الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «التين»
ومع المعانى التى عالجتها سورة البروج تنزل بعدها سورة «التين» ، لتستمر فى بيان الموضوع نفسه مثيرة فى الإنسان جوانب التفكير فى شأن من سبق مع تعدد أماكنهم، وأنهم امتداد بشرى لهولاء السابقين، وأنهم جميعا تحت سلطان أحكم الحاكمين الذى لا يجور ولا يظلم أحدا، ومن عدله أن يقيم القيامة فينتصف للمظلوم فى الدنيا ممن ظلمه «1». وأنه سبحانه لا يجعل المحسنين كالمسيئين كما تنبه السورة الكريمة الإنسان إلى قيمته وكيف يحافظ عليها قال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. هكذا روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «فإذا قرأ أحدكم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فأتى على آخرها أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» .
فسورة التين مكية فى قول الجمهور ومنهم الحسن وعطاء وهو الصواب، ونزلت بعد سورة البروج- كما سبق- غير أن الماوردى حكى عن ابن عباس وقتادة أنها مدنية «2» .
وبدأت السورة الكريمة بالقسم بهذه الأشياء الثلاثة بالتين والزيتون وطور سينين يقول ابن كثير رحمه الله: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة بعث الله فى كل واحد منها نبيّا مرسلا من أولى العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول: محله التين والزيتون وهى بيت المقدس التى بعث الله فيها عيسى ابن مريم عليه السلام والثانى: طور سينين وهو طور سيناء الذى كلّم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام والثالث: مكة وهو البلد الأمين الذى من دخله كان آمنا وهو الذى أرسل فيه محمدا صلى الله عليه وسلم «3» .
فهذا المعنى يؤكد ما سبق ذكره فى سورة البروج من أخذ الاعتبار عن شواهد التاريخ حتى لا يقع فى ظلم نفسه وظلم غيره، وحتى يكون من فريق المؤمنين الصالحين.
(1) ابن كثير 4/ 527.
(2)
زاد المسير 9/ 168، والقرطبى 20/ 110.
(3)
ابن كثير 4/ 526.
إن السورة الكريمة تنبه الإنسان إلى قيمة نفسه، وما جعله الله عليه من تكريم، ليعرف قدره وليحافظ على هذا التكريم بالمنهج الذى ذكرته السورة والذى فصل فى السور السابقة واللاحقة من الإيمان الصحيح والعمل الصالح وما يتفرع عنهما، فمنذ الآية الأولى فى التنزيل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2)[العلق] والآيات القرآنية تعرف الإنسان بحقيقة نفسه ومقوّمات وجوده، وكيف يسعد فى مصيره وتفصيل القول فى الجوانب المتعلقة بالإنسان حتى يصبح الإنسان عارفا بما ينبغى أن يعلم من أمر نفسه قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21)[الذاريات] وقال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] وعلى ذلك فإن الإنسان كما جاء فى كتاب الله تعالى: هو هذا المخلوق الذى خلقه الله بيده وهذا شرف للإنسان الأول أبى البشر آدم عليه السلام بهذا التخصص فى الخلق فقال الله تعالى: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] وهذا تشريف وتكريم لمن استقام من ذريته. ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله فى أحسن تقويم، وفى أجمل صورة ركّبه.
وهو المخلوق المكلّف، وهذا التكليف بنى على ما منح الله الإنسان من ملكات، ومن القدرة على الاختيار وعلى المشيئة، وهو الإنسان المسئول عن عمله والمجزىّ به على الإحسان إحسانا، وعلى الإساءة عقوبة، وهو بهذا التكليف والوفاء به والقيام بواجب المسئولية استحق الخلافة فى الأرض والقيام بشئونها يوجّهه وحى الله وهديه وهو الإنسان المكرم والمفضل على كثير مما خلق الله، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70)[الإسراء] ولكنّ هذا التكريم- مرتبط بمدى استجابة الإنسان لوحى ربه وامتثاله لأمره ونهيه، فإذا كان لله طائعا ظل فى دائرة التكريم، وإن أعرض وتولى خرج من التكريم إلى دوائر أخرى مهينة، وقد خرج القرآن الكريم بذلك وأعطى نماذج تدل عليه، ومن هذا قوله تعالى: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)[العصر] ومنها ما فى هذه السورة الكريمة من قوله تعالى:
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6).
كما يقدم القرآن الكريم- لنا- نماذج بشرية آتاها الله الآيات فأعرضت عنها، ولم تنتفع بها فشبّهت بحيوانات مهينة كما جاء فى قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف] كما أن فى التعبير عن هذه الحالة بالانسلاخ دلالة على أن الاستجابة للآيات تجمّل الإنسان وتجعله فى موضع الكرامة، والإعراض عنها يقبّحه، كما يكون جميلا بجلده الحسن، قبيحا وهو مسلوخ، ومنظره تشمئز منه النفس.
كما يعرض لنا القرآن الكريم نماذج أخرى عطلت القلوب فلم تعقل بها وعطلت الآذان فلم تسمع بها الحق، وعطلت العيون فلم تبصر بها فقال عنهم: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179].
وكذلك مثل من أوتى العلم النافع فلم يستجب له شبّه بالحمار يحمل أسفارا وعلى ذلك نقول: إن بقاء الإنسان فى دائرة التكريم مرتبط باستجابته لوحى ربّه.
ومن مظاهر هذا التكريم فى السورة الكريمة أيضا أن تكتب لهم حسناتهم وتمحى عنهم سيئاتهم قال ابن عباس رضي الله عنهما: وهم الذين أدركهم الكبر لا يؤاخذون بما عملوه فى كبرهم. وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد فى شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضعف عما كان يعمل فى شبابه أجرى الله عز وجل له ما كان يعمل فى شبابه وفى حديث قال النبى صلى الله عليه وسلم:«إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» ، وقيل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنه لا يخرف ولا يهرم ولا يذهب عقل من كان عالما عاملا به، وعن عاصم عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر». فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) أى غير مقطوع أى يستمر الأجر بغير عمل بعد أن يصل المؤمن الصالح إلى الكبر.