الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «النجم»
نزلت بعد سورة الإخلاص لتجلى حقيقة النبوة والرسالة ولتخلص المفاهيم من الباطل الذى شابها لدى المشركين، ولتطمئن النفوس إلى مسيرة الوحى المبارك من الله جل فى علاه إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فالسورة مكية كلها فى قول الحسين وعكرمة وعطاء وجابر. واستثنى ابن عباس وقتادة آية منها مدنية وهى قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32).
وقيل إن السورة كلها مدنية. ويقول القرطبى: والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هى أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. وفى «البخارى» عن ابن عباس:
أن النبى صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس، وعن عبد الله أن النبى صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقى أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفّا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفينى هذا.
قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا. متفق عليه، وهذا الرجل يقال إنه أمية بن خلف «1» وقيل: إنه عتبة بن ربيعة «2» .
وتبدأ سورة النجم بهذا القسم الذى يقرع الأسماع لتكون على يقين من الحقائق التى ستبسط فى السورة الكريمة والتى تتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به وكيف وصل إليه وحى ربه، ومكاشفة الناس بما لهم مع وحى الله وتبصيرهم بمواقف غيرهم مع وحى الله. وتأتى هذه الحقائق بعد مدة من الزمن سمع فيها الناس وحى الله، واشتد عناد المعاندين وشرح الله صدور المهتدين فأذعنوا لله مسلمين يقول الله تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4). فهذه هى الحقيقة الأولى التى تؤكدها السورة الكريمة أمام الناس والتى تبدأ بلفت النظر إلى النجم وهويّه، والنجم وحركته مشاهد للناس لا ينكرون فى تزيينه للسماء، ولا ينكرونه فى ضوئه ونوره، ولا ينكرون ضوء النهار فى إقباله بعد
(1) القرطبى 17/ 81.
(2)
ابن كثير 4/ 246.
سقوط النجم فى الأفق فى آخر الليل عند إدباره. والذى أبدع هذه الآيات الكونية المشاهدة هو الذى أرسل صاحبكم إليكم، وهو الذى اختاره، وهو الذى حفظه من الضلالة والغواية. وأنتم قد عايشتموه أربعين عاما قبل أن يوحى إليه وصحبتموه فيها صحبة قريبة عرفتم فيها صفاته ولقبتموه بالصادق الأمين وكلمتموه فى معضلات أموركم، وعرف فيكم بصفات الإنسان الكامل فلا يليق بعد أن جاءكم برسالة ربه إليكم أن تغالطوا أنفسكم وأن ترموه بالضلال والغواية وهذه شهادة الله فيه مصحوبة بهذا القسم
الكريم ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن هوى نفسه. ولا يتبع إلا ما أوحى إليه وما تسمعونه منه فيما يخبركم به عن الله تعالى وعن شرعه فإنه من وحي الله إليه.
فهذه هى المسألة الأولى والأساسية والتى يؤسس عليها الدين كله، إنها التصديق بالوحى فالذى يؤمن بالوحى يؤمن بما يتبعه. والذى يكذب بالوحى فقد هدم أساس الرسالة ولا يرجى منه بعد ذلك خير.
المسألة الثانية: والتى ترتّب على التصديق بالوحى. الاطمئنان على مسيرته من الله سبحانه إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فتذكر سورة النجم فى هذه المسألة قوله تعالى:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى. فالذى يحمل إليه وحى الله وصف بالقوة، وهذا يطمئن من أن الشياطين وغيرهم لا يستطيعون سلب ما معه من علم، ولا يستطيعون التأثير عليه لتغيير ما يؤمرون به، فجبريل الأمين شديد القوى. وقد أيقن الرسول من رؤيته بحالته التى خلقه الله عليها فى أول نزول الوحى بحراء، فقد دنا منه فكان فى قربه منه قدر قوسين أو أقرب من القوسين. فليس جبريل بعيدا عنه إنه عرف صورته وعرف صوته وعرف قوته وأمانته. وما يعلمه جبريل الأمين القوى الذى لا يخون والذى لا يجرؤ عليه أحد يجد هذا العلم سبيله إلى فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم أى فى أهم ما يحمل الإنسان وأهم ما يميز الإنسان فى القلب، فاتفق فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحى الذى أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وبصره وقلبه، وهذا دليل على كمال الوحى الذى أوحاه الله إليه،
وأن مسيرة الوحى لا شك فيها ولا شبهة «1» . وأنه لا يحق لأحد أن يشك فى ذلك.
