المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تنزلات القرآن الكريم - تاريخ نزول القرآن

[محمد رأفت سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التعريف بالوحى

- ‌صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌رؤية النبى صلى الله عليه وسلم للملك

- ‌صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل

- ‌النفث فى الرّوع

- ‌كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌صلصلة الجرس:

- ‌ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج

- ‌تنزلات القرآن الكريم

- ‌الحكمة من هذه التنزلات

- ‌حاجة الأمة للنزول المفرق

- ‌نقل الناس من الضلال إلى الهدى

- ‌أول ما نزل من القرآن

- ‌ترتيب الآيات القرآنية

- ‌دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف)

- ‌ترتيب السور القرآنية

- ‌ليلة نزول القرآن الكريم

- ‌تفصيل ما تضمنته سورة العلق

- ‌سورة «القلم»

- ‌سورة «المزمل»

- ‌سورة «المدثر»

- ‌سورة «الفاتحة»

- ‌سورة «المسد»

- ‌سورة «التكوير»

- ‌سورة «الأعلى»

- ‌سورة «الليل»

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «الضحى»

- ‌سورة «الشرح»

- ‌سورة «العصر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌سورة «الكوثر»

- ‌سورة «التكاثر»

- ‌سورة «الماعون»

- ‌سورة «الكافرون»

- ‌سورة «الفيل»

- ‌سورة «الفلق» و «الناس»

- ‌سورة «الإخلاص»

- ‌سورة «النجم»

- ‌سورة «عبس»

- ‌سورة «القدر»

- ‌سورة «الشمس»

- ‌سورة «البروج»

- ‌سورة «التين»

- ‌سورة «قريش»

- ‌سورة «القارعة»

- ‌سورة «القيامة»

- ‌سورة «الهمزة»

- ‌سورة «المرسلات»

- ‌سورة «ق»

- ‌سورة «البلد»

- ‌سورة «الطارق»

- ‌سورة «القمر»

- ‌سورة «ص»

- ‌سورة «الأعراف»

- ‌سورة «الجن»

- ‌سورة «يس»

- ‌سورة «الفرقان»

- ‌سورة «فاطر»

- ‌سورة «مريم»

- ‌سورة «طه»

- ‌سورة «الواقعة»

- ‌سورة «الشعراء»

- ‌سورة «النمل»

الفصل: ‌تنزلات القرآن الكريم

‌تنزلات القرآن الكريم

لقد جاء التعبير بمادة الإنزال وما تصرف منها أو التقى معها تنويها بشرف ذلك الكتاب العزيز، وعلو منزل الكتاب علوا كبيرا، قال تعالى فى فاتحة سورة الزخرف:

حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4).

ومن صيغ التنزيل ما جاء مقترنا بصفات المنزّل سبحانه، ومنها ما جاء بوصف المنزّل، ومنها ما يتعلق بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بالمخاطبين به لإدراك نعمة الله عليهم فى هذا التنزيل. فمما جاء فيه صفات المنزّل سبحانه قوله جل شأنه: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)[غافر].

وقوله سبحانه: حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2)[فصلت]. وقوله سبحانه:

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)[فصلت]. وقوله جل شأنه: حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)[الجاثية] وقوله تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)[الواقعة]، فالمنزل للقرآن سبحانه رب العالمين، هو الذى خلق، ورزق خلقه ورعاهم ورباهم، منحهم رزقه ووحيه، وهو العزيز الذى لا يغلب، والعليم بكل شىء، وبما يصلح خلقه، فأنزل لهم ما يأخذ بأيديهم فى كل شئونهم، وهو غافر الذنب والزلات، وقابل التوب، وهو شديد العقاب لمن كفر وخالف وطغى، إنه القوى الذى لا إله إلا هو، وهو الرحمن وهو الرحيم، وهو الحكيم والحميد. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)[الكهف].

وأما المنزل عليه فيذكر من صفاته ما جاء فى قوله جل شأنه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)[الشعراء]. فالذى نزل به أمين، على قلب الرسول الأمين، ليكون من المنذرين. وكذلك ما جاء فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136].

وجاء الوصف هنا بالرسالة ردا على التصورات الفاسدة فى استبعاد أن ينزل الله على بشر قال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ

ص: 34

مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الأنعام: 91].

وجاء كذلك قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1)[الفرقان]، فوصف بالعبودية لله فهو عبد الله وهو النذير للعالمين. وكذلك قوله جل شأنه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23]، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التنزيل باسمه فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2)[محمد].

كما ذكر مع التنزيل وصف للمنزل فقال تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105)[الإسراء] وقال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)[الزمر].

وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)[الحجر] وقال تعالى:

وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)[النحل] وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82)[الإسراء] وقال تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106)[الإسراء]، وقال جل شأنه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32)[الفرقان]، وقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)[الشورى]، وقال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)[التغابن]، وقال تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)[الأنعام]، وقال تبارك وتعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)[طه]، وقال جل شأنه:

وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)[الحج]، وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)[ص].

فهذه مجموعة من الصفات المتعلقة بالقرآن الكريم المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبالحق أنزله الله، ونزل وفيه الحق، وهو أحسن الحديث، وهو الذى يملأ قلوب قارئيه وسامعيه خشية من ربهم وسكينة وطمأنينة وهدى، وهو الذكر المحفوظ بوعد الله ليكون معطاء للعالمين إلى قيام الساعة، وهو التبيان لكل شىء بما فيه من أصول تعود إليها الأحكام فى كل شىء، وهو الرحمة والبشرى للمسلمين، وهو الشفاء للمؤمنين، وهو الذى أنزل مفرقا ليقرأه الرسول على الناس فى يسر وسهولة ليحسنوا فى تلقيه، وكذلك لتثبيت فؤاده، وهو النور الكاشف الهادى، وهو المبارك والمصدق لما بين يديه، وهو القرآن الذى نزل بلسان عربى مبين. ولقد نعم المؤمنون بهذه الصفات وغيرها

ص: 35

واستمتعوا بها فى كتاب الله وسعدوا بثمراتها.

وقد اختار الله لإنزال كتابه الوقت الذى جاء وصفه فى قوله تعالى: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)[الدخان] وفى قوله جل شأنه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)[القدر]. وفى قوله سبحانه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] فالليلة التى أنزل فيها القرآن الكريم ليلة مباركة، وهى ليلة القدر، وهى خير من ألف شهر، وهى فى شهر رمضان وهو الشهر الكريم المبارك.

إن هذا التنزيل الذى وصف معه المنزّل سبحانه بما عرفنا ووصف المنزّل عليه، ووصف المنزّل، شد انتباه المنزّل إليهم ليتدبروا هذا الذكر الذى فيه خيرهم، وفيه سعادتهم وشرفهم. فماذا جاء بشأن المنزل من أجلهم؟ وما مراحل تنزلات القرآن الكريم حتى وصل إلى قلب النبى صلى الله عليه وسلم؟

يقول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد: 16] وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ

عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً

(136)

[النساء]، وقال تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)[النساء]، وقال تعالى:

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)[الأنبياء]، وقال تعالى: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)[إبراهيم]، فالذين أنزل من أجلهم الكتاب عليهم أن يحسنوا فى تلقيه وذلك بالإيمان به إيمانا تخشع به القلوب لذكر الله وما نزل من الحق. وينطلق به المؤمن للعمل بهذا الكتاب الذى أنزل من أجله ليحل حلاله، ويحرم حرامه، وليقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، ويتعظ به سلوكه فى الإيمان باليوم الآخر وكل ما جاء فيه من أنباء الغيب.

والإنسان بهذا الإيمان وتلك الاستقامة يخرج بإذن الله من الظلمات إلى النور وكفى بذلك شرفا وتكريما لمن كان له عقل إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ

ص: 36

الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)[الإسراء].

ويتضح لنا من هذا العرض القرآنى الكريم للتنزيل وما يتعلق به كيف كانت مسيرة الوحى لهداية العالمين فى هذا النور، وفى الطريق الأمين حتى تنزل على قلب النبى صلى الله عليه وسلم؟ وكيف هيئت النفوس لاستقبال هذا النور والانتفاع به، وجنى ثمراته فى النفس والقلب والسلوك وشئون الحياة جميعا؟ فماذا بعد ذلك من تنزلات القرآن الكريم؟

إن المتأمل فى النصوص القرآنية السابقة يرى أن نزول القرآن الكريم عبر عنه فى آيات بقول الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)[القدر]، وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: 3] وكذلك قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] فيفهم من ذلك أن القرآن نزل كله فى الليلة المباركة وفى الشهر المبارك.

فإذا قرأنا قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ [الإسراء: 106] وكذلك قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] ثم واقع نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثة وعشرين عاما، دل ذلك على نزول القرآن الكريم على فترات، فكيف يكون التوجيه فى ذلك؟ إن الوقوف على تنزلات القرآن الكريم الثلاثة يبين لنا هذا.

التنزل الأول: إلى اللوح المحفوظ ودليل ذلك قوله جل شأنه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)[البروج]. واللوح المحفوظ هو السجل الجامع لكل ما قضى الله وقدّر وكل ما كان وما يكون من عوالم الإيجاد والتكوين، وهذا من مظاهر قدرة الله وعظمته وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته، وهذا يبعث على الرضا ويغرس السكينة فى مواجهة ما يصيب الإنسان، قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)[الحديد].

التنزل الثانى: إلى بيت العزة فى السماء الدنيا والذى جاء فيه قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان: 3] وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)[القدر] وقوله جل شأنه: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185]. وهذا التنزل بهذا المعنى يذهب التعارض بين النزول جملة والنزول على الرسول مفرقا، وقد جاءت الروايات بما يؤيد هذا الاتجاه فقد أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس

ص: 37

رضي الله عنهما أنه قال: فصل القرآن من الذكر فوضع فى بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل يتنزل به على النبى صلى الله عليه وسلم.

كما أخرج النسائى والحاكم والبيهقى من طريق داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك فى عشرين سنة، ثم قرأ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)[الفرقان]. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106)[الإسراء] وأخرج الحاكم والبيهقى وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضه فى إثر بعض.

فهذه أحاديث مما ذكره السيوطى- موقوفة على ابن عباس رضي الله عنهما. ولها حكم المرفوع إلى النبى صلى الله عليه وسلم لما هو معروف من أن قول الصحابى فيما لا مجال للرأى فيه، ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات له حكم المرفوع. ونزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التى لا تعرف إلا من المعصوم صلى الله عليه وسلم، وابن عباس رضي الله عنهما لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، وعلى ذلك يثبت الاحتجاج بهذه الروايات.

التنزل الثالث: وهو تنزل النور الذى أضاء الدنيا وأخرج الناس من ظلماتهم، والذى جاء فى قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)[الشعراء]. وهذا التنزل الثالث هو نزول القرآن فيه مفرقا ومنجما والذى سنتعرف- إن شاء الله- بعد ذلك على أول ما نزل وآخر ما نزل بعد مدارستنا لحكمة هذه التنزلات.

ص: 38