الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة «الهمزة»
وتستمر معالجة النفس الإنسانية وعلاقتها بالدنيا والآخرة فى السور التى نزلت بعد سورة القيامة وهى سورة «الهمزة» والتى يقول الله تعالى فيها: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9).
وهى سورة مكية بإجماع نزلت بعد سورة القيامة؛ لتعالج مرضا نفسيا خطيرا تصاب به بعض النفوس البشرية، وبهذا المرض تقع كثير من المشكلات بين الناس، إنه مرض الحب الجمّ للمال والذى يدفع بصاحبه إلى الحرص الشديد على جمعه وتعديده من أى طريق، ليفاخر به ويكاثر ويتصور أنه بهذا المال سيكون من الخالدين، وأن هذا المال سيحميه من الكوارث التى يتعرض لها من ليس لديه مال وفى غمرة هذه الحالة النفسية وما تبعها من جمع المال وعدّه يتعدى سلوكه البشرى على غيره بهذا المرض الخطير، والذى أبرزته السورة الكريمة فى اسمها وهو «الهمز واللمز». وقد كان من صور التحديات التى واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فى الفترة المكية من شرار الكفار الذين يسخرون ويعيبون ويغتابون ويطعنون فى المؤمنين لمحاولة التأثير فيهم ومن هؤلاء الأخنس ابن شريق فقد روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ نزلت فى الأخنس بن شريق. وكان يلمز الناس ويعيبهم: مقبلين ومدبرين. وقال ابن جريج:
فى الوليد بن المغيرة، وكان يغتاب النبى صلى الله عليه وسلم من ورائه ويقدح فيه فى وجهه. وقيل:
نزلت فى أبىّ بن خلف، وقيل فى: جميل بن عامر الثقفى (أو الجحمى)«1» .
ومن مظاهر هذا الهمز واللمز والسخرية فى تلك الفترة أن هؤلاء المشركين كانوا إذا رأوا أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يتغامزون بهم ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض الذين سيغلبون غدا على ملك كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون، السخرية- هنا- من المؤمنين وكذلك من مضمون الدعوة لفساد قلوب المشركين حيث
يتهكمون على ما وعد به المؤمنون فى ضعفهم هذا- من التمكين فى الأرض وفتح ملك كسرى وقيصر، ولذلك
(1) القرطبى 19/ 183، ولباب النقول فى أسباب النزول للسيوطى 234، 235.
وصف الله عز وجل هؤلاء الساخرين بالإجرام فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)[المطففين].
وهذا المسلك الساخر إنما يقوم على قصر نظر المشركين وعلى هوائهم واستبعادهم للوصول إلى ملك كسرى وقيصر، لقوتهم وشدة منعتهم وكبر حجمهم فى نفوس المشركين.
ومن نماذج العيب والسخرية بالمبادئ كذلك ما كان من موقف العاصى مع خباب فقد عمل خباب بن الأرت (وكان حدادا يعمل السيوف بمكة) للعاصى عملا حتى كان له عليه مال، فجعل يتقاضاها منه، فقال العاصى: يا خباب، أليس يزعم محمد صاحبكم الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب وفضة وثياب وخدم، قال خباب: بلى، قال: فأنظرنى إلى يوم القيامة يا خباب، حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك حقّك هناك فوالله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله منى ولا أعظم حظا فى ذلك فنزل فيه قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80)[مريم].
فهؤلاء بهمزهم ولمزهم وسخريتهم وإفسادهم واستغنائهم بالمال، وظنهم أن معه الخلود فى الدنيا لهم فى هذه السورة الكريمة ما يزجرهم، ويوقظهم من غفلتهم وإلا فالويل لهم. والمال الذى جمعوه وعدّدوه وظنوا معه الخلد فإنه لن يدوم لهم وما أخلد المال أحدا بل طريق الخلود فى النعيم الإيمان والعمل الصالح، وإذا ركنوا إلى المال وعددوه للحماية فقد أخطئوا الطريق كذلك، فعن الحسن أنه عاد موسرا فقال: ما تقول فى ألوف لم أفتد بها من لئيم، ولا تفضلت على كريم؟ قال: ولكن لماذا؟ قال:
لنبوة الزمان وجفوة السلطان ونوائب الدهر ومخافة الفقر، قال: إذن تدعه لمن لا يحمدك وترد على من لا يعذرك «1» .
وسيطرح هذا المال فى الحطمة وهى نار الله؛ سميت بذلك لأنها تكسّر كل ما يلقى فيها وتحطمه وتهشمه كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) قال محمد بن كعب: تأكل النار جميع ما فى
(1) الكشاف للزمخشرى 4/ 284.
أجسادهم حتى إذا بلغت إلى الفؤاد خلقوا خلقا جديدا فرجعت تأكلهم، وكذا روى خالد بن أبى عمران عن النبى صلى الله عليه وسلم:«أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إذا صدروا تعود فذلك قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)» وخصّ الأفئدة لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. أى أنه فى حال من يموت وهم لا يموتون كما قال الله تعالى: لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74)[طه] فهم إذا أحياء فى معنى الأموات. وقيل: معنى تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) أى تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب، وذلك بما استبقاه الله تعالى من الأمارة الدالة عليه ويقال: اطّلع فلان على كذا: أى علمه وقد قال الله تعالى: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)[المعارج] وقال تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12)[الفرقان] فوصفها بهذا، فلا يبعد أن توصف بالعلم «1» .
(1) القرطبى 19/ 185.