المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة «الشعراء» وبعد سورة الواقعة وما تضمنته من المعانى التى تؤسس - تاريخ نزول القرآن

[محمد رأفت سعيد]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌التعريف بالوحى

- ‌صور الوحى وما تحقق منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌رؤية النبى صلى الله عليه وسلم للملك

- ‌صورة مجىء ملك الوحى فى هيئة رجل

- ‌النفث فى الرّوع

- ‌كيفية إتيان الوحى إلى النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌صلصلة الجرس:

- ‌ما فرض من الله تعالى ليلة المعراج

- ‌تنزلات القرآن الكريم

- ‌الحكمة من هذه التنزلات

- ‌حاجة الأمة للنزول المفرق

- ‌نقل الناس من الضلال إلى الهدى

- ‌أول ما نزل من القرآن

- ‌ترتيب الآيات القرآنية

- ‌دليل هذا الإجماع (وجمع المصحف)

- ‌ترتيب السور القرآنية

- ‌ليلة نزول القرآن الكريم

- ‌تفصيل ما تضمنته سورة العلق

- ‌سورة «القلم»

- ‌سورة «المزمل»

- ‌سورة «المدثر»

- ‌سورة «الفاتحة»

- ‌سورة «المسد»

- ‌سورة «التكوير»

- ‌سورة «الأعلى»

- ‌سورة «الليل»

- ‌سورة «الفجر»

- ‌سورة «الضحى»

- ‌سورة «الشرح»

- ‌سورة «العصر»

- ‌سورة «العاديات»

- ‌سورة «الكوثر»

- ‌سورة «التكاثر»

- ‌سورة «الماعون»

- ‌سورة «الكافرون»

- ‌سورة «الفيل»

- ‌سورة «الفلق» و «الناس»

- ‌سورة «الإخلاص»

- ‌سورة «النجم»

- ‌سورة «عبس»

- ‌سورة «القدر»

- ‌سورة «الشمس»

- ‌سورة «البروج»

- ‌سورة «التين»

- ‌سورة «قريش»

- ‌سورة «القارعة»

- ‌سورة «القيامة»

- ‌سورة «الهمزة»

- ‌سورة «المرسلات»

- ‌سورة «ق»

- ‌سورة «البلد»

- ‌سورة «الطارق»

- ‌سورة «القمر»

- ‌سورة «ص»

- ‌سورة «الأعراف»

- ‌سورة «الجن»

- ‌سورة «يس»

- ‌سورة «الفرقان»

- ‌سورة «فاطر»

- ‌سورة «مريم»

- ‌سورة «طه»

- ‌سورة «الواقعة»

- ‌سورة «الشعراء»

- ‌سورة «النمل»

الفصل: ‌ ‌سورة «الشعراء» وبعد سورة الواقعة وما تضمنته من المعانى التى تؤسس

‌سورة «الشعراء»

وبعد سورة الواقعة وما تضمنته من المعانى التى تؤسس اليقين فى القلوب نحو اليوم الآخر، وتأخذ بالعقول للتفكير فى آيات الله الكونية، وما يكون من وقع الموت بالإنسان ومصيره فى الآخرة تنزل سورة الشعراء، لتدعم اليقين، فى آيات الكتاب المبين، وكيف حفظه من أنزله سبحانه على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم، وتبيّن موقف الناس منه، وما تضمنه من وجوه الإعجاز، وتنزهه عن المشابهة بكلام البشر، فسورة الشعراء مكية عند الجمهور وقال مقاتل: منها مدني؛ الآية التى يذكر فيها الشعراء، وقوله تعالى:

أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وقال ابن عباس وقتادة: مكية إلا أربع آيات منها نزلت بالمدينة «1» وهى قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227).

وتبدأ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن الكريم، وأنه كتاب مبين ولكنّ موقف الناس منه عجيب فقد كذّب به- مع وضوحه- فريق منهم، وهذا الموقف أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا.

