المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة «القلم» ونتدبر روضة ثانية من روضات القرآن الكريم، مع السورة - تاريخ نزول القرآن

[محمد رأفت سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التعريف بالوحى

- ‌صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌رؤية النبى صلى الله عليه وسلم للملك

- ‌صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل

- ‌النفث فى الرّوع

- ‌كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌صلصلة الجرس:

- ‌ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج

- ‌تنزلات القرآن الكريم

- ‌الحكمة من هذه التنزلات

- ‌حاجة الأمة للنزول المفرق

- ‌نقل الناس من الضلال إلى الهدى

- ‌أول ما نزل من القرآن

- ‌ترتيب الآيات القرآنية

- ‌دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف)

- ‌ترتيب السور القرآنية

- ‌ليلة نزول القرآن الكريم

- ‌تفصيل ما تضمنته سورة العلق

- ‌سورة «القلم»

- ‌سورة «المزمل»

- ‌سورة «المدثر»

- ‌سورة «الفاتحة»

- ‌سورة «المسد»

- ‌سورة «التكوير»

- ‌سورة «الأعلى»

- ‌سورة «الليل»

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «الضحى»

- ‌سورة «الشرح»

- ‌سورة «العصر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌سورة «الكوثر»

- ‌سورة «التكاثر»

- ‌سورة «الماعون»

- ‌سورة «الكافرون»

- ‌سورة «الفيل»

- ‌سورة «الفلق» و «الناس»

- ‌سورة «الإخلاص»

- ‌سورة «النجم»

- ‌سورة «عبس»

- ‌سورة «القدر»

- ‌سورة «الشمس»

- ‌سورة «البروج»

- ‌سورة «التين»

- ‌سورة «قريش»

- ‌سورة «القارعة»

- ‌سورة «القيامة»

- ‌سورة «الهمزة»

- ‌سورة «المرسلات»

- ‌سورة «ق»

- ‌سورة «البلد»

- ‌سورة «الطارق»

- ‌سورة «القمر»

- ‌سورة «ص»

- ‌سورة «الأعراف»

- ‌سورة «الجن»

- ‌سورة «يس»

- ‌سورة «الفرقان»

- ‌سورة «فاطر»

- ‌سورة «مريم»

- ‌سورة «طه»

- ‌سورة «الواقعة»

- ‌سورة «الشعراء»

- ‌سورة «النمل»

الفصل: ‌ ‌سورة «القلم» ونتدبر روضة ثانية من روضات القرآن الكريم، مع السورة

‌سورة «القلم»

ونتدبر روضة ثانية من روضات القرآن الكريم، مع السورة الثانية من سور التنزيل والتى تلا سورة العلق وهى سورة «ن» أو «القلم» ، والسورة كلها مكية فى قول الحسن وعكرمة وجابر «1» ، وأما ابن عباس وقتادة فيذهبان إلى التفصيل فى ذلك فيذكران أن فى السورة آيات مكية وآيات مدنية؛ فمن أولها إلى قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) مكى، ومن قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إلى قوله تعالى:

كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) مدنى، ومن قوله تعالى:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) إلى قوله تعالى: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)[القلم] مدنى، وما بقى مكى «1» .

وأخرج ابن أبى حاتم: أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذا فاربطوهم فى الحبال، ولا تقتلوا منهم أحدا، فنزلت: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [القلم: 17]«3» . وهذا ما دعا إلى التفضيل فى مكيّها ومدنيها من الآيات الكريمة، إلا أن التأمل فى مضمون هذه السورة الكريمة يرجح أنها نزلت دفعة واحدة، أو نزلت على دفعات متتابعة بعد سورة العلق على التفصيل الذى ذكر سابقا فى سورة العلق. فبعد إرساء مجموعة من المبادئ فى السورة الأولى، وبعد استماع الناس لها، وبعد رؤيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى ونهى أبى جهل له، وبعد الدعوة إلى التأمل والتعلم لبناء النفس والمجتمع يأتي التنزيل الحكيم بهذه السورة الكريمة التى تدور حول محور «هو وهم» الداعى والمدعو، رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وتبدأ بهذا القسم الذى استوقف ابن القيم، ووفق فى الربط بينه وبين مضمون سورة العلق، حيث وجدنا من المبادئ التى أرساها مبدأ القراءة والتعلم بالقلم لنجد التنويه بأداة التعلم قراءة وكتابة فى سورة «القلم» ، فيقول الله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) يقول ابن القيم: الصحيح أن «ن» و «ق» و «ص» من حروف الهجاء

(1) القرطبى 18/ 222.

(3)

لباب النفوس ص 219.

ص: 88

التى يفتتح بها الرب سبحانه بعض السور، وهى أحادية وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ولم تجاوز الخمسة، ولم تذكر قط فى أول سورة إلا وأعقبها بذكر القرآن؛ إما مقسما به وإما مخبرا عنه، ما خلا سورتين سورة «كهيعص» ، و «ن» .

كقوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة]، وقوله جل شأنه: الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران]، وقوله تعالى: المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف]، وقوله تعالى: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ [الرعد: 1]، وهكذا ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف، وعظم قدرها وجلالتها إذ هى مبانى كلامه وكتبه التى تكلم سبحانه بها، وأنزلها على رسله، وهدى بها عباده وعرفهم بواسطتها نفسه وأسماءه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه ووعيده ووعده، وعرفهم بها الخير والشر، والحسن والقبيح، وأقدرهم على التكلم بها بحيث يبلغون بها أقصى ما فى أنفسهم بأسهل طريق وأقل كلفة ومشقة، وأوصله إلى المقصود وأدله عليه، وهذا من أعظم نعمه عليهم، كما هو من أعظم آياته، ولهذا عاب سبحانه على من عبد إلها لا يتكلم، وامتنّ على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم فكان فى ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته، وكمال إحسانه وإنعامه، فهى أولى أن يقسم بها من الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والنجوم وغيرها من المخلوقات، فهى دالة أظهر دلالة على وحدانيته وقدرته وحكمته وكماله وكلامه وصدق رسله.

وقد جمع سبحانه بين الأمرين- أعنى القرآن ونطق اللسان- وجعل تعليمها من تمام نعمته وامتنانه كما قال تعالى: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)[الرحمن] فبهذه الحروف علم القرآن، وبها علم البيان، وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان، وبها أنزل كتبه، وبها أرسل رسله، وبها جمعت العلوم وحفظت، وبها انتظمت مصالح العباد فى المعاش والمعاد، وبها يتميز الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، وبها جمعت أشتات العلوم، وبها أمكن تنقلها فى الأذهان، وكم جلب بها من نعمة ودفع بها من نقمة، وأقيلت بها من عثرة، وأقيمت بها من حرمة، وهدى بها من ضلالة، وأقيم بها من حق وهدم بها من باطل، فآياته سبحانه فى تعليم البيان كآياته فى خلق الإنسان، ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل فى لحم ولا عصب. فسبحان من هذا صنعه فى هواء يخرج من قصبة الرئة فينغم فى الحلقوم، وينغرس فى أقصى الحلق، ووسطه وآخره وأعلاه وأسفله، وعلى وسط

ص: 89

اللسان وأطرافه، وبين الثنايا، وفى الشفتين والخيشوم، فيسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له فإذا هو حرف، فألهم سبحانه الإنسان بضم بعضها إلى بعض، فإذا هى كلمات قائمة بأنفسها، ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض فإذا هى كلام دال على أنواع المعانى أمرا ونهيا، وخبرا واستخبارا ونفيا وإثباتا، وإقرارا وإنكارا، وتصديقا وتكذيبا، وإيجابا واستحبابا، وسؤالا وجوابا إلى غير ذلك من أنواع الخطاب؛ نظمه ونثره وموجزه ومطوله على اختلاف لغات الخلائق، كل ذلك صنعته- تبارك وتعالى فى هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره، فى مجار قد هيئت وأعدت لتقطيعه وتفصيله، ثم تأليفه

وتوصيله، فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين «1» .

ومن تأمّل الإمام ابن القيم فى شأن الحرف المخلوق، وافتتاح السورة به، تدرك كيف تكون بدايات التنزيل تحريكا للعقول البشرية؛ لتفكر وتتأمل وتنظر وتتعلم، فالسورة الأولى بدئت بقوله تعالى: اقْرَأْ [العلق: 1]، ووجهت إلى التعليم، والسورة الثانية يذكر فى بدايتها مع صيغة قسم ما يذكر بالحروف وأداة الكتابة والتعلم.

ويأتى القسم الكريم، والذى يذكر بالحروف التى هى أوعية المعانى وأبنيتها، وبالقلم الذى هو أداة العلم وتسطيره، ليؤكد هذا القسم على أهمية العلم الذى ذكره فى السورة الأولى، وتأتى الآية الكريمة التالية؛ لتستنبط منها كيف أن الناس قد خاضوا فى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن بعضهم رماه بالجنون، وهذا يدل على أن حديث الوحى وما نزل من القرآن قد شاع بين الناس وانقسموا تجاهه بين مؤمن وكافر، وأن الكافرين قد سلكوا مسلك التحدى والعناد والمواجهة، ومن صور ذلك الخوض فى هذه الشخصية الكريمة التى صيغت على عين الله تبارك وتعالى وبفضله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى (8)[الضحى]. فقالوا عنه:

«مجنون» فهل يعدون الخروج على باطلهم جنونا؟ وهل يعدون الذكر المنزل، والذى يحملهم ويشجعهم على الفكر والتعلم جنونا؟، وهل يعدون إنقاذه لهم من الضلال المبين الذى شمل عقائدهم وتصوراتهم وسلوكهم جنونا؟. إنّ الله يقسم ليسمعوا وليعلموا ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)[القلم].