المسألة الثانية فى السورة الكريمة: التأكيد على طريق المعرفة الغيبية التى خص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يغيب عن الناس علمه، ولا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق إخبار الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت السورة نماذج من ذلك يتضافر فيها علم الغيب مع ما يشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجبريل عليه السلام الذى رآه بالأفق الأعلى رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى. ومعرفته بما يخبره الله من الغيب يقينية كالمشاهدة تماما.
فالذى يحمل الوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين صفتى الأمانة والقوة فهو أمين لا يخون ولا يغير ولا يبدل وقوي لا يجرؤ أحد من استلاب شىء منه عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (10) وبهذا ينتفى الشك ويتأكد الاطمئنان ويثبت اليقين. وجبريل عليه السلام الذى رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صورته وسمع صوته، فى غار حراء قد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى، وهنا تعرض السورة مسألة أخرى ينبغى أن يحيط الناس علما بها وهى أن ما يتعلق بالغيب الذى لا يشاهدونه، فلا سبيل لهم إلى معرفته إلا عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله سبحانه يطلعه على ما شاء، ويريه من آياته ما يشاء، وقد عرفوا صدقه هو- أيضا- وأمانته فينبغى أن تفتح له العقول والقلوب؛ لتستقى منه علوم الغيب التى يطلعه الله عليها ويخبره بها.
وذكر المرة الثانية التى رأى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فى قوله تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) ترجح ما ذكره جماعة من العلماء من أن الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بأعوام لأن الآيات الكريمة- هنا- تذكر رؤية النبى صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام نزلة أخرى عند سدرة المنتهى أى أنه قد وقع، وتأتى سورة الإسراء بعد ذلك بعد ست وعشرين سورة كريمة لتذكرنا بالإسراء، وسورة الإسراء مكية إلا بعض الآيات وسنذكرها- إن شاء الله- فى حينها- وقد حكى القرطبى الاختلاف فى تاريخ الإسراء فقال: وقد اختلف العلماء فى ذلك- أيضا- واختلف فى ذلك على ابن
(1) تفسير السعدى 7/ 205.
شهاب؛ فروى عنه موسى بن عقبة أنه أسرى به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وروى عنه يونس عن عروة عن عائشة قالت: توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة. قال ابن شهاب: وذلك بعد مبعث النبى صلى الله عليه وسلم بسبعة أعوام. وروى عنه الوقّاحيّ قال: أسرى به بعد مبعثه بخمس سنين. قال ابن شهاب: وفرض الصيام بالمدينة قبل بدر، وفرضت الزكاة والحج بالمدينة، وحرّمت الخمر بعد أحد. وقال ابن إسحاق: أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس، وقد فشا الإسلام بمكة فى القبائل، وروى عنه يونس بن بكير قال: صلّت خديجة مع النبى صلى الله عليه وسلم «1» . وقول يونس بن بكير هذا عن قول ابن إسحاق: ثم إن جبريل عليه السلام أتى النبى صلى الله عليه وسلم حين فرضت عليه الصلاة يعنى فى الإسراء فهمز له بعقبه فى ناحية وجهه واستنشق وتمضمض ومسح برأسه وأذنيه ورجليه إلى الكعبين ونضح فرجه، ثم قام يصلى ركعتين بأربع سجدات، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقر الله عينه وطابت نفسه وجاءه ما يحب من أمر الله تعالى، فأخذ بيد خديجة ثم أتى بها العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة، ثم كان هو وخديجة يصليان سواء «2» .
قال أبو عمر: وهذا يدلك على أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة قد توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بثلاث وقيل بأربع، وقول ابن إسحاق مخالف لقول ابن شهاب، على أن ابن شهاب قد اختلف عنه كما تقدم. وقال الحربى: أسرى به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة، وقال أبو بكر: محمد بن
على بن القاسم الذهبى فى تاريخه: أسرى به من مكة إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا. قال أبو عمر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال ما حكاه الذهبى، ولم يسند قوله إلى أحد ممن يضاف إليه هذا العلم منهم، ولا رفعه إلى من يحتج به عليهم «3» .
وعلى كل حال فإن ذكر رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل نزلة أخرى عند سدرة المنتهى تدل على أن الإسراء والمعراج كان قد تم قبل نزول سورة النجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وارتباط المعراج بالإسراء جلىّ فيما ساقه الأئمة من أحاديث صحيحة «4» .
