الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشبهت حالة المسرف الذي لا يبقي على شي، بحالة الشخص الباسط لكفيه فلا يمسكان عليه من شيء: فذاك يملك المال، ولكنه بسرفه لا يبقى له منه شيء، وهذا قد يمر الشيء على يده، ولكنه لا يبقى فيها شيء. ونقل المركب الدال على المشبه به إلى المشبه، استعارة تمثيلية أيضاً.
المعنى:
ولا تخرج جميع ما تملك مع حاجتك إليه، ولا تنفق جميع مالك. وبهذا يعلم أن "كل البسط" المنهى عنه هنا غير التبذير المنهي عنه في الآية المتقدمة: ذاك توزيع المال وتبديده في غير وجوهه، وهذا التجاوز في الإنفاق المطلوب والتوسع في الإنفاق المأذون حتى يبقى بلا شيء.
نهى تعالى بهذه الآية عن طرفي الإفراط والتفريط، وهما الإسراف.
فالمأمور به: هو العدل الوسط، فعلى ذي المال أن يأخذ في انفاقه بهذا الميزان، ليكون إنفاقه محمودا: فلا يمسك عما يستطيع، ولا يتجاوزه إلى ما لا يستطيع، أو إلى ما يوقعه في عسر وضرر.
وكان النهى عن البسط لأنه هو الذي فيه إسراف.
وأما أصل البسط الذي هو توسعه بحكمة، فغير منهي عنه لأنه لا ضرر فيه.
وحذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف والتقتير بقوله: {فتقعد ملوماً محسوراً} . فالبخيل الممسك ملوم من الله تعالى.
ومن العباد إذاً من لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه. على أنه سيلوم هو نفسه بعد الموت. والمسرف ملوم من الجميع، ومن نفسه بعد ضياع ما في يده.
(والمحسور) المتعب المضنى، الذي انكشفت عنه القوة، ولم تبق به قدرة على شيء، تقول العرب: حسرت البعير أي أنضيته وأتعبته بالسير، حتى لم تبق به قدرة عليه (1).
والجمل لا يقطع الطريق ويصل إلى الغاية إلّا إذا حافط صاحبه على ما فيه من قوة، فسار به سيراً وسطاً. أما إذا أجهده واستنزف قوته، فإنه يسقط كليلاً محسوراً: فلا قطع طريقه، ولا وصل منزله، ولا أبقى جمله.
فكذلك الإنسان في طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه بحكمة نفع به وانتفع، وبلغ غاية حياته هادئاً راضياً، وإذا بسط يده فيه كل البسط أتى عليه فانقطع النفع والانتفاع، ولم يبلغ غاية حياته إلاّ بأتعاب ومشاق.
وعلم من هذا أن قوله {ملوماً} يرجع للمقتر والمسرف. وقوله: {محسوراً} يرجع للمسرف فقط. ولكن لما كان المحسور هو الذي ذهبت قوته فلا قدرة له على شيء، فقد نقول: إن
(1) قال في اللسان (مادة حسر- 4/ 188): «والعرب تقول: حسرت الدابة إذا سيرتها حتى ينقطع سيرها» .
البخيل أيضاً مبغوض من الناس مخذول منهم، فلا يجد في ملماته معيناً، ولا في نوائبه معزياً، فهو أيضاً ضعيف الجانب لا قوة له. فالمسرف ضيع المال، والبخيل ضيع الإخوان، فكلاهما مكسور الظهر، عديم الظهير.
…
والمخاطب بهذا الخطاب إما مفرد غير معيّن؛ فيشمل جميع المكلفين غير النبي- صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه النضير، وفدك، وخيبر (1)، ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحول، وليس عنده شيء، ولا كان ملوماً ولا محسوراً، بل كان على ذلك صباراً شكوراً مشكوراً.
وإما هو (2) النبي- صلى الله عليه وآله وسلم والمراد أمته؛ وعادة العرب أن تخاطب سيد القوم، تريد القوم، وتعبر بالمتبوع عن أتباعه. ونظير هذه الآية في ذلك:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94]، و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
فالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم غير داخل في هذا الخطاب بإجماع.
وقد تقدم قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} يعني الوالدين، وكان والداه عليهما الرحمة قد توفيا، فلم يدخلا في الخطاب قطعاً فكذلك هنا.
…
قال الإمام ابن العربي في تعليل عدم دخوله- صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الخطاب:
لما هو عليه من الخلال، والجلال، وشرف المنزلة، وقوة النفس على الوظائف، وعظيم العزم على المقاصد.
فاما سائر الناس: فالخطاب عليهم وارد، والأمر والنهي- كما تقدم- إليهم متوجه.
إلاّ أفراداً أُخرجوا من ذلك بكمال صفاتهم، وعظيم أنفسهم، منهم أبو بكر الصديق؛ خرج عن جميع ما يملك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقبله منه الله سبحانه، وأشار على أبي لبابة وكعب بالثلث من جميع ما لهم؛ لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم.
(1) النضير وفدك وخيبر غزوات وسرايا كان النصر فيها للمسلمين، وكان من نتائجها الجزية أو الخراج. وقد أفاد الله تعالى على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة؟ روى ابن سعد في كتابه الطبقات الكبرى (1/ 390) عن عمر بن الخطاب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا: فكانت بنو النضير حبسا لنوائبه، وكانت فدك لابن السبيل، وكانت خيبر. فكان الخمس قد جزأه ثلاثة أجزاء، فجزءان للمسلمين وجزء كان ينفق منه على أهله، فإن فضل منه فضل رده على فقراء المهاجرين.
(2)
معطوف على قوله في بداية الفقرة السابقة: «والمخاطب بهذا الخطاب .. الخ» . أي: وإما هو المخاطب بهذا الخطاب.