وهم بهذا الإعراض مع التكذيب والاستهزاء يعرّضون أنفسهم لعذاب الله، قال تعالى: طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6).

فهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله مع وضوحها عمى عن آيات الله الكونية، لم يفتحوا عيونهم ليروا تحت أقدامهم الأرض، وما أنبت الله فيها من كل زوج بهيج ليكون فى هذا النظر فتح لقلوبهم، قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9).

(1) القرطبى 13/ 87، فتح القدير 4/ 92.

ص: 344

ومع بيان وصف الكتاب العزيز بأنه مبين، ومع هذا كان موقف بعض الناس منه الإعراض والتكذيب، لأنهم لم يفتحوا عيونهم على آيات الله الكونية فعميت قلوبهم عن آيات الله القرآنية، وتقدّم الآيات الكريمة- بعد ذلك- وجها من وجوه الإعجاز فى هذا الكتاب المبين وهو الإخبار عن السابقين وما كان من موقف الأمم السابقة مع رسلهم، وهى أخبار لا يعلمها إلا الله سبحانه الذى نزّل الكتاب على عبده. وفى الوقت نفسه يكون فى هذه الأخبار ما يفيد من أراد الهداية والانتفاع من تجارب الآخرين، والسعيد من وعظ بغيره فبدأت الآيات بالحديث عن موسى عليه السلام، وقد سبق الحديث عنه فى آيات كريمات من سور سابقة ولكن نجد أن تجدّد ذكر الأنبياء مع أقوامهم فى مواضع متعددة يكون مصحوبا بجوانب تربوية ومواقف تتناسب مع السياق الذى ترد فيه. ففي موضع تذكر جزئيات خاصة وفى موضع آخر يفصّل فى غيرها وهكذا فتعرض الآيات الكريمة- هنا- شيئا مما يتعلق بنبى الله موسى عليه السلام وقد ذكر من قبل- مثلا- فى سورة طه فى جوانب من نعم الله عليه منذ ولادته إلى بعثته، وما جرى مع قومه- وهنا تأتى جوانب من حياته لتعين الناس على استخلاص العبرة من قصة موسى مع القوم الظالمين وضيق صدره من مواجهة الطاغين، وكيف أيده الله وأعانه وشد أزره بأخيه هارون، قال تعالى: وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17).

ثم تبين الآيات بعد ذلك موقف فرعون منهما ومحاولته صرف موسى عن دعوته بذكر ما صنعه معه وليدا، وما فعله موسى عند ما استغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى، قال تعالى: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)، وكان جواب موسى عليه السلام مبصّرا لفرعون ومبينا له حقيقة استعباده لشعب بنى إسرائيل فى مقابل ما يذكره من صنيعه بموسى عليه السلام، قال تعالى: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22).

ثم تعرض الآيات الكريمة سؤال فرعون لموسى عن ربّ العالمين، وكان جوابه عليه السلام مصححا لما أوقعه فرعون فى الناس من ضلال فأجابه بأنه سبحانه ربّ هذا الكون بسمائه وأرضه وما بينهما، ورب الناس الذين يعيشون فى هذا الكون، وربّ الزمان والمكان، ولا شريك له فى ذلك، وهو الذى يستحق العبادة وحده فلا إله إلا هو، قال

ص: 345

تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29).

وقدّم موسى الآيات الدالة على صدقه فى العصا واليد ولكنّ فرعون رماه بالسحر وبالتآمر على الناس، قال تعالى: قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35). ولما وجد الناس رمى فرعون لموسى عليه السلام بالسحر أشاروا عليه بجمع السحرة ومواجهته بهم، وتمت المواجهة ووعد السحرة بالأجر والمكانة وتحرك الباطل، فخدع الناس وخيّل إليهم من سحرهم أن عصيهم تسعى ولكنّ الحق تحرّك أيضا بإلقاء موسى للعصا التي أسكنت بالباطل ودفعته، وأدرك السحرة أنه الحق فآمنوا. قال تعالى:

قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48).