(1) القرطبى 10/ 210.
(2)
المرجع السابق 10/ 210، 211.
(3)
المرجع السابق 10/ 210.
(4)
انظر: صحيح مسلم 1/ 99 - 104.
لقد عرضت سورة النجم مسائل أساسية لا بدّ منها فى مخاطبة المدعوين: منها الاطمئنان إلى أساس الدين كله والتمثل فى الوحى، والاطمئنان على مسيرة الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم وتزكية النبى صلى الله عليه وسلم وأنه الأمين فى تبليغ الناس وتعريفهم بحقائق الغيب التى يطلعه الله عليها ويأمره بتبليغها. وإذا تم هذا البسط تخاطب السورة الكريمة الناس فيما وقعوا فيه من ضلال نتيجة عدم الإقبال على وحى الله، وأخذ المعرفة الصحيحة عنه وتصحيح المفاهيم منه، والتحرر من الظن وما تهواه الأنفس مما يخالف الحق فيقول الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى.
ثم تعرض السورة الكريمة لمسألة نفسية عظيمة تحسم للإنسان تطلعاته التى تتبعه أحيانا لتربط هذه التطلعات بقضاء الله وقدره وأن مشيئة الإنسان ورغباته لا سبيل إلى تحقيقها إلا بمشيئة الخالق جل جلاله. فلتكن الأمنيات- إذن- كريمة، ولتكن التطلعات صالحة، وليكن هوى الإنسان على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا يخاطب به الإنسان فى حدود أمانيه، وقدراته، ويخاطب به كذلك فى حدود محاولة الإنسان التعلق بغيره لتحقيق رغباته يقول الله تعالى: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26).
وتكاشف السورة الكريمة الناس بجرأتهم على عالم الغيب والقول فيه بالظن، والظن لا يغنى فى هذا المجال شيئا. بل سبيله- كما ذكرنا- الوحى وحده، والإخبار الذى يأتيهم عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28).
فكيف يعتقد هؤلاء المشركون أن الملائكة إناث ويزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عن قولهم هذا. فمن الذى أخبرهم بهذا؟ وهل شهدوا خلق الملائكة.
إنها قضية لا تقتصر على تسمية الملائكة، ولا تقتصر على وصف الله سبحانه بما لا يليق بجلاله، وإنما القضية فى منهجهم الخاطئ فى اقتحام عالم الغيب، والخوض فيه بغير علم والسير فيه بالظن والظن لا يغنى من الحق شيئا. وماذا يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المتبعين لأهوائهم، والذين فسدت مناهجهم وتولوا وأعرضوا عن الوحى وتعلقوا بدنياهم وساروا على ظنهم؟!!. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنه هذا؛ لأنه حريص على
هداية الناس، وإنقاذهم من ضلالهم وحريص على نجاتهم، ولتخفيف هذه المعاناة وهذا الحزن تأتى المعالجة الكريمة والخطاب الرحيم والرفيق بالنبى صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى به فى دعوته فى قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30).
ولتطمئن قلوب المستجيبين لوحى الله وأن استجابتهم لها جزاؤها عند الله، وليعان هؤلاء المعرضون على التخلص من إعراضهم والتفكير للخروج من حالهم يأتى قول الحق تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) والآية التى تلا هذه الآية مدنية. وترتيبها في السورة الكريمة فى بيان وصف هؤلاء الذين أحسنوا. إنهم استقاموا بحسن استجابتهم، وسلم سلوكهم فاجتنبوا كبائر الذنوب ونالوا فضل الله فى جبر ضعفهم لما يقع منهم من اللمم قال تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32).
وبعد هذه الآية المدنية تأتى بقية الآيات المكية لتخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم فى أمر المعرضين ولتبين لهم أنواعا من علم الغيب منه ما يتعلق بغيب مضى وانكشف وفيه العبرة، ومنه ما يتعلق بغيب يرون آثاره فى سنن الله الكونية والاجتماعية والنفسية، ومنه ما يتعلق بالمستقبل الذى هم إليه صائرون. قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ
لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ»
(58)
.
وبعد هذا البسط القرآنىّ الكريم لهذه الحقائق تختم السورة الكريمة بتساؤل عن طريقة استقبالهم لهذا الحديث، وغفلتهم عنه وما ينبغى أن يكون: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62).