الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالمستعاذ منه على هذا الاحتمال: شر يقع في زمان.
والاحتمال الثاني: أن الوقوب في حقيقته هو دخول شيء في شيء دخولًا حسياً، فيقتضي ظرفاً مكانياً، وما هذا الظرف إلاّ الأبنية والمساكن، والظلام حين يهجم يدخل المساكن فيملأها، ويكون دخوله فيها أبين من دخوله في الفضاء، وملؤه إياها أشد.
فالوقوب على هذا منظور فيه إلى ظرفه المكاني، لأن الشرور التي ترتكب في البيوت حين يغمرها الظلام أكثر مما يرتكب منها في الفضاء، خصوصاً من الآدميين، والمستعاذ منه على هذا الاحتمال شر يقع في مكان.
وعلى الاحتمالين لما كان الليل معواناً لذوي الشر على شرهم، أضيف الشر إليه واستعيذ بالله منه.
النفاثات:
و (النفاثات) صفة إما للنفوس فتشمل الرجال والنساء، وتكون الاستعاذة من شر كل من يتعاطى هذا الفعل رجلاً كان أو امرأة، وإما للنساء. وخصصن بذلك لأن وقوع هذا الفعل منهن أكثر، وهن به أشهر.
والنفث إخراج الهواء من الفم مدفوعاً بالنفس بدون بصاق، أو مع قليل منه تتطاير ذراته وهو دون التفل.
والنفث وإن كان عاماً لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة، يعقدون خيطاً ويتمتمون عليه برقى معروفة عندهم، وينفثون على عقدة منه بقصد إيصال الشر من نفوسهم الخبيثة إلى نفس المسحور، وما هم بضارين به من أحد إلاّ بإذن الله.
وما أمرنا الله بالاستعاذة من شره إلاّ لأنه يؤثر في بعض النفوس القابلة للتأثر به حاشا النفوس المعصومة، كنفوس الأنبياء فإن شرور الدنيا وأسواءها لا تعدو أبدانهم إلى أرواحهم. ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما يوهمه لفظ الرواية، فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثر البدني.
الإعتقاد الصحيح:
ونحن نعتقد ديناً أن تأثير المؤثرات هو من وضع الله وحده.
ونقطع علماً وتجربة أن للقوى النفسية تأثيراً أعظم من تأثير القوى الجسمانية.
وأن من مظاهر هذا التأثير النفساني تأثير العين في المعيون، وتأثير التنويم في المنوم.
وأن التأثير والتأثر النفسانيين يختلفان باختلاف النفوس الفاعلة والمنفعلة قوة وضعفاً.
وأن تأثير العين ليس من ذاتها، وإنما هو من النفس التي من وراء العين.
ولو كان التأثير من ذات العين لكانت كل عين ناظرة تحدث ذلك الأثر، وأن هذا التأثير لون من ألوان النفس: فإن كانت خيرة كان تأثيرها خيراً، وإن كانت شريرة كان شراً.
فالنفث المذكور في الآية إن أثر فإنما يؤثر بالقوة النفسية التي من ورائه. والساحر لا ينفث من نفسه الخبيثة إلاّ نفث الشر؛ لأن الشر هو صفته الطبيعية، كالحية لا تنفث الترياق، وإنما تنفث السم، وكالعدو يلقاك بطعن الأسل لا بطعم العسل؛ إذ كان ذلك من طبيعة العداوة.
هذا نفث الشر من النفوس الشريرة كنفوس السحرة.
وأما النفوس الخيرة الطيبة، كنفوس المؤمنين فإنها تنفث الخير للخير.
وفي الصحيح عن عائشة- رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أوى إلى فراشه جمع بين كفيه ثم نفث فيهما وهو يقرأ المعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من بدنه يبدأ برأسه ووجهه يفعل ذلك ثلاث مرات"(1). فهذا نفث الخير من خير نفس خلقها الله.
ثم قالت في تمامه: "فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك"(2).
وفي رواية: "كان يقرأ بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهذا، وأمسح بيد نفسه رجاء بركتها"(3).