(1) التبيان فى أقسام القرآن ص 126 - 128.

ص: 90

فهذا هو رسول الله المبرأ من محاولات تشويه أعدائه والذى أعطاه الله أجرا غير مقطوع لصبره عليهم، وشهد له بأنه على خلق عظيم.

أما هم فستعلم ويعلمون من الذى به جنون. إنهم هم الذين فتنوا بالجنون وهم الذين ضلوا عن سبيل الله، وهم الذين كذبوا، وهم الذين يودون أن تركن إليهم، وأن تداهنهم على باطلهم. ومنهم الحلاف المهين، والعياب المغتاب، والساعى بالإفساد بين الناس. ومنهم المناع للخير، والبخيل بالمال عن الحقوق، والظالم الآثم، والغليظ الجافى، والدعى فى قريش على ماله الكثير وعلى البنين. إذا تليت عليهم آيات الله نسبها إلي أباطيل الأولين.

تذكر السورة الكريمة هذا لبيان الحالين فيقول تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)[القلم].

وذكر ما كان من حال المشركين فى بداية الدعوة مناكبة لطريقها إلى الناس، وتعليما للدعاة فى كل عصر أن الأمر لا يقابل بالتسليم المطلق من الجميع، بل يوجد من يقبل عليها طائعا، ومن يرفضها، بل ومن يواجهها مواجهة المحارب العنيد، كما أن سورة القلم فى هذه الآيات الكريمة تحذر من صفات يعيش عليها المشركون، وتدعو إلى التطهر منها، وعدم الوقوع فيها، والتشبه بالمشركين فى التخلق بها وهى أخلاق ذميمة؛ منها ما يتصل بعقيدة الإنسان، ومنها ما يتصل بشخصه ومنها ما يتصل بعلاقاته الاجتماعية وسلوكه العام.

وإذا انتقلنا إلى الآيات الكريمة التى نزلت بعد ذلك فى السورة نفسها وتركنا قليلا ما ذكر من أنه مدنى والذى يتمثل فى امتحان أهل مكة إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [القلم: 17] نجد أن المعنى ينتقل من بيان وصف المشركين ووعيدهم إلى الحديث عن صفة المؤمنين، وبيان قيم جديدة تستحق الاهتمام والعناية فيقول تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)[القلم] فالقيمة الجديدة والتى سبق لها ذكر فى السورة الأولى هى قيمة

ص: 91

التقوى فقال تعالى فى سورة العلق: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12)[العلق] وفى سورة القلم- هنا- بيان لمن اتصف وتخلق بها، وما أعد الله لهم من جنات النعيم.

ويوضع من تخلق بالقيم الجديدة التى جاء بها الإسلام فى كفة ميزان، ومن أجرم فى حق نفسه وفى حق غيره فى كفة أخرى، فهل يستوى من أسلم مع من أجرم؟.

قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: قالت كفار مكة: إنا نعطى فى الآخرة خيرا مما تعطون فنزلت: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)، ثم وبخهم فقال: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)[القلم] هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم أن لكم من الخير ما للمسلمين، أم لكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصى، وزاد فى التوبيخ فقال: أم لكم عهود ومواثيق مؤكدة علينا أن يدخلكم الله الجنة وليس الأمر كذلك، وسل يا محمد هؤلاء المتقولين على الله أيهم كفيل بما ذكر، وأيهم قائم بالحجة والدعوى. أم أن لهم شركاء يشهدون على ما زعموا إن كانوا صادقين في دعواهم فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم «1» .

يقول الله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ

[القلم].

وفى هذه الآيات المنزلة فى السورة الثانية إرساء لعقلية جديدة ناجحة ينبغى أن تنظر فى الأمور وأن تزن الأعمال والمواقف، وأن تلزم فى نظرتها الحجة والبرهان، وليس التخير بالهوى وإلا تسلك سبيل الادعاء.

وتستمر الآيات الكريمة المنزلة فى السورة الثانية فى تقديم الضوابط للسلوك الإنسانى حتى يستقيم وينهض من اعوجاجه، فتذكر باليوم الآخر الذى سبق ذكره فى السورة الأولى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) [العلق] ولكن هنا فى السورة الثانية يقول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً

(1) الجامع لأحكام القرآن 18/ 236، 237.

