الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويتصرف فيه بعكس ذلك فيكون شراً لا من ذاته، بل من عمل صاحبه.
وهذا العالم الإنساني المكلف، هو الذي يتجلى الخير والشر في أعماله، ويتصلان بحياته اتصالًا وثيقاً.
وإنما عيب عليه وقبح منه، لأنه قادر على تمييزه واجتنابه، ومكلف بذلك. وقد وضح له الدين قوانين ثابتة للخير والشر، وأوضح له أن الخير ما نفع، وأن الشر ما أضر. ولكنه وإن أوتي قوة التمييز لم يؤت قوة الاستعصام، ابتلاءً من الله. فأما المخذول فيأتي الشر عامداً متعمداً، هو يعلم أنه شر، وأما الموفق فيواقع الشر في مواقف يشتبه عليه فيها الخير بالشر ويعسر التمييز.
والخير والشر لا يوزنان بميزان حسي يستوي الناس كلهم في إدراكه، وقد تدق الفوارق بينهما حتى تخفى.
وفي هذه المواقف يجب الإلتجاء إلى الله ليرينا الخير خيراً، ويكشف لبصائرنا عن حقائق الشر فلا يلتبس علينا شيء بشيء.
وبعد أن يوجه الاضطرار نفوسنا هذا التوجيه الصحيح، تندفع ألسنتنا وتقول:{أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} وبهذا تظهر المناسبة الدقيقة بين "ربّ" و"الفلق".
1 -
فإن رب الناس ومربيهم وسائقهم إلى ما يكمل وجودهم، هو الذي تنكشف لعلمه سرائرهم، والفلق نور يكشف للعيان كل المبصرات فترى على حقائقها ومقاديرها، لا يزيغ البصر في شيء منها ولا يطغى، والإنسان مهما يكن عالما فقد تخفى عليه حقائق من المعقولات فيزيغ فكره ويطغى.
2 -
ومناسبة أخرى، وهي أن الشر ظلام، وقد أجرى الله في فطر البشر تصور الشر كالظلام، وأجرى على ألسنتهم تشبيه الشر بالظلام: ذلك أن ما يلابس إحساسهم من الأنس بالنور والبشاشة له، هو عين ما يلابسه من الأنس والبشاشة للخير، وأن ما يضايقهم من وحشة الظلام وتوقع الهلاك فيه، هو عين ما يضايقهم من ذلك الشر.
هذا كله في الشر على عمومه، ثم خصص تعالى من هذا العموم ثلاثة أنواع من الشر، لشدة تعلقها بحياة الإنسان وكثرة عروضها له، ويجيء أكثرها من أخيه الإنسان، ورتبها ترتيباً بديعاً لا يستغرب في جنب بلاغة القرآن، ودقته في رعاية المراتب وتنسيقها في عرض الأذهان.
هذه هي الثلاثة:
الغاسق إذا وقب.
والنفاثات في العقد.
والحاسد إذا حسد.
و (الغاسق) الليل المظلم، والمراد هنا المصيبة تطرق ليلاً وعلى غرة.
و {وقب} دخل في الوقب وهو النقرة في الشيء.
و {النفاثات} السواحر ينفثن الريق، واللفظ جمع نفاثة كثيرة النفث.
و {العقد} جمع عقدة بيان لعادة السواحر المعروفة، من عقد الخيوط ونفث الريق عليها.
والجامع بين الثلاثة هو اشتراكها في الخفاء: فإن الغاسق ظلام تخفى فيه الشرور، والنفاثات مبني أمرهن على الاخفاء تحييلاً وإبهاماً، والحسد داء دفين.
فالثلاثة كما ترون شرها خفي، وكل شر يخفى عمله أو يخفى أثره يجل خطبه ويعظم خطره، فيعسر التوقي منه والاحتياط له، لأنك تتَّقي ما يظهر ويستعلن، لا ما يخفى ويستتر، لا جرم كانت الثلاثة جديرة بالتخصيص.
أما نكتة الترتيب: فإن الليل ليس شراً في نفسه، ولا الشر من عمله، وإنما هو ظرف للشرور، والعلاقة بين الشيء وظرفه مكينة في النفوس قوية في الاعتبار، مسببة للحكم على أحدهما بحكم الآخر.
بخلاف النفاثات والحساد، فإن الشر من عملهما ومن وصفهما، ولانطباعهما عليه صار ذاتياً لهما، ولا شك أن الشر الذاتي أمكن من العرضي.
كما أن بين الإثنين تفاوتاً في ذاتية الشر وقوته، وعسر التوقي منه:
فالنفاثات وإن كن يتحرين إخفاء عملهن، ولكنه مما يمكن ظهوره وافتضاحه- بخلاف الحاسد فإنه يخفي شره ويبالغ فيظهر بمظهر الخير فشره أشد، والتوقي منه أعسر، ففي الترتيب بين الثلاثة ترق من الأخف إلى الأشد.
ومن جهة أخرى نجد التناسب ظاهراً بين الثلاثة: الغاسق والنفاثات والحاسد، فإن الجميع ظلام: ظلام الزمن، وظلام السحر، وظلام الحسد.
وفي تقييد الغاسق بالوقوب احتمالان كلاهما صحيح مفيد المراد:
الأول: أن وقوب الغاسق عبارة عن اعتكار الظلم وتكاثفها فكان بعض أجزائها يدخل بعضاً. والظلام يبدأ خفيفاً مشوباً بأسفار من الشفق، أو من طبيعة الأرض، ثم يشتد ويَحْلَوْلِكُ حتى يغطي على كل شيء، فتلك التغطية هي الوقوب.
والوقوب على هذا الاحتمال منظور فيه إلى ظرفه الزماني.
وفائدة القيد حينئذ، أن تلك الحالة المصورة بهذه الجملة، هي التي تقع فيها الشرور من الآدميين وغيرهم، فالطارق يطرق، والسارق يسرق، والحيات تنهش، والضواري تفترس، وظلام الليل يستر ذلك كله، ويعين عليه، ويعوق عن الاستصراخ والاستنجاد.
والعرب تقول فيما يشير إلى هذا: "اللَّيْلِ أَخْفَى لِلْوَيْلِ".