الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي هذا ترغيب للخلق في تحصيل الفضل في درجات الآخرة؛ فإنهم إنما يتهالكون في الدنيا على أن يفضل بعضهم بعضاً في شيء منها، وهي الدار الفانية. فلم لا يتسابقون فيما ينالون به الفضل في الدار الباقية؟! مع أن من عمل لنيل الفضل في الآخرة- وما عملها إلاّ الخير والمعروف- حاز الفضل والسعادة فيهما على أفضل وجه، وأكمل حال.
فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أصول الهداية في ثمان عشرة آية
من قوله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء: 22]، إلى قوله تعالى:{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 39].
تمهيد:
قد أوتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوامع الكلم واختُصر له الكلام اختصاراً؛ فالآية من كتاب الله، والأثر من حديث رسول الله، تجد فيه من أصول الهداية، ودقيق العلم، ولطيف الاشارة في لفظ بيِّن وكلام بيِّن- ما فيه الكفاية وفوق الكفاية لمن أوتي العلم ومُنح التوفيق.
فهذه ثمان عشرة آية من سورة الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوهها.
وهي- فوق بلاغتها التي عرف العرب إعجازها بسليقتهم وأدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم- قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا، أو بأي لغة نطقوا، بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفِطَر وتسلمها العقول.
وإنك لست واجداً مثلها في مقدارها وأضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدى وبيان.
وهذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور المتقدم في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} ووقوعها بلصق قوله تعالى: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} . إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور، المستفاد من هذه الآيات.
{لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} .
هذا هو أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تقبل الأعمال إلاّ به. وما أرسل الله رسولا إلاّ داعياً إليه، ومذكراً بحججه.
وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة "لا إله إلاّ الله". وهي كلمته الصريحة فيه.
ولا تكاد سورة من سور القرآن تخلو من ذكره والأمر به والنهي عن ضده.
وأنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه.
{لا تجعل} الجعل يكون عملياً كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد، ويكون اعتقادياً كجعلت مع صديقي صديقاً آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني.
{مع الله} المعية هنا أيضاً هي معية اعتقادية.
{إلها آخر} الإله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والافتقار وإظهار الإنقياد والامتثال ودوام التضرع والسؤال.
{فتقعد} القعود ضد القيام، والعرب تكني بالقيام عن الجد في الأمر والعمل فيه سواء أكان العامل قائماً أو جالسا، فتقول: قام بحاجتي إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة وإنما قضاها بكلمة قالها، أو خطاب أرسله. وتكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء أكان الشخص واقفاً أو جالساً، فتقول: قعد زيد عن نصرة قومه إذا لم يعمل في ذلك عملاً، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، ولو كان قائاً يمشي على رجليه. فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب وفراغ اليد من كل خير.
{مذمومًا} مذكورا بالقبيح موصوفاً به.
{مخذولا} متروكا بلا نصير مع حاجتك إليه.
فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكاً في ألوهيّة، فيعبدوه معه ليعتقدوا أنه الإله وحده فيعبدوه وحده.
وبين لهم أنهم إن اعتقدوا معه شريكاً وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة، وعملهم يكون مردوداً عليهم، وأنهم يكونون مذمومين من خالقهم، ومن كل عقل سليم من الخلق، يكونون مخذولين لا ناصر لهم: فأما الله فإنه يتركهم وما عبدوا معه، وأما معبوداتهم فإنها لا تنفعهم لأنها عاجزة مملوكة مثلهم فما لهم- قطعاً- من نصير.
والخطاب وإن كان موجهاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه عام للمكلفين.
وسر مثل هذا الخطاب تنبيه الخلق إلى أن شرائع الله وتكاليفه عامة للرسول والمرسل إليهم،
وإن كان هو (1) قد عصم من [[المخالفة]] فلا يبقى بعد ذلك وجه لدعوى مدع: خروج فرد من أفراد الأمة المكلفين عن دائرة التكليف
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} .
القضاء يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري الذي لا يتخلف متعلقه فما قضاه الله لا بد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون، ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني.
{ربك} الرب هو الخالق المدبر المنعم المتفضل.
{أن} في {ألاّ} مصدرية، والتقدير: بألا تعبدوا إلاّ إياه أي بعدم عبادتكم سواه، بأن تكون عبادتكم مقصورة عليه.
فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلاّ له فذل القلب وخضوعه، والشعور بالضعف والافتقار والطاعة والانقياد والتضرع والسؤال، هذه كلها لا تكون إلاّ لله.
فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده.
ومن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده أو من عند الله فقد عبده.
ومن توجه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده.
ومن شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده.
فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمراً عاما وحكم حكما جازماً، بأن العبادة لا تكون إلاّ له.
وجيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيها على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك إلاّ له. فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه، فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها انفراده بالخلق والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته.
وكما انتظمت هذه الجملة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، كذلك انتظمت مع الآية السابقة التوحيد العلمي والتوحيد العملي:
فالأولى: نهي عن أن تعتقد الألوهية لسواه، وهو يتضمن النهي عن اعتقاد ربوبية سواه وهذا من باب العلم.
والثانية: أمر بأن تكون عبادتك مقصورة عليه لأنه هو ربك وحده، وهذا من باب العمل:
(1) أي الرسول صلى الله عليه وسلم.