ص: 92

أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)[القلم].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو يوم القيامة يوم كرب وشدة «1» . وهذه الآية من بدايات البيان والتفصيل لهول يوم القيامة، وما يحدث للناس فيه، تقرع به الآذان لتستيقظ من غفلتها، ولتثوب إلى رشدها، ولتكون على يقين الرجعى إلى الله، فينضبط سلوكها فى الحياة. فعن أبى بردة عن أبى موسى قال: حدثنى أبى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة مثل لكل قوم ما كانوا يعبدون فى الدنيا فيذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويبقى أهل التوحيد، فيقال لهم: ما تنتظرون وقد ذهب الناس، فيقولون: إن لنا ربا كنا نعبده فى الدنيا ولم نره، قال: وتعرفونه إذا رأيتموه فيقولون: نعم، فيقال: فكيف تعرفونه ولم تروه، قالوا: إنه لا شبيه له فيكشف لهم الحجاب، فينظرون إلى الله تعالى، فيخرون له سجدا، وتبقى أقوام ظهورهم مثل صياصى البقر (يعنى قرونها) فينظرون إلى الله تعالى فيريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) «2» .

ويأتى التنبيه للربط بين العمل فى الدنيا والجزاء فى الآخرة على هذا العمل فى هذا المشهد الذى يدعى فيه هؤلاء إلى السجود فى هذا اليوم الشديد فلا يستطيعون، فإنهم كانوا يدعون فى الدنيا- وهى دار الأعمال- إلى هذا السجود فلم يستجيبوا من أجل هذا ذلت أبصارهم وذل حالهم فى الدار الآخرة.

وتنتقل الآيات الكريمة لتضع أمام الناس سنة من سنن الله مع خلقه ممن كذب بهذا الحديث، إنها سنة الاستدراج وهى الأخذ قليلا قليلا من حيث لا يعلمون، فلا يستعجلون وكذلك من سنته سبحانه أن يملى لهم فلا يعاجلهم بل يعطيهم ويمهلهم حتى إذا أخذهم كان أخذ عزيز مقتدر. يقول الله تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو يرى موقف من كذب بالوحى المنزل: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45). أى إن عذابى لقوى شديد فلا يفوتنى أحد.

وتستمر الآيات الكريمة فى بيان شأن المشركين المعرضين عن الوحى، والمعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتتساءل هل تثاقلهم عن الاستجابة نتيجة لطلبك منهم أجرا على ما تقدم

(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/ 407.

(2)

الجامع لأحكام القرآن 18/ 249، 250.

ص: 93

لهم من خير؟ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46). وفى هذا قطع للعوائق فليس رسول الله طالبا للأجر منهم بل هو الذى يبذل من نفسه وماله جهادا فى توصيل الخير إليهم فليطمئنوا إلى ذلك. أم أن هؤلاء ينزل عليهم وحى مما يقولون يخاصمونك به، وأنهم أفضل منكم، وأنهم لا يعاقبون، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون؟ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47).

فإذا ما انتقلنا إلى الآية الواحدة والخمسين من سورة القلم وتركنا ما قبلها مما ذكر أنه مدنى، رأينا الآية الكريمة تخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشدة عداوة الكافرين له، ومحاولتهم إصابته بعيونهم الحاقدة الحاسدة لما سمعوا النبى يقرأ القرآن، ونسبوه إلى الجنون.

وهكذا تأتى خاتمة السورة لتذكر بأولها فى تناسق بديع، وترابط قوى، ففي أولها القسم: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)، وفى ختامها وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52). فالقرآن الكريم ذكر للعالمين، والمنزل عليه القرآن ذكر للعالمين يتذكرونه به «1» ، وقيل: معناه شرف أى القرآن كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44]، والنبى صلى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضا شرفوا باتباعه والإيمان به صلى الله عليه وسلم.

وأما ما ذكر من أنه مدنى فى آيات السورة الكريمة فإنه يتطابق مع محور السورة الكريمة فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم والحديث عن المشركين.

وهذه الآيات هى قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)

وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ

(33)

.

فالصلة بين حديث الآيات السابقة عن المشركين، وهذه الآيات قوية لدرجة ترجح

(1) الجامع لأحكام القرآن 18/ 256.

ص: 94

نزول هذه الآيات جميعا دفعة واحدة، فالمراد بالابتلاء هنا أهل مكة، والمعنى:

أعطيناهم أموالا ليشكروا لا ليبطروا فلما بطروا وعادوا محمدا صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أهل الجنة المعروف خبرها عندهم.

وأما الآيات الأخرى والتى يذكر أنها مدنية فى السورة فقوله تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50).

وفى هذه الآيات تدعيم لشخصية النبى صلى الله عليه وسلم وتقويتها بالصبر فى مواجهة كيد المشركين؛ وذلك بتقديم صور من النماذج السابقة لطلب الفائدة منها، وهذا التدعيم سنراه جليا ومتتابعا بعد ذلك، ومنه ما جاء فى الآيات التى تلت آيات سورة القلم فى السورة الثالثة وهى سورة «المزمل» .

ص: 95