/ 518، 519.
سور كثيرة أخرى: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)[النجم].
القيمة الأخرى فى الإنذار بالنار، والتخويف بها لينضبط السلوك البشرى وليكون الإنسان على طريق المتقين الذين يؤتون أموالهم؛ ليزكوا أنفسهم ويجتنوا عذابها، وأما الذى يصلاها فإنه الأشقى فيدخلها دخولا يحيط به من جميع جوانبه، ويكون أهون أهل النار عذابا يوم القيامة فى حالة لا يقوى عليها إنسان، روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل توضع فى اخمصى قدميه جمرتان يغلى منهما دماغه» ، رواه البخارى، وقال مسلم فى رواية كذلك عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلى منهما دماغه، يغلى الرجل ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا» . والأشقى الذى يصلى هذه النار هو الذى كذب بقلبه وتولى عن العمل بجوارحه وأركانه.
القيمة الأخرى والمتصلة بما سبق فيه: لا يعرفها الإنسان إلا فى ظل الإيمان بالله سبحانه عند ما يملأ الإيمان قلبه فلا يطمع إلا فى رضاه ولا يريد إلا وجهه سبحانه فلا يكون عمله فى انتظار حمد من الناس أو فى رد جميل سابق لأحد من إخوانه عليه.
إن هذا المعنى لا وجود له إلا فى تربية النفوس على منهج الله ليكون عطاؤها له إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)[الإنسان].
قال تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21).
أى سيزحزح عن النار التقى النقى الأتقى الذى يصرف ماله فى طاعة ربه، ليزكى نفسه وماله، وما وهبه الله من دين ودنيا، وليس بذله ماله فى مكافأة من أسدى إليه معروفا، فهو يعطى فى مقابلة ذلك، وإنما سارع إلى ذلك طمعا فى أن يحصل له رؤيته فى الدار الآخرة فى روضات الجنات.
القيمة الأخيرة: وتمثل ثمرة تسعد الإنسان فى حياته إنها ثمرة الرضى التى لا تتحقق إلا لمن اتصف بهذه الصفات.
إنها نعمة كبرى أن يرزق الإنسان الرضى النفسى، فلا يزعجه شىء، ويرضى بما منحه الله من شىء فلا يرى إلا منشرح الصدر مطمئن القلب.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فى أبى بكر الصديق رضي الله عنه حتى أن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم، ولكنه مقدم الأمة، وسابقهم فى جميع هذه الأوصاف، وسائر الصفات الحميدة؛ لأنه كان صديقا تقيا كريما بذالا لأمواله فى طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكيم دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منّة يحتاج إلى أن يكافئه بها ولكن كان إحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود- وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية: أما والله لولا يدلك عندى لم أجزك بها لأجبتك، وكان الصديق قد أغلظ له فى المقالة، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم ولهذا قال تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21).
هذه المجموعة من القيم ترسيها سورة الليل فى المجتمع الذى فتح قلبه لوحى ربه، وصار يطارد ظلمات الجاهلية كما يطارد النهار ظلمات الليل، فالليل لا يبقى مع هذا المنهج بظلماته، ولكن يكون بسكنه وهدوئه ليجد النائم فيه راحته وسكنه، وليكون فى جزء منه مجال قيام ودعاء واستغفار بالأسماء؛ لنجد السورة الكريمة التى تنزل بعد ذلك تذكر الناس بجوانب أخرى مع قسم جديد بالفجر وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)[الفجر].