ولكن شأن الطغاة أن يتصوروا أنهم يملكون الناس ظاهرا وباطنا، وأنه لا ينبغى للإنسان أن يفكر إلا إذا أذن له سيده، ولا أن يؤمن إلا إذا سمح له فرعون، وتبع هذا التصور الباطل رمى فرعون لموسى عليه السلام بالسحر، وأنه كبير السحرة، وأنهم تعلموا على يديه ثم اتّجه إلى السحرة وتوعّدهم بالتعذيب، وقابله السحرة بالإيمان والثبات والتفكير فى المصير والطمع فى مغفرة الله. قال تعالى: قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51).

ويؤمر موسى عليه السلام بالسير ليلا لأنهم متّبعون، ويقوم فرعون بحشد إعلامى ليشتد غيظ الناس على بنى إسرائيل، وتكون العاقبة فى إخراج الظالمين من النعم الكثيرة وتمكين الضعفاء المستعبدين منها. وتأتى العاقبة فى بيان يشدّ انتباه السامعين إلى هذا

ص: 346

الموقف الذى يتراءى فيه الجمعان: جمع الطغاة، وجمع المؤمنين ويخشى المؤمنون الموقف، ولكن موسى يطمئنهم: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)، ويكون الأمر بضرب البحر بالعصا لتتحقق هذه الآية العظيمة فى وجود الطريق بين جبلين من الماء الجامد لينجو المؤمنون بهذا الطريق، ويعود البحر إلى حالته الأولى لإغراق الظالمين. قال تعالى:

وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

(68)

.

ثم تقدم الآيات الكريمة المنزلة بعد هذا ما كان من نبأ إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه ومواجهتهم فى العبادة، وبيان بطلان ما هم عليه بيانا عقليا ليجدوا أنفسهم فى دائرة التقليد الأعمى للآباء فحسب. قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77).

ويعرّف إبراهيم عليه السلام الناس بمجموعة من النعم التى تغمرهم، وينبّه إلى مجموعة من الأمور التى ينبغى أن يحرص الناس عليها وأن يشتغلوا بتحقيقها، وأن يتضرعوا إلى الله ليعينهم على تحقيقها. فهو سبحانه الذى خلق، وهو الذى يهدى، وهو الذى يطعم ويسقى، وهو الذى يشفى إذا قدّر المرض، وهو الذى يميت، وهو الذى يحيى وهو الذى يرجى فى التطهر من الخطايا لخطورتها فى الدنيا وفى يوم الدين. فهذه ينعم بها عباد الله وعليهم أن يجتهدوا فيما يحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة من طلب العلم النافع الذى جاء فى وحى الله، وأن يجد نفسه مع الصالحين، وأن تكون آثاره فى الناس طيبة ليجد الذكر الحسن، وأن يكون من أهل الجنة، وأن يدرك واجبه نحو والديه فى طلب المغفرة والرحمة لهما، وكان دعاء إبراهيم بالمغفرة لأبيه عن موعدة وعدها إياه. ومن الأمور التى يحرص عليها كذلك ويدركها الناس من دعاء إبراهيم عليه السلام أن يجنّب الله الإنسان الخزى يوم يبعثون وذلك بتجنيب أسباب الخزى وأن هذا اليوم لا

ص: 347

ينفع فيه إلا الذين تعهدوا قلوبهم بالصقل والتنقية بالإيمان الصحيح والاستغفار وذكر الله سبحانه والأعمال الصالحة وتطهيره من الأمراض التى تصيبه، قال جل شأنه فيما ذكره إبراهيم فى مواجهة قومه: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89).

وبعد هذا التعريف بالنعم والحضّ على ما يغتنم يأتى التنبيه بما سيكون من تقريب الجنة للمتقين، وإظهار الجحيم للغاوين الكافرين الذين يندمون ويتلاومون على اتخاذهم الأنداد من دون الله حيث يدركون فى وقت لا ينفعهم فيه الإدراك أنهم كانوا فى ضلال، وأنه لا شفيع ولا صديق ويتمنى هؤلاء العودة مرة أخرى ليكونوا من المؤمنين ولكن لا ينفعهم التمنى فتزداد الحسرة. قال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104).

