الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «القدر»
وبعد هذا البيان فى سورة عبس والذى تضمن وصف الذكر الحكيم الذى فيه هداية الناس، وأن من شاء ذكره فى صحف مكرمة بأيدى سفرة كرام بررة. يأتى مزيد من البيان للناس فى جلالة القرآن عند الله تعالى، وقدر الزمن الذى شرف بنزول القرآن فيه فى سورة القدر التى نزلت بعد سورة عبس: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5).
فسورة القدر سورة مكية كما روى ذلك أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الماوردى: إنه قول الأكثرين كما ذكر ابن الجوزى رحمه الله. وهو الصواب أى أن سورة القدر نزلت بعد سورة عبس. وأما الضحاك ومقاتل فيقولان: إنها مدنية، وذكر الواقدى أنها أول سورة نزلت بالمدينة، وقال الثعلبى: إنه قول الأكثرين «1» ولكنّ الأرجح هو القول الأول وهذا- أيضا- ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة، وتبين للناس قدر ما نزل إليهم فهو كما وصف فى السورة التى سبقت فى صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة، إنه كتاب ذو قدر أنزل على رسول ذى قدر، على أمة ذات قدر فى ليلة مباركة ذات قدر ينزل فيها ملائكة ذوو قدر «2» . هذا على معنى أن القدر يعنى العظمة، قال ذلك الزهرى ويشهد له قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] وما قيل فى معنى القدر من المعانى الأخرى فإنه لا يخرج عن دائرة العظمة والشرف فقد قيل: إنه من الضيق ويفسر الضيق- هنا- بأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة الذين ينزلون، قاله الخليل بن أحمد، وهذا- أيضا- دليل احتفاء بهذه الليلة العظيمة ويشهد له قوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: 7]. وقيل: إن القدر بمعنى الحكم قاله مجاهد وسميت بذلك لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره «3». وقيل: لأن من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر، قاله أبو بكر الوراق. فكما نرى أن المعانى كلها تؤكد فيها معنى العظمة والشرف والقدر لأن القرآن
(1) انظر: زاد المسير 9/ 181، والقرطبى 20/ 129.
(2)
القرطبى 20/ 131.
(3)
القرطبى 20/ 131، وزاد المسير 9/ 182.
القرآن الكريم أنزل فيها أى أنزل إلى السماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض نجوما كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. وكان ابتداء إنزاله- كما قال الشعبى- ليلة القدر. ثم تتابع نزوله بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما على ثلاثة عشر عاما تقريبا.
وهذا الوصف لهذه الليلة بالقدر، وأنها المباركة من الشهر الكريم المبارك شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة: 185] يثير
انتباه الناس إلى حقيقة ما هم فيه، ولكى يدركوا حق هذا القدر عليهم أن ينظروا نظرة سريعة إلى صفحة الحياة قبل ليلة القدر، وصفحة الحياة بعدها ليقفوا على شرف ما وصلت إليه الحياة، وعلى النقلة الكبيرة التى حدثت لهم من صورة مظلمة قاتمة قبل ليلة القدر لا تبصر فيها إلا الضلال المبين فى العقيدة، والتصورات للإنسان وللكون وللحياة، وفى النفس، وفى العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى صورة مشرقة منيرة عرف الإنسان فيها ربه، واقتدى بنبيه صار فى السراء شاكرا وفى الضراء صابرا وصار للحياة متفائلا مؤملا فى رحمة الله الواسعة، صار ذا قلب تقى نقى ونفس مطمئنة يعرف حق الله فيؤديه، وحق إخوانه فيفى به، يرعى من يعول ويحسن إلى الآخرين بل ويعفو عن المسيء ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
إنها صورة ترى فيها ملامح الحياة الطيبة العزيزة التى تليق بالإنسان وكرامته إذا أمعن الإنسان النظر فى الصورتين؛ صورة الجاهلية بظلماتها وضلالها وخمول الذكر فيها، وصورة ما بعد ليلة القدر التى عاش الناس فيها بالإسلام وهديه ونوره والحق الذى جاء به يدرك قيمة ليلة القدر. وزاد الله هذه الأمة خيرا بليلة القدر ونبههم إليه بقوله الكريم وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فجعل الله قيامها والعمل فيها خيرا من قيام ألف شهر وصيامها ليس فيها ليلة القدر. وهذا قول قتادة واختيار الفراء وابن قتيبة والزجاج «1» وهذا جبر لهذه الأمة التى تطمح فى الخير الكثير وعمرها دون طموحها، قال مالك فى الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم فى طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر «2» .
(1) زاد المسير 9/ 191.
(2)
القرطبى 20/ 133.
ومن فضل الله تعالى أن جعلها باقية فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم وبعده «1» ولكى يحرص المسلمون على اغتنام فضلها مع مزيد من القربات التى تنمى الإيمان وتصلح القلوب جعلها محلا لتحرى المؤمنين فى شهر رمضان، وفى العشر الأواخر منه وخاصة فى ليالى الوتر منها. روى البخارى فى صحيحه من حديث ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم:«التمسوها فى العشر الأواخر من رمضان، ليلة القدر، فى تاسعة تبقى، فى سابعة تبقى، فى خامسة تبقى» «2» قال ابن كثير بعد ما ذكر حديث البخارى هذا: فسره كثيرون بليالى الأوتار، وهو أظهر وأشهر.
وذكر ابن الجوزى الحكمة فى إخفائها فقال: ليتحقق اجتهاد العباد فى ليالى رمضان طمعا منهم فى إدراكها، كما أخفى ساعة الجمعة، وساعة الليل، واسمه الأعظم، والصلاة الوسطى، والولىّ فى الناس «3» .
هذه هى ليلة القدر التى جاء التنويه بفضلها فى سورة القدر والتى جاء فى الاحتفاء بها أيضا قوله تعالى:
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5).
(1) زاد المسير 9/ 191.
(2)
صحيح البخارى 4/ 226.
(3)
زاد المسير 9/ 189، 190.