الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ناصر له- كذلك حذر هنا بمآل المشرك في آخرته، بإلقائه في جهنم، ملوماً على ما قدم، مطروداً مبعداً في دركات الجحيم.
…
نظرة عامة في الآيات المتقدمة:
قد تضمنت هذه الآيات على قلّتها: الأصول التي عليها تتوقف حياة النوع البشري وسعادته:
من حفظ النفوس والعقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
…
}.
والأنساب، والأموال، والحقوق، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ
…
}، {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} ..
والأعراض: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا .. } ، {وَلَا تَقْفُ
…
}
…
والدين الذي هو عمدة ذلك كله وفي حفظه حفظ لجميعها.
وفي افتتاح الآيات بقوله تعالى:
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} . وختمها بقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} ، بيان من الله تعالى لخلقه، بأن الدين هو أصل هذه الكمالات كلها، وهو سياج وقايتها، وسور حفظها، وأن التوحيد هو ملاك (1) الأعمال وقوامها، ومنه بدايتها وإليه نهايتها.
وكذلك المسلم الموفق يبتدي حياته بكلمة التوحيد حتى يموت عليها.
فالله نسأل- كما منَّ علينا بها في البداية- أن يمن علينا بها في النهاية.
اللهم هذا لنا، وللمسلمين أجمعين.
القَول الحسَنُ
تمهيد:
اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان.
(1) مَلاك الأمر ومِلاكه (بفتح الميم وكسرها): قوامه وخلاصته، أو عنصره الجوهري (المعجم الوسيط:[ص:886]).
والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، وبه يتحاجون ويتفاضلون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاحقت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقّى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات.
فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه. وبريد عقله وواسطة تفاهمه.
فإذا حسن قويت روابط الإلفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم. وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي في التعاون والتآزر.
ويعني العالم من وراء ذلك تقرر الأمن واطراد العمران.
وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك:
فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستعداد والتعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل.
وفي ذلك كل الشر لأبناء البشر.
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم- هو القول الحسن.
ولهذا أمر الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وآله وسلم أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن، فقال تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين:
الأول: أنهم أضيفوا إليه وهذه إضافة شرف لا يكون إلاّ للمؤمنين به.
الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا أصل الإيمان.
و (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هي الكلمة الطيبة، والمقالة التي هي أحسن من غيرها فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس، حتى ينادي بعضهم بعضاً بأحب الأسماء إليه.
وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء.
وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون أذاية لخصمة، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به.
وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلة، فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس، خالية من السب والقدح، ومن الغمز والتعريض، ومن أدق تلميح إلى شيء قبيح.
وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم، أو بينهم وبين غيرهم.
فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله وعليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال- صلى الله عليه وآله وسلم القولة التي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
وأفاد قوله تعالى: {أحسن} بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام.
فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال، ولو كلمة واحدة:
فرب كلمة واحدة أوقدت حرباً، وأهلكت شعباً، أو شعوباً.
ورب كلمة واحدة أنزلت أمناً وأنقذت أمة أو أمما.
وقد بين لنا النبي- صلى الله عليه وآله وسلم مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: «الكلمة الطيبة صدقة» (3) و «اتقوا النار ولو بكلمة طيبة» (4).
وهذا الأدب الإسلامي- وهو التروي عند القول، واجتناب السيء واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد وهنائهم. وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب،
(1) السام: الموت.
(2)
أخرجه البخاري في الأدب باب 35 و38، والجهاد باب 98، والاستئذان باب 22، والدعوات باب 59 و63. ومسلم في السلام حديث 10 و11 و13. والترمذي في السير باب 40، والاستئذان باب 12 و13، وتفسير سورة 68 باب 3. والدارمي في الاستئذان باب 7. وأحمد في المسند (114/ 2، 170، 221، 3/ 140، 104، 210، 214، 218، 224، 241، 262، 289، 383، 37/ 6، 116، 134، 135، 199، 229).
(3)
أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري في الجهاد باب 128. ومسلم في الزكاة حديث 56. وأحمد في المسند (6/ 312، 374).
(4)
رواه البخاري في الأدب باب 34، من حديث عدي بن حاتم عن رسول ال صلى الله عليه وسلم بلفظ:«اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة» .