ومع التنبيه والتذكير بما سيكون من مصير المتقين ومصير الغاوين الكافرين. تتناول الآيات الكريمة المنزلة بعد ذلك ما كان من قوم نوح من التكذيب وعدم الاستجابة والنظرة المتكبرة إلى المؤمنين، والاشمئزاز منهم والتهديد والوعيد بالرجم لمن يدعوهم إلى الهدى والتقوى، قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116).

ولما وصل الأمر إلى هذه النتيجة المؤسفة دعا نوح ربّه أن يحكم بينه وبينهم، وأن ينجيه ومن معه ونجّاه الله ومن معه فى الفلك، وأغرق الكافرين. قال تعالى: قالَ

ص: 348

رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122).

ثم تقدم الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من تكذيب عاد، وكيف دعاهم أخوهم هود إلى تقوى الله والطاعة وأنه لا يريد مقابل ذلك أجرا منهم ونبّههم إلى ما هم عليه من بطش وتجبّر، وعرّفهم بنعم الله عليهم وحذرهم من عذابه، ولكنهم مع كل هذا كذّبوا فأهلكهم الله، قال تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140).

وهذا التعقيب الكريم الذى يذكر من صفات الله سبحانه العزة والرحمة تنبيه للمخاطبين بأنه سبحانه لا يغلب وأنه رحيم بعباده يقص عليهم هذه الأنباء، ليفيدوا منها وليدركوا أنفسهم قبل أن يقع العذاب بهم مثلما وقع بغيرهم.

ثم تذكر الآيات الكريمة- بعد ذلك- ما كان من ثمود من تكذيب، وقد دعاهم أخوهم صالح إلى تقوى الله والطاعة وأنه لا يريد منهم أجرا على نصحه ودعوته، فجزاؤه على ربّ العالمين سبحانه، وأنهم لن يتركوا فى نعيم مع الكفر فإن الكفر عاقبته وخيمة وحذرهم من طاعة المسرفين المفسدين فى الأرض فرموه بالسحر، وطلبوا منه آية تدل على صدقه وأيده الله بالآية فكانت الناقة، ولكنهم عقروها فاستحقوا العذاب ووقعوا فى الندامة. قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ

ص: 349

ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159).

وبعد ذلك تتناول الآيات الكريمة المنزلة ما كان من قوم لوط من تكذيب ودعاهم أخوهم لوط إلى تقوى الله والطاعة، وأنه لا يريد منهم أجرا فأجره على رب العالمين وحذّرهم من سوء الخلق وإتيان الذكران من العالمين، ودعاهم إلى الطّهر والعفة فتوعدوه بالإخراج، وتبرأ من عملهم وعبّر عن كرهه له ودعا ربّه لينجّيه وأهله مما يعملون فاستجاب الله له وتحققت النجاة له ولأهله إلا عجوزا بقيت فى العذاب وأهلك الآخرون بالخسف والحصب «1». قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175).

وتتناول الآيات الكريمة بعد ذلك ما كان من أصحاب الأيكة (والأيك: الشجر الكثير الملتف، والواحدة أيكة، وكانت فى البادية). وقد أرسل إليهم شعيب عليه السلام ودعاهم إلى تقوى الله وأنه لا يريد منهم أجرا فأجره على رب العالمين، ودعاهم إلى الإصلاح الاقتصادى المتمثل فى سلامة الميزان والكيل وعدم البخس والتحذير من الفساد فى الأرض بصوره، فرموه بالسحر وكذبوه وطلبوا العذاب، فأخذهم عذاب يوم الظلة.

قال ابن عباس: أصابهم حرّ شديد، فأرسل الله سبحانه سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا، وقيل: أقامها الله فوق رءوسهم وألهبها حرّا حتى ماتوا من الرّمد، وكان من أعظم يوم فى الدنيا عذابا «1» ، قال تعالى:

كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)

(1) القرطبى 13/ 132.

ص: 350

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191).

إن تقديم هذه الصور للأمم السابقة مع رسلهم وبيان حالة كل أمة، وكيف كانت عاقبتها تعليم وتوجيه وتربية لهذه الأمة الخاتمة، ففرعون صورة للطغيان والاستبداد والفساد فى الأرض وقوم فرعون يمثلون الضلال واتخاذ الأنداد ووجهوا بالحجة، وقوم نوح يمثلون نظرة السخرية والتنكير على المؤمنين، وعاد يمثلون العلوّ والكبر والتعلق بالدنيا، وكذلك ثمود بإسرافهم وفسادهم وقوم لوط بفاحشتهم وشذوذهم، وأصحاب الأيكة بفسادهم الاقتصادى. فهذا الفساد المتعدد يتكرر على مرّ الأيام والناس فى حاجة إلى معرفة النتائج لهذه الأعمال الفاسدة، وقد نبأنا الله من أخبار هؤلاء فى كتابه الكريم، فمع إمكانية الانتفاع بهذه المواقف بالتدبر والتأمل، واستخلاص العبر تأتى الأوامر المباشرة ليحمل الناس على صلاحهم حملا. تتناول الآيات الكريمة بعد هذا الحديث عن القرآن الكريم وبيان مسيرته الآمنة حيث نزل به الروح الأمين لينزل على أطهر مكان وأحكمه على قلب النبى صلى الله عليه وسلم. وليس للشياطين عليه من سبيل فلا يستطيعون سرقة شىء منه. وهو فى وضوح تام؛ لأنه بلسان عربى مبين، وقد تضمّن كل أسباب الهداية، فهو يهدى للتى هى أقوم فى كل شىء ففيه الدعوة إلى التوحيد والعبودية الخالصة لله وحده، وفيه خفض الجناح للمؤمنين، وفيه التحذير من المعصية والمخالفة، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196).

وأما الآية التى قال مقاتل إنها مدنية فهى قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197). فإن مجاهدا يقول: يعنى عبد الله بن سلام وسلمان وغيرهما

ممّن أسلم، وقال ابن عباس: بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة يسألونهم عن محمد- عليه الصلاة والسلام فقالوا: إن هذا لزمانه، وإنا لنجد فى التوراة نعته وصفته. يقول القرطبى: فيرجع لفظ العلماء إلى كل من كان له علم بكتبهم أسلم أو لم يسلم على هذا القول، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين؛ لأنهم كانوا يرجعون فى أشياء من أمور الدين إلى أهل الكتاب؛ لأنهم مظنون بهم علم «1» .

وتحذّر الآيات الكريمة من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من التكذيب بالحق

(1) القرطبى 13/ 138، 139.

ص: 351

واستعجال العذاب، فإن قلوب المجرمين لا تذعن إلا إذا تطهرت، وفى حالة إجرامها فلن تؤمن بالقرآن الكريم وإعجازه ولو أنزله الله على أعجمى، ولن يؤمنوا به حتى ينزل عليهم العذاب. ولو كان تكذيبهم لانغماسهم فى الشهوات فهل المتعة بالشهوات تغنى إذا وقع العذاب؟. قال تعالى: وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)، قال مقاتل: قال المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم: يا محمد إلى متى تعدنا بالعذاب ولا تأتى به؟ فنزلت: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204)، ثم ينزل هذا التساؤل الذى يجعل متع الدنيا لا قيمة لها مع وقوع العذاب فيقول تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207).

وتبين الآيات بعد ذلك سنة الله مع خلقه فى أنه سبحانه ما أهلك قرية من القرى إلا بعد الإنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب ليذّكر هؤلاء قال تعالى:

وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209).

وتنبّه الآيات الكريمة بعد ذلك إلى أمور جديرة بالعناية حتى يتخلص الناس من الأوهام والظنون التى شغلوا أنفسهم بها نحو وحى الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فبعد الاطمئنان السابق على تنزيل القرآن الكريم من رب العالمين على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم عن طريق الروح الأمين عليه السلام يأتى النفى والرد لما زعمه الكفرة فى القرآن الكريم أنّه من قبيل ما يلقيه الشياطين على الكهنة. فهذا الزعم مردود لأن الله حفظ كتابه، قال تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212). ولو أن هؤلاء آمنوا وفتحوا قلوبهم للتوحيد لتطهّرت قلوبهم من هذه الأوهام ولذلك يأتى الخطاب إلى النبى صلى الله عليه وسلم بالتوحيد مع كونه منزّها عنه معصوما منه لحثّ العباد على التوحيد ونهيهم عن شوائب الشرك وكأنه قال: أنت أكرم الخلق علىّ وأعزّهم عندى، ولو اتخذت معى إلها لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد «1» .

قال تعالى: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وإذا كان هذا تنبيها إلى إقامة الناس على التوحيد، فإن الأمر الذى يلى هذا أن ينذر الرسول صلى الله عليه وسلم عشيرته الأقربين، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم سينذر عشيرته الأقربين فليس معنى ذلك أن دعوته لهم وحدهم كما تصوّر بعض الناس، بل إن ذلك من التدرج الصحيح فى الدعوة والتى تبدأ بالداعى ثم الذى يليه فقد ذكر قبلها مباشرة: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ

(1) فتح القدير 4/ 119.

ص: 352

الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214). وإذا كان رسول الله يبعث بلسان قومه فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بعث كذلك بلسان قومه، وأنزل عليه القرآن الكريم بلسان عربى مبين ليفهم عنه من ستبدأ الدعوة بهم، ثم يقوم هؤلاء بمهمتهم فى دعوة غيرهم، وهكذا تتسع الدائرة من العشيرة الأقربين إلى أمّ القرى ثم من حولها لتشمل العالمين.

روى مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعمّ وخصّ فقال: «يا بنى كعب ابن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذى نفسك من النار فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها» . أى أصلكم فى الدنيا ولا أغنى عنكم من الله شيئا «1» .

ولو فهم الناس أن هذه الدعوة خاصة بعشيرته فحسب لاستجاب له الأقربون بدافع العصبية ولكنّ الأقربين أنفسهم أدركوا أن الدعوة لهم ولغيرهم أى ليست من قبيل الدعوات العنصرية وإنما تنظر إلى الناس جميعا نظرة المساواة وتعمّ بخيرها العالمين.

ولذلك رأينا من الأقربين المستجيب والمعرض، قال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220).

ولإزالة الوهم ودفعه تنبه الآيات الكريمة بعد ذلك إلى تنزّه القرآن الكريم عن المشابهة لكلام البشر فيما عرفه الناس من كلام الكهان وشعر الشعراء، وصلة الشياطين

بهذين النوعين من الناس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بكاهن وليس بشاعر، وما أنزل إليه ليس من قبيل سجع الكهان وشعر الشعراء، قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227).

ولما كان الشعر يمثل جانبا كبيرا وخطيرا من أساليب العرب فى القول وجدنا هذا التفصيل المذكور فى الآيات الكريمة بعد نفى المشابهة بين القرآن الكريم والشعر من جهة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والشعراء والكهان من جهة أخرى. وهذا يرجع إلى مكانة الشعر فى

(1) القرطبى 13/ 143.

ص: 353

حياة الناس عند نزول الوحى، وكيف عنى العرب بفنّ القول، وأجادوا فيه وأنزل الله كلامه الذى أعجزهم بيانه فلم يستطيعوا الإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله، ولو تظاهر فى ذلك الإنس والجن. فأسلوب المخلوق يستحيل أن يرقى إلى كلام الخالق سبحانه.

ولكنّ عدم المشابهة بين القرآن الكريم والشعر وغيره من الكلام الفصيح والبليغ لا يفهم منها محاربة القرآن الكريم للشعر والشعراء بصورة عامة بل إن إعجاز القرآن الكريم فى جانبه البيانى يكون أكثر وضوحا عند ما يعتاد الناس جيد القول نثرا وشعرا، وعند ما يفشو فيهم تذوق الكلمة، ولذلك فإن هذه السورة الكريمة التى سميت بسورة الشعراء تلفت الانتباه إلى حقيقة التفضيل فى أمر الشعر والشعراء. وأن الشعر وإن كان كلاما موزونا مقفى، فإنه لا ينبغى أن يخرج عن دائرة الضوابط الشرعية التى ترشد الكلمة، لتكون طيبة نافعة تؤتى ثمارها، فجيّد الشعر كجيد الكلام مقبول، وقبيح الشعر كقبيح الكلام مذموم ومرفوض، ويرتبط الكلام بقائله فى الحالتين شعرا ونثرا.

ولقد وجد الناس هذا المعنى فى نظرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعر والشعراء ولا يفهم من هذا أن الإسلام ضيّق الأمر على الشعراء أو أثّر على شاعريتهم تأثيرا سلبيا كلا؛ بل إنه أطلق لهم الإبداع فى التعبير عن المعانى المستحسنة شرعا وطبعا وفى ظل ضوابطه كان إنتاج الكثير من الشعراء موافقا لتصور الإسلام للشعر والشعراء.

روى مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلى يوما فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبى الصّلت شىء؟، قلت: نعم. قال:

«هيه» فأنشدته بيتا. فقال: «هيه» ثم أنشدته بيتا، فقال:«هيه» حتى أنشدته مائة بيت «1» . يقول القرطبىّ: وفى هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعانى المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبى صلى الله عليه وسلم من شعر أمية؛ لأنه كان حكيما، ألا ترى قوله عليه الصلاة والسلام:«وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم» .

ولذلك أطلق العلماء على الشعر الأحكام الفقهية من الحل والحرمة والندب والكراهة والإباحة. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدرة إلا وقد قال

(1) القرطبى 13/ 145.

ص: 354

الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله؛ وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كلّ شىء ما خلا الله باطل» أخرجه مسلم وزاد: «وكاد أمية بن أبى الصلت أن يسلم» وروى عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال: ويلك يا لكع، وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا فى القوافى، فحسنه حسن وقبيحه قبيح.

وأما ما رواه مسلم رحمه الله عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يملئ شعرا» وفى الصحيح- أيضا- على أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خذوا الشيطان- أو أمسكوا الشيطان- لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» فإن للعلماء توجيها لهذا قالوا فيه: إنما فعل النبى صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعلّ هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب فيفرط فى المدح إذا أعطى، وفى الهجو والذم إذا منع، فيؤذى الناس فى أموالهم وأعراضهم ولا خلاف فى أن من كان على مثل هذه الحالة، فكلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه.

وقيل كذلك: إن الذى غلب عليه الشعر وامتلأ صدره منه دون علم سواه، ولا شىء من الذكر ممن يخوض به فى الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول، ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية لحكم العادة الأدبية، وهذا المعنى هو الذى أشار إليه البخارى فى صحيحه لما بوّب على هذا الحديث:«باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر» .

وقد ذكرت الآيات الكريمة تعليلا لمذمة الشعراء الذين يتبعهم الغاوون فى أنهم فى كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق لأن من اتّبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما

ص: 355

يقوله تثبّت، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالى ما قال.

والآيات الكريمة تستثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا، ولذلك لما نزلت: وَالشُّعَراءُ جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبى الله، أنزل الله تعالى هذه الآية وهو تعالى يعلم أنا شعراء؟ فقال: «اقرءوا ما بعدها: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

الآية- أنتم وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أنتم» أى بالرد على المشركين. قال النبى صلى الله عليه وسلم: «انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات» .

ص: 356