الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجاهلية، أو تُحْيَى فيه معالم الوثنية، أو تطمس فيه السنة النبوية، أو يدعى فيه أحد مع الله، أو يضرع إلى سواه.
وعلى الاحتمال الثاني: والذين لا يشهدون شهادة الزور ولا يخبرون إلاّ بالحق الواقع.
ترجيع وترجيح:
يلزم من أنهم لا يشهدون مشاهدة الباطل أنهم لا يشهدون بالزور لوجهين:
الأول: لأنهم إذا كانوا لا يحضرون مجالس الباطل فبالأحرى أنهم لا يقولونه.
والثاني: أن مشهد شهادة الزور من مشاهد الباطل التي لا يحضرونها؛ فيكون الوجه الأول أولى لأنه أشمل.
توسع في البيان:
على أنه من بلاغة القرآن أن تأتي مثل هذه الآيات بوجوه من الاحتمالات متناسبات غير متناقضات؛ فتكون الآية الواحدة بتلك الاحتمالات كأنها آيات: نظير مجيء الآية بقراءتين، فتكون كآيتين مثل قوله تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
وقوله تعالى في آية الوضوء: {وَأَرْجُلَكُمْ} (1)[المائدة: 5]. بالنصب عطفاً على الوجه فيفيد غسل الأرجل، وتلك هي الحالة الأصيلة العامة. وبالخفض عطفاً على الرؤوس فيفيد مسح الأرجل وتلك هي حالة الرخصة عند لبس الخفاف.
فتكون هذه الآية باحتمالها مفيدة تنزههم عن شهود الباطل، وعن شهادته.
موعظة:
قال جار الله (2) في الكشاف، عن هؤلاء الموصوفين من عباد الرحمن:
«إنهم ينفرون عن محاضر الكذابين، ومجالس الخطائين فلا يحضرونها، ولا يقربونها؛ تنزهاً عن مخالطة الشر وأهله؛ وصيانة لدينهم عما يمثله لأن مشاهدة الباطل شركة فيه.
ولذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم دليل الرضا به وسبب وجوده والزيادة فيه؛ لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه» اهـ.
وهذا كما قال؛ فإن حضور مشاهد الباطل إقرار لأهلها عليها، وترك للنهي عن المنكر. وقد قال الله تعالى:
(1){وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
(2)
هو جار الله الزمخشري صاحب تفسير الكشاف.
وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
فتعم الآية كل ظالم، فلا تجوز لأحد مجالستهم مع ترك النكير عليهم، ولا يكفي أن ينكر ويجلس؛ لأنه يكون ببقائه معهم قد أظهر ما يدل على الرضا بفعلهم، ونقض بالفعل إنكاره عليهم بالقول.
وروى الطبراني والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يقفن أحدكم موقفاً يقتل فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه» (1).
فأخبر أن اللعنة تنزل على الحاضرين لعدم دفعهم، واقتضى أنهم غير راضين بقلوبهم، وأحرى إذا رضوا.
فلا يجوز من هذا الحديث وغيره حضور الظلم والقبائح مع عدم دفعها، ولو مع عدم الرظا بها.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه لما وصلوا الحجر- ديار ثمود:
فإذا كان هذا فيمن ماتوا من أهل العذاب، فمثلهم مجالس أهل السوء والفساد، فإذا نزلت اللعنة والعذاب عمتهم ومن كان معهم.
وشهادة الزور المرادة بالنص على الوجه الثاني (3)، أو اللزوم على الوجه الأولى (4) من أكبر الذنوب إثماً، وشر الكبائر مفسدة تنقلب بها الحقائق، وتضيع بها الحقوق، وتبطل المعاملات، وتزول الثقة بين الناس، وتتعرض النفوس والأموال والأعراض للأذى والشر، وتنعدم طمأنينة الناس على ما يعلمون من أنفسهم.
وصح عنه- عليه وآله الصلاة والسلام- أنه قال:
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/ 260) والهيثمي في مجمع الزوائد (6/ 284) والمتقي الهندي في كنز العلمال (13411) والمنذري في الترغيب والترهيب (3/ 304).
(2)
أخرجه البخاري في الصلاة باب 53، وأحاديث الأنبياء باب 17، وتفسير سورة 15 باب 2، والمغازي باب.8. ومسلم في الزهد حديث 38 و 39. وأحمد في المسند (2/ 9، 58، 66، 72، 74، 91، 96، 113، 137).
(3)
أي شهادة الزور.
(4)
أي عدم مشاهدة الباطل.