وفي رواية مسلم (4) عنه "أنه كان يفعل ذلك إذا مرض أحد أهله".
فهذه الأحاديث- ثابتة صحيحة- تثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المعوذات، وينفث حين القراءة نفث الخير قطعاً.
وتبين لنا أن كل نفس تنفث ما وقر فيها.
وأن النفث إيصال للقوة الروحانية إلى ما يراد وصول الأثر إليه، وهي دليلنا على ما أسلفنا من أن في النفث خيراً وشراً، ولولاها لما كان النفث إلاّ من فعل السحرة.
والنفوس إذا استفزها شيء من ملابستها، تتفشى فيها الروحانية وتضطرب، فكأنها بذلك النفث تنفض جزءاً من روحانيتها على نفس أخرى، أو على بدن.
وكأن تحريك اللسان بقراءة أو غيرها إثارة لتلك الروحانية، واستدعاء لها، حتى تتصل بالريق الذي ينفث، كما يتصل السيال الكهربائي بشيء مادي.
وقد علمنا أن السحرة لا ينفثون نفثاً مجرداً، بل يغمغمون برقى شيطانية وأسماء أرواح خبيثة.
(1) تقدم تخريجه ([ص:267] حاشية (1)).
(2)
كذا في الأصل؛ ولفظه كما في مصادر تخريجه: "فلما اشتكى جعلت أقرأ عليه وأمسحه بكفه رجاء بركة يده".
(3)
لفظ البخاري في فضائل القرآن باب 14.
(4)
في السلام، حديث 50.
ومن الشواهد لنفث الريق، ما أخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها:
أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا إشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة، أو جرح، قال النبي بإصبعه هكذا:- تعني وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل (1) - ثم رفعها، وقال:
"بسم الله تربة أرضنا بريقة (2) بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا"(3).
…
(بعد رواية الأستاذ لهذا الحديث، سكت لحظة كمن يستجمع خواطره، ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع)(4):
إن القرآن كتاب الدهر ومعجزته الخالدة، فلا يستقل بتفسيره إلاّ الزمن.
وكذلك كلام نبينا- صلى الله عليه وآله وسلم المبين له، فكثير من متون الكتاب والسنة الواردة في معضلات الكون ومشكلات الاجتماع، لم تفهم أسرارها ومغازيها إلاّ بتعاقب الأزمنة، وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون. وكم فسرت لنا حوادث الزمن واكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن، ومتون الحديث، وأظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين، وأرتنا مصداق قوله- صلى الله عليه وآله وسلم في وصف القرآن:«لا تنقضي عجائبه» (5).
والعلماء القوامون على كتاب الله وسنة رسوله لا يتلقونها بالفكر الخامد والفهم الجامد، إنما يترقبون من سنن الله في الكون وتدبيره في الاجتماع ما يكشف لهم عن حقائقهما، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ما عجزت عنه أفهامهم.
وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات: لم يأت مصداقها أو تأويلها بعدة يعنون أنه آت، وأن الآتي به حوادث الزمان، ووقائع الأكوان، وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه.
(1) لفظ مسلم: "ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها".
(2)
قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها. والريقة: أقل من الريق. ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح.
(3)
صحيح مسلم (كتاب السلام، حديث رقم 54). وأخرجه أيضاً البخاري في الطب باب 38، وأبو داود في الطب باب 19، وابن ماجة في الطب باب 36، وأحمد في المسند (93/ 6).
(4)
ما بين القوسين من كلام العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله (حاشية المطبوع: [ص:636]).
(5)
روى الإمام أحمد في المسند (91/ 1) من طريق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! إن أمتك مختلفة بعدك. قال: فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: كتاب الله تعالى، به يقصم الله كل جبّار، من اعتصم به نجا ومن تركه هلك- مرتين- قول مفصل وليس بالهزل، لا تختلقه الألسن ولا تفنى أعاجيبه، فيه نبأ ما كان قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما هو كائن بعدكم» .