الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِرُّ الوالدين
تمهيد
الله هو الخالق، والوالدان- بوضع الله- هما السبب المباشر في التخليق.
والله هو المبتدىءُ بالنعم عن غير عمل سابق، وهما يبتدئان بالإحسان عن غير إحسان تقدم.
والله يرحم ويلطف وهو الغني عن مخلوقاته، وهم الفقراء إليه، وهما يكنفان بالرحمة واللطف الولد، وهما في غنى عنه، وهو في افتقار إليهما.
والله يوالي إحسانه ولا يطلب الجزاء، وهما يبالغان في الإحسان دون تحصيل الجزاء.
فلهذه الحالة التي خصهما الله بها وأعانهما بالفطرة عليها، قرن ذكرهما بذكره؟ فلما أمر بعبادته أمر بالإحسان إليهما في هذه الآية، وفي قوله تعالى:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
ولما أمر بشكره أمر بشكرهما فقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14].
وفي هذا الجمع في القضاء والحكم بالإحسان والأمر بالشكر لهما مع الله تعالى أبلغ التأكيد وأعظم الترغيب.
ثم زاد هذا الحكم وهذا الأمر تقريراً بلفظ التوصية بها في قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8]، ليحفظ حكم الله وأمره فيهما، ولا يضيع شيء من حقوقهما، فكان حقهما بهذه الوصاية، أمانة خاصة، ووديعة من الله عظيمة عند ولدهما، وكفى بهذا داعياً إلى العناية بهذه الأمانة وحفظها وصيانتها.
وكما جاء هذا الجمع في باب الأمر في القرآن كذلك جاء في الجمع بينهما في باب النهي وكبر المعصية، في السنة: ففي الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين» (1).
(1) أخرجه البخاري في الأدب باب 6، والاسئذان باب 35، واستتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب 1.=
وتقدير نظم الآية هكذا:
«وقضى ربك أن لا تعبدوا إلاّ إياه، وبأن تحسنوا للوالدين إحسانا» . فحذف أن تحسنوا لوجود ما يدل عليه وهو إحسانا. وفي تنكيره إفادة للتعظيم، فهو إحسان عظيم في القول والفعل والحال. وتقول أحسنت إليه، وأحسنت به، وأحسنت به أبلغ، لتضمن أحسنت معنى لطفت، ولما في الباء من معنى اللصوق، ولهذا عدي في الآية بالباء ليفيد الأمر باللطف في الإحسان والمبالغة في تمام اتصاله بهما، فلا يريان ولا يسمعان ولا يجدان من ولدهما إلاّ إحساناً، ولا يشعران في قلوبهما منه إلاّ الإحسان.
ومن الإحسان ما يكون ابتداء وفضلاً، ومنه ما يكون جزاء وشكراً فعليه أن يعلم أن كل إحسانه هو شكر لهما على سابق إحسانهما، الذي لا يمكنه أن يكافئه بمثله لثبوت فضيلة سبقه.
وفي تعليق الحكم- وهو الأمر بالإحسان، بلفظ الوالدين المشتق من الولادة، إيذان بعليتها في الحكم، فيستحقان الإحسان بالوالدية سواء أكانا مؤمنين أم كافرين، بارين أو فاجرين، محسنين إليه أو مسيئين.
وقد جاء هذا صريحاً في قوله تعالى:
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. فأمر بمصاحبتهما بالمعروف على كفرهما.
وفي الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما قالت: «قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستفيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة (أي في العطاء والإحسان) أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك» (1).
وهذا الإحسان الواجب لهما، جانب الأم آكد فيه من جانب الأب، وحظها فيه أوفر من حظه. ويشير إلى هذا تخصيصها بذكر أتعابها في قوله تعالى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. وفي الآية الآخرى:
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. فذكر ما تعانيه من ألم الحمل، ومشقة الوضع، ومقاساة الرضاع والتربية.
= ومسلم في الإيمان حديث 143. والترمذي في البر والصلة باب4. والنسائي في التحريم باب3. والدارمي في الديات باب9. وأحمد في المسند (5/ 38،36).
(1)
أخرجه البخاري في الهبة باب29، والجزية باب18، والأدب باب8. ومسلم في التركاة باب50. والدارمي في التركاة باب34. وأحمد في المسند (6/ 355،347،344)
وجاء التصريح بهذا في الحديث الصحيح:
فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «من أحق الناس بحسن صحابتي (1)؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك» . فذكر الأب في الثالث (2). وفي طريق آخر للحديث، ذكره في الرابعة (3).
ولقد كان لها هذا بما ذكر من مزيد تعبها، وضعف جانبها، ورقة عاطفتها، وشدة حاجتها.
فكان هذا الترجيح لجانبها من عدل الحكيم العليم ومحاسن الشرع الكريم.
ومن الإحسان إليهما طاعتهما في الأمر والنهي، ومن عقوقهما مخالفتهما فيهما.
وإنما تحل له مخالفتهما إذا منعاه من واجب عيني، أو أمراه بمعصية، لما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» (4)، وعند الحاكم وأحمد:«لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق!» (5).
ومن الدليل على رجحان جانبهما على الواجب الكفائي:
ما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» (6).
ومن الطريق الثاني، قال عبد الله بن عمر (7) رضي الله عنه:«أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد ابتغاء الأجر من الله. قال: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما» .
(1) الصحابة هنا بمعنى الصحبة.
(2)
أخرجه بهذه الرواية ابن ماجة في الأدب باب 1، من حديث أبي هريرة.
(3)
أخرجه بهذه الرواية البخاري في الأدب باب، ومسلم في البر حديث 1، كلاهما من حديث أبي هريرة. وأخرجه أحمد في المسند (3/ 5) من حديث بهز بن حكيم، و (5/ 5) من حديث معاوية بن حيدة.
(4)
من حديث علي بن أبي طالب. أخرجه مسلم في الإمارة حديث 39. وأبو داود في الجهاد باب 87. والنسائي في البيعة باب 34. وأحمد في المسند (1/ 131،129).
(5)
وجدته في مسند أحمد (5/ 66) من حديث الحكم بن عمرو الغفاري مرفوعاً بلفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الله» . وهو بهذا اللفظ: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» في مصنف ابن أبي شيبة (12/ 546) والدر المنثور للسيوطي (2/ 177) وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي (3/ 145، 10/ 22) وتاريخ أصفهان لأبي نعيم (1/ 133).
(6)
من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. أخرجه البخاري في الجهاد باب 138، والأدب باب 3. ومسلم في البر حديث5. وأبو دأود في الجهاد باب 31. والنسائي في الجهاد باب5. وأحمد في المسند (2/ 172،165،188،193،197،231).
(7)
كذا في الأصل "ابن عمر" والصواب "ابن عمرو" فإن الحديث بهذا اللفظ رواه مسلم في البر والصلة والآداب (حديث رقم 6) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.