الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} ؟ [الشعراء: 146 - 149].
أما المغزى الذي سيقت هذه الآية لأجله فهو الإنكار عليهم:
كيف يستعينون بنعم الله التي يسرها لهم على الكفر به؟.
وإنذارهم أن الكفر بها وبمؤتيها .. سيكون سبباً في زوالها.
وفي ضمن هذا عرفنا حالتهم التي كانوا عليها في تعمير الأرض: وهي حالة أمة بلغت النهاية في الحضارة المادية وفنونها.
من زرع الأرض وتلوينها بأصناف الشجر منظمة.
وتقسيم المياه على تلك الغروس إلى ما يستلزمها كل ذلك من علم بحال الأرض وطبائعها.
وأحوال الأشجار المغترسة وطبائعها.
وأحوال الفصول الزمنية، وأحوال الجو، وأحوال التلقيح والآبار والجَني.
وعلم بأصناف التمتع من مناظر، ومجالس، ومقامات ومآكل.
ثم القيام على حفظ ذلك العمران من إفساد الأيدي السارقة.
وكل هذا مما يستلزمه وصف القرآن لحالهم، لأجل تذكيرهم والتذكير بهم.
وقد ذكرهم القرآن في مواضع بإتقانهم لنحت الحجر والشجر آيتا الحضارة المبصرتان. ومن يعرف الحضارة الرومانية بهذا الوطن يعرف أنها ما قامت إلاّ على نحت الحجر وغرس الشجر.
وإن نحت الحجر ليستدعي حاسة فنية خاصة، ويستدعي مع ذلك قوة بدنية؛ وقد نعتهم القرآن في نحتهم للحجر بحالة ملابسة:
فوصفهم مرة بأنهم "آمنون" ومرة بأنهم "فرهون" والفاره هو الذي يعمل بنشاط وخفة، ولا يأتيه ذلك إلاّ من خبرته بما يعمل، وعلمه بدقائقه واعتياده له. ومعنى هذا أن أصول هذه الصناعة التي اشتهر بها المصريون القدماء، والرومان، قد رسخت فيهم.
ولكن التاريخ المنقول ظلم العرب وبخسهم حقهم كما قلت لكم!!
هاتان أمتان من الأمم العربية أثبت القرآن حالهما، فكان لنا مصدراً تاريخياً معصوماً في إثبات حضارة الشعوب العربية التي برزت فيها الأمم.
…
حضارة اليمن
ولننتقل الآن إلى ناحية أخرى من نواحي الجزيرة، وهي اليمن التي عرفها اليونان وغيرهم، وعرفوا المدنيات التي قامت فيها، فسموها بالعربية السعيدة.
وإننا إذا انتقلنا إلى هذه الناحية من الجزيرة: نجد العز القدموس (1)، والمجد الباذخ، والماضي الزاهر لهذه الأمة التي نفتخر بالانتساب إليها، ونباهي الأمم بمدنياتها بالحق والبرهان.
وإننا في حديثنا عن اليمن لا نخرج عن شواهد القرآن:
ليس المقام مقام تبسط في وجوه البلاغة المعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات:
فقد استوعبت تاريخ أمة في سطور، وصورت لنا أطواراً اجتماعية كاملة في جمل قليلة أبدع تصوير، ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة، لا أظن غير اللسان العربب يتسع لحملها: كقوله {قُرًى ظَاهِرَةً} ، وكقوله:{وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} ، وكقوله:{بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} . حتى إذا وصل القارىء إلى مصير الأمة التي سمع ما هاله من وصفها، واجهه قوله تعالى:{فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} . وأدركه الغرق في لجج البلاغة الزاخرة.
اللهم إن السلامة في الساحل، وإننا لا نعدو موضوعنا، وهو تصوير حضارة العرب مما يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرسله.
الآيات صريحة في أن مدنية سبأ كانت مدنية زاهرة مستكملة الأدوات.
ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته، وعلم ما نعلم أن مدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال. ويمين من؛ وشمال من؛ إنه ولا شك يمين السائر في تلك المدن أو الأراضي وشماله.
ومعنى هذا: أن طرق السير كانت منظمة تبعاً لتنظيم الغروس عن يمينها وشمالها. والاكتشافات الأثرية اليوم التي كان لليمن حظ ضئيل منها- وإن كان على غير يد أهلها- تشهد بأن أمم الحضارات اليمنية كانت من أسبق الأمم إلى بناء السدود المنيعة، لحصر المياه والانتفاع بها في تعمير الأرض، وإقامة السدود لا تتم بالفكر البدوي، والعمل اليدوي، بل تتوقف على علوم
(1) القدْمُوس والقُدموسة: الصخرة العظيمة. وجيش قدموس: عظيم. والقدموس: الملك الضخم. وقيل: هو السيد. والقدموس: القديم. وعز قدموس وقدماس: قديم، يقال: حسب قدموس أي قديم. والقدموس: المتقدم. وقدموس العسكر: مقدمه. والقدموس والقدامس: الشديد. انظر لسان العرب (6/ 170 - مادة قدمس).
فكرية .. منها الهندسة، والهندسة تتوقف ثمراتها على علم كثيرة، وعلوم العمران كعروق البدن يمد بعضها بعضاً، فهي مترابطة متماسكة متلاحمة، فما يكون السبئيون بلغوا في الهندسة مبلغاً أقاموا به سد مأرب؛ حتى يبلغوا في غيره من علوم العمران ذلك المبلغ.
ولكن لما كفروا بأنعم الله واستعملوها في ما يسخطه، سلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم، وأباد حضارتهم، وذلك قوله تعالى:{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} . ويقول في وصف عمرانهم: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} يعني أن عمرانهم لم يكن محدوداً وإنما كان متصلاً بعضه ببعضه.
فالقرى والمدن يظهر بعضها من بعضها لقربها وتلاحمها، فلا يكاد المسافر يبرح مدينة حتى تبدو له أعلام الأخرى، ولا يكون هذا إلاّ إذا كان العمران متصلاً، وهذا هو معنى الظهور في الآية فهو ظهور خاص.
وتقدير السير هو أن يكون منظماً ومن لوازمه أن تكون الأوقات مضبوطة بالساعات، والطرق محدودة بالعلامات التي تضبط المسافة.
وقوله تعالى: {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} يرشدنا إلى امتداد العمران مسافة الليالي والأيام، وأن الأمن كان ماداً رواقه على هذا العمران ولا يتم العمران إلاّ بالأمن.
ولكن فات القوم أن يحصنوا هذه المدنية الزاخرة بسياج الإيمان، والشكر، والفضيلة، والعدل- وكل مدنية لم تحصن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب.
والناس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر، يحسبون أنها خالدة بعظمتها باقية بذاتها، فالقرآن يذكر لنا كثيراً من مصائر الأمم، حتى لا نغتر بمظاهرها، وحتى نعلم أن سنة الله لا تتخلف في الآخرين، كما لم تتخلف في الأولين.
وأما قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟!
والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، وإنما هو نتيجة أعمالهم، ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة؛ فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله، وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة.
ولا زال الناس- على عاميتهم- يقولون فيمن عمل عملاً يستحق عليه الضرب أو القتل:
إنه يقول اقتلني أو اضربني وهو لم يقل ذلك، وإنما أعماله هي التي تدعو إلى ذلك.
فالمعنى: أن أعمالهم هي التي طلبت جزاءها اللازم لها المرتبط بها ارتباط اللازم بالملزوم والدال بالمدلول، فكأن ألسنتهم قالت ذلك، ويؤيد هذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى:{سَيَجْزِيهِمْ} [الأنعام: 138، 139].؛ لأن الجزاء أثر للفعل فهو مرتبط به.
ولا يقولن قائل: إن القول يقع مدلوله قي القلب حالاً، ولا كذلك العمل، فقد يتأخر