الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (1)
* قالَ اللَّه عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الأحزاب: 1].
* * *
قال اللَّه سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} النِّداء هنا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بوَصْفه نبيًّا، وقد يُناديه اللَّه عز وجل بوَصْفه رسولًا، فيُخاطِبه اللَّه سبحانه وتعالى بوَصْفه رسولًا في مَقام الرِّسالة، كما في قوله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67].
و(النبيُّ) مُشتَقٌّ، وأصلها:(النَّبيءُ)، وقيل: أَصلها (النَّبيو) بالواو، فعلى القول الأوَّل يَكون مُشتَقًّا من النَّبَأ، وأُبدِلت الهمزةُ بالياء تخفيفًا، وعلى القول الثاني يَكون مُشتَقًّا من النَّبْوَة، وهي الارتفاع، ولا شَكَّ أن مَقام النُّبوَّة مَقام رفيع، وأن النبيَّ مخُبِر ومخُبَر أيضًا، فهو فَعيل بمَعنى فاعِل وبمَعنى مَفعول.
يَقول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} ، والمُراد به: نبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [{اتَّقِ اللَّهَ} دُمْ على تَقواهُ]، صَرَفَها المُفَسِّر رحمه الله عن ظاهِر لَفْظها؛ لأنَّك إذا أَمَرْتَ أحدًا بشيء فالأصل أنه غير مُتَلبِّس به، فإذا قلت: يا فُلانُ قُمْ. فهل هو قائِم؟ لا، هذا هو الأصل، فالأصل أن الأَمْر إنشاءُ ما لم يَكُن، فإذا قُلتَ: يا فُلانُ قُمْ. أو يا فُلانُ اقْعُدْ؛ فإنه حين توجيه الأمر إليه ليس مُتَّصِفًا بهذا الوَصْفِ.
فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام قال اللَّه سبحانه وتعالى له: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ، فلو أَخَذْنا بظاهِر العِبارة لكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين تَوجيه الخِطاب إليه لم يَكُن مُتَّقيًا، وهذا أمر لا يُمكِن؛ لذلك يَكون مَعنَى {اتَّقِ اللَّهَ} أي: دُمْ على تَقواه؛ ومن هنا نَأخُذ أن الأمر بالشيء قد يَكون أمرًا بتَجديده، وقد يَكون أمرًا بالاستِمْرار عليه، وقد يَكون أمرًا بالتَّفصيل لهذا المَأْمورِ به.
فمثَلًا: إذا قلت: يا أيُّها المُؤمِنُ آمِنْ. فالمَعنى: دُمْ على إيمانك وحَقِّقْه، وفي قوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]، الأمر هُنا:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} أي: داوِموا عليه، لكن فيه تَفصيل، يَعني:{آمَنُوا} مجُمَل، ثُم قال:{آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} فصار إِذَنْ تَوْجيه الأَمْر في الأصل إلى مَن لم يَكُن مُتَلَبِّسا به، هذا هو الأصل، وقد يُوجَّه إليه لطلب الاستِمْرار، وقد يُوجَّه إليه لبَيان التَّفصيل، كما في قوله عز وجل:{آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} .
وقوله: {اتَّقِ اللَّهَ} تَأْتي التَّقوى في القرآن الكريم كثيرًا، فما مَعنَى التَّقوى؟ ومن أين هي مُشتَقَّة؟
نَقول: هي مُشتَقَّة من الوِقاية، ولهذا يَقولون: إن أصل التاء فيها واوٌ، فـ (تَقوَى) بمَعنى:(وَقْوَى)، هذا أَصلُها، وإذا كانت بمَعنى الوِقاية فإن التَّقوى هي أن يَتَّخِذ الإنسان وِقاية من عذاب اللَّه عز وجل، ولا وِقايةَ من عذاب اللَّه تعالى إلَّا بفِعْل أَوامِره واجتِناب نَواهيه، وعلى هذا فنَقول: إن المُراد بالتَّقوى فِعْلُ أَوامِر اللَّه سبحانه وتعالى، واجتِناب نَواهِيه.
ومن المَعلوم أننا إذا قُلْنا: فِعْل أَوامِر اللَّه تعالى، (أَوامِر) مُضاف إلى اللَّه تعالى: أن الإنسان سيَنوِي بهذا الفِعْلِ امتِثال أَمْر اللَّه تعالى، وكذلك إذا قُلنا: اجتِنابُ نَهي اللَّه تعالى، فإن الإنسان سيَجتَنِبه؛ لأن اللَّه تعالى نهَى عنه؛ لأن مجُرَّد الفِعْل بدون نِيَّة ليس بتَقوَى، ومُجرَّد التَّرْك بدون نِيَّة ليس بتَقوَى، لكن لمَّا كان الفِعْل والتَّرْك مُضافًا إلى اللَّه تعالى صار لا بُدَّ فيه من نِيَّة.
قوله رحمه الله: [{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} فيما يُخالِف شَريعتك]، عَطْف قولِه:{وَلَا تُطِعِ} على {اتَّقِ اللَّهَ} من باب عَطْف الخاصِّ على العامِّ؛ لأن تَرْك طاعة هؤلاء من تَقوَى اللَّه عز وجل، فيَكون عَطْفه على التَّقوى من باب عَطْف الخاصِّ على العامِّ، وهذا كثير في القُرآن والسُّنَّة وكلام العرَب.
قوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الكافِر هو الذي صرَّح بكُفْره وأَعلَنَه، وأمَّا المُنافِق فهو الذي أَخفَى كُفْره، وأَظهَر أنه مُؤمِن، فمن أين اشتُقَّ الكُفْر أو الكافِر؟
يَقولون: إن الكُفْر في الأصل: السَّتْر، ومنه:(الكُفُرَّة) وهو غِلاف الطَّلْع؛ لأنه يَستُرُه، هذا في الأصل، وسُمِّيَ الذي لا يُؤمِن باللَّه تعالى كافِرًا؛ لأنه سَتَر نِعْمة اللَّه عز وجل، وجَحَد شَريعته، فصار بذلك ساتِرًا للحَقِّ، وساتِرًا للنِّعْمة التي أَنعَمَ اللَّه تعالى بها عليه.
وأمَّا النِّفاق فإنه مَأخوذ من نافِقاء اليَرْبوع، واليَرْبوع: الدُّويْبة المَعروفة، تَتَّخِذ بيتًا في الأرض وتَحفُر الجُحْر، وتَجعَل له بابًا، وتَجعَل في آخِرِه بابًا مُغلَقًا بشيء من التُّراب، بمَعنَى: أنها تَحفُر فإذا وصَلَتْ إلى مُنتَهى الجُحْر حَفَرَت، إلى أن يَبقَى عليها شيء قليل من طبَقة الأرض، بحيث إذا دفَعه برَأْسه انفَتَح، هذه هي النافِقاء، ويَصنَع ذلك لأَجْل ما إذا فُجِئ من باب الجُحْر خرَج من هذا، فهكذا المُنافِق، إذا خُوطِب
بالإيمان قال: إنه مُؤمِن. فتَخلَّص، كما أنه إذا أَتَى إلى قومه يَقول: إنه كافِر. فيَتخَلَّص من مَلامة هؤلاءِ ومَلامة هَؤلاءِ.
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُمكِن أن يُطيع الكافِر، لكن الذي قد يُمكِن أن يُطيع المُنافِق، لأنَّ المُنافِق لا يُحَسُّ بنِفاقه وكُفْره، ولا يُعلَم عنه، فقد يَغتَرُّ به الإنسان؛ فلهذا قدَّم اللَّه تعالى الكافِرين هنا على المُنافِقين، مع أنه في باب الوعيد يُقدِّم المُنافِقين على الكافِرين، قال اللَّه سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140]، وقال سبحانه وتعالى:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73].
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [فيما يُخالِف شَريعتَكَ]، هذا القَيدُ يَقتَضي تَخصيص النَّهي مع أن النَّهيَ مُطلَق {لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} ، فما الذي حمَل المُفَسِّر على أن يُقيّده بما يُخالِف الشريعة؟
حمَلَه على ذلك:
1 -
أنه لو فُرِض أن الكافِر أو المُنافِق أَمَر بما يُوافِق الشريعة، لكان لِزامًا علينا أن نُطيعه؛ لا لأنه أَمَر، ولكن لأن هذا مُقتَضى الشريعة، هذا وجهٌ.
2 -
ووجهٌ آخَرُ، هو أن يُقال: إن تَقييد المُفَسِّر رحمه الله ذلك بيانٌ للواقِع؛ لأن الكافِر والمُنافِق -لِعَداوتهما لشريعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يُمكِن أن