الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يقال: المعوذات ويراد بها ما يشمل سورة الإخلاص.
وكفى بما فيها من أصول العقائد معاذاً من الشرك، وهو أصل الشرور كلها.
وحديث مسلم هو أصح ما ورد في نزولهما.
وأما ما يذكر في نزولها في قصة سحر النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فإن ذلك لم يصح سبباً لنزولها. وإن كان لقصة السحر وصاحبها لبيد بن الأعصم أصل ثابت في الصحيح. وقد تساهل كثير من المفسرين في حشر هذا السبب في تفسيرهما وفي حشر كثير مما لم يصح في فضائلهما، ولنا فيما صح غنية فيما لم يصح.
وهذه الخيرية التي أثبتها لهما حديث عقبة عند مسلم هي خيرية نسبية في ناحية مخصوصة، وهي ناحية التعوذ بهما من الشرور العامة والخاصة المذكورة فيها.
ودليل هذه النسبية ما أخرجه النسائي في سننه عن ابن عابس الجهني أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم قال له: «يا ابن عابس، ألا أدلك (أو ألا أخبرك) بأفضل ما يتعوذ به المتعوذون؛ قال: بلى يا رسول الله. قال: قل: أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس هاتين السورتين» (1).
فبين- صلى الله عليه وآله وسلم أن خيريتهما وأفضليتهما من جهة ما تشتملان عليه من معنى التعوذ وهو من المعاني الداخلة في دائرة ما كلفنا الله به.
سر الختم بهما:
ولهاتين السورتين خصوصية غير المناسبات التي يذكرونها في ارتباط بعض السور بالبعض، ويستخرجون منها بالتدبر ما لا يحصى من الأنواع، وهذه الخصوصية هي ختم القرآن بهما. وترتيب السور توقيفي، ليس من صنيع جامعي المصحف كما ذكره السيوطي في الإتقان وجماعة.
يستطيع دارس القرآن ومتدبره ومتقلبه، بالذهن المشرق والقريحة الصافية، أن يستخرج من الحكم في هذا الختم بهما أنواعاً.
ولكن أجلاها وأوضحها: أنهما ختم على كنوز القرآن في نفس المؤمن، وتحصين لهذه النعم المنشأة له من القرآن عليه أن يكدرها عليه كيد كائد، أو حسد حاسد، فإن من أوتي الشيء الكريم، ورزق النعمة الهنية، هو الذي تمتد إليه أيدي الأشرار وألسنتهم بالسوء، وتقذفه عيونهم بالشرر، وتتطلع إليه نفوسهم بالحسد والبغضاء، ويشتد عليه تكالبهم، سعياً في سلبه منه، أو تكديره عليه.
وبقدر النعمة يكون الحسد، وعلى مقدار [[نفاسة]] ما تملك، تكون هدفاً لمكائد الكائدين، وتأتيك البلايا من حيث تدري ولا تدري.
(1) أخرجه النسائي في الاستعاذة باب 1، وأحمد في المسند (417/ 3).
ومن أوتي القرآن فقد طوي الوحي بين جنبيه، وأتي الخير الكثير، فهو لذلك مرمى أعين الحاسدين، ومهوى أفئدة الكائدين؛ فكان حقيقاً، وقد ختم القرآن حفظاً أو مدارسة أو تلاوة، أن يلتجىء إلى الله طالباً منه الحفظ والتحصين من شر كل كيد وحسد يصيبه على هذا الخير العظيم، الذي كمل له هذه النعمة الشاملة التي تمت عليه.
هذه حكمة.
ب- والأخرى: هي أن من أوتي القرآن وتفقه فيه، فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وأحاط بالعلم من أطرافه، وملك كنزه الذي لا ينفد.
وأن من آفات العلم اغترار صاحبه به، وقد يتمادى به الغرور حتى يسول له أن ما أوتيه من العلم كافٍ في وقايته من الأضرار، ونجاته من الأشرار، فكان من رحمة الله بصاحب القرآن، ولطف تأديبه له، وحسن عنايته به، أن ختم بهاتين السورتين كتابه؛ لتكونا آخر ما يستوقف القارىء المتفقه، وينبهه إلى أن في العلم والحكمة مسألة لم يتعلمها إلى الآن، وهي: أنه مهما امتد في العلم باعه، واشتد بالحكمة اطلاعه: فإنه لا يستغني عن الله، ولا بد له من الالتجاء إليه، والاعتصام به، يستدفع به شر الأشرار، وحسد الحاسد. وكفى بهذه التربية قامعاً للغرور، وإنه لشر الشرور.
هذه هي المناسبة العامة بين جميع القرآن مرتباً ترتيبه التوقيفي، وبين هاتين السورتين في اتحاد موضعهما.
وأما المناسبة الخاصة بين السورتن وبين سورة الاخلاص، فهي:
أن سورة الإخلاص قد عرفت الخلق بخالقهم بما فيها من التوحيد والتنزيه والتمجيد؛ فإذا قرأت القرآن وتدبرته على ترتيبه، ووجدت توحيد الله منبثاً في آياته وسوره، متجلياً ذلك التجلي الباهر بما عرضه وصوره، ساداً ببراهينه على النفوس كل ثنية وكل مطلع- كانت آخر مرحلة يقطعها فكرك من مراحل التوحيد في القرآن، هذه السورة المعجزة على قصرها، فكأنها توكيد لما امتلأت به نفسك من معاني التوحيد، وكأنها وصية مودع مشفق بمهم يخشى عليك نسيانه؛ فيعمد فيها من الكلام إلى ما قل ودل ولم يمل.
ومن صدقك في توحيدك لله في ربوبيته وإلهيته أن تنقطع عن هذا الكون وتكون منه وكأنك لست منه بصدق معاملتك لله، وإخلاص توحيدك إياه، فأنت وقد آمنت وصدقت، وخرجت من سورة الإخلاص متشبعا بمعانيها، ومنها معنى الصمد- تستشعر أن العالم كله عجز وقصور، وأن خيراته مكدرة بالشرور، وأن لا ملجأ إلاّ ذلك الفرد الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فتجيء المعوذتان بعد الإخلاص مبينتين لذلك الإلتجاء الذي هو من تمام التوحيد. ولأجل هذه المناسبة والارتباط بين السور الثلاثة جمع بينهن في التسمية: