الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «الفيل»
ونزلت بعد سورة «الكافرون» . والتى أعلنت البراءة مما يعبد «الكافرون» وأنه لا مساومة على العقيدة، نزلت سورة الفيل لتنبه وتذكر المؤمنين، ولتفتح أيضا عيون الكافرين على واقعة تاريخية يعرفونها ولكن لا يحسنون الانتفاع بها، نزلت السورة الكريمة يقول الله تعالى فيها: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5).
فبداية السورة بهذا الاستفهام الذى يدعو إلى النظر، والرؤية التاريخية والاعتبار بما حدث قريبا فى العام الذى اتخذوه عاما للتأريخ فكانوا يقولون: حدث هذا عام الفيل أو قبله أو بعده. ومن ذلك ما عرف من مولد النبى صلى الله عليه وسلم فى عام الفيل على أشهر الأقوال «1» .
فأما تذكير المؤمنين وأوّلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه جاء بعد إعلان البراءة من الكافرين وعبادتهم ومما يعبدون ورفض المساومة، وهذا التذكير يتصل باليقين الذى ينبغى أن يملأ قلوب المؤمنين فى ضعف الكافرين، وضعف المعتدين على السواء، وأن الله تعالى ناصر لجنده ومؤيد لحزبه، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، فأما ضعف الكافرين فإنهم هزموا أمام جيش أبرهة، ولم يستطيعوا مواجهته فى طريقه إليهم، وبعد وصوله إلى ديارهم، وأما ضعف أصحاب الفيل، فمع قوتهم وقدومهم بأسلحة لا قبل للعرب المشركين بها، ومنها الفيلة فإنّ الله تعالى جعل كيدهم فى تضليل، فلم يصلوا إلى ما يريدون من هدم بيت الله الحرام، وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول. وهذا تلقين لسنة من سنن الله تعالى فيما يكون من مواجهة بين أهل الحق وأهل الباطل تذكّرنا بها سورة الفيل ومن عناصر هذه السنة:
أولا: أن الحق منتصر دائما قال تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء: 18].
ثانيا: أنه إذا كان للحق من ينتسب إليه انتسابا صحيحا يعتد به فإنهم يختبرون فى
(1) تفسير ابن كثير 4/ 549.
هذا الانتساب فإن صدقوا، وكانوا على حالة ترضى الله تبارك وتعالى أيدهم على قلتهم وضعفهم المادى.
ثالثا: إذا لم يكن للحق من ينتسب إليه انتسابا صحيحا كما كان الحال فى انتساب المشركين إلى البيت الحرام، حيث عبدوا الأوثان، ووضعوها حوله، فإن الله تعالى يحمى بيته وينصر الحق لا لكرامة هؤلاء المشركين، وإنما لأنه حق بلا أهل يعتدّ بنسبتهم إليه.
وهذه السنة بهذا الإيجاز تطمئن المؤمنين بأن الله ناصرهم ومؤيدهم، وأنه يجبر ضعفهم وقلتهم، وأنه سبحانه سيمكن لهم فلا يرهبون كافرا، ولا يخشون معاديا متربصا.
وأما التنبيه ولفت النظر للمشركين فإنما يمكن فى تجنبهم مخاطر أبرهة وجيشه وكيف أنعم الله عليهم بهذه النجاة حتى حسبوا ذلك نصرا لهم. قال ابن كثير رحمه الله: فهذه من النعم التى امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة، ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيهم وأضلّ عملهم وردّهم بشرّ خيبة، وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه فى ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ولسان حال القدر يقول: لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذى سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبى الأمى محمد- صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء.
فكان مقتضى هذا الإنعام أن يفتحوا صدورهم ويقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجيبين طائعين، وأن يعبدوا رب هذا البيت، وأن يخلعوا من قلوبهم عبادة الأصنام. فهذا تنبيه لهم يشبه التنبيه فى سورة قريش حيث يقول الله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4).
إن سورة الفيل تفتح عيون المؤمنين والكافرين كذلك للعبرة التاريخية، فالقرآن الكريم يمنح الناس جميعا خلاصة تجارب السابقين من المؤمنين والكافرين وكيف كان
حالهم فى الإيمان والكفر وما عاقبة الفريقين، والسعيد من وعظ بغيره وتدبر صفحة التاريخ وأفاد لحاضره منها.
وسميت السورة سورة الفيل، فقد كان الفيل وأصحاب الفيل يمثلون عدوانا واضحا على الحق، وكانت نهايتهم أن صاروا كالعصف المأكول، وسمى عام هذه الحادثة بعام الفيل. وهى حادثة قريبة، وعلى الرغم من قربها، فالقرآن الكريم يذكّر بها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يذكّر بها ففي يوم الحديبية لما أطلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية التى تهبط به على قريش بركت ناقته، فقالوا: خلأت القصواء أى حرنت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل- ثم قال- والذى نفسى بيده لا يسألونى اليوم حطة يعظّمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها» ، ثم زجرها فقامت.
وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فليبلغ الشاهد الغائب» .