الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستعمل لفظ الجنة في القرآن بمعنى المصدر الذي هو الجنون، في قوله تعالى:{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46].
ولما كان الموسوسون فريقين متعاونين على الشر، ذكرهما الله تعالى في مقام الاستعاذة من شر الوسوسة، ليلتئم طرفا الكلام، ويحصل التقصي الوصفي المستعاذ به والمستعاذ منه.
وقد قسم القرآن الشياطين، وهم القائمون بوظيفة الوسوسة إلى قسمين:
شياطن الإنس، وشياطين الجن. وذكر بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول. وشياطن الجن ميسر للشر. فكل من يعمل عمله من الإنس فهو مثله. ومن شياطن الإنس بطانة السوء وقرين السوء.
القرين:
وورد في الآثار أن لكل إنسان قريناً من الجن (1). وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]. وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [الزخرف: 67]. وهو من باب توزيع الجمع على الجمع: أي لكل واحد قرين.
فهذا الإنسان الضعيف يلازمه قرين من الجن، ثم لا يخلو من قرين أو قرناء من الإنس، يزينون له ما بين يديه وما خلفه، ويصدونه عن ذكر الله. فماذا يصنع؛ ما عليه إلاّ أن يلتجيء إلى الله، ويستعيذ به ويتذكر، فإنه لا يؤخذ وهو ذاكر مستيقظ، وإنما يؤخذ إذا كان غافلاً، قال تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].
دقائق بلاغية:
ومن دقائق القرآن ولطائفه في البلاغة، أنه يقدم أولاً الإسمين المتلازمين في آية، لسر من أسرار البلاغة يقتضيها ذلك المقام، ولا يؤخر ذلك المقام في آية أخرى، لسر آخر: فيقدم السماء على الأرض في مقام، ويؤخرها عليها في مقام آخر.
ومن هذا الباب تقديم الإنس على الجن في آية الأنعام (2)، لأن معرض الكلام في عداوتهم للأنبياء، وهي من الإنس أظهر، ودواعيها من التكذيب والإيذاء أوضح.
وفي آية "الناس" قدم الجنة على الناس، لأن الحديث عن الوسوسة، وهي من شياطين الجن
(1) في صحيح مسلم (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، حديث رقم 69) عن عبد الله بن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما منكم من أحد إلاّ وقد وُكل به قرينه من الجنّ» . قالوا: وإياك يا رسول الله؛ قال: «وإيَّاي، إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلاّ بخير» . وأخرجه أيضاً أحمد في المسند (1/ 385، 397، 401، 460) والدارمي في مسنده (كتاب الرقاق، باب 25).
(2)
الآية 112: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} .
أخفى وأدق، وإن كانت من شياطين الإنس أعظم وأخطر وأدهى وأمر: فشيطان الجن يستخدم شيطان الإنس للشر والإفساد، فيربى عليه ويكون شراً منه، لأنه بمثابة السلاح الذي يفتك به؛ ورب كلمة واحدة صغيرة يوحيها جني لإنسي، ويوسوس إليه بتنفيذها، فتتولد منها فتن، ويتمادى شرها من قرن إلى قرن ومن جيل إلى جيل.
وهذا النوع الإنساني المهيأ لقابلية الخير وقابلية الشر، إذا انحط وتسفل كان شراً محضاً، وإذا ترقى وتعالى شارف أفق الملأ الأعلى، وأوشك أن يكون خيراً محضاً، لولا أن العصمة لم تكتب إلاّ لطائفة منه، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فالإنسان إذا انحط يكون شراً من الشيطان، وإذا ارتقى يكون أفضل من الملك- أعني جنس الإنسان- ومن هذا الجنس، كان محمد- صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الخلق الذي ليس لمخلوق رتبة مثله في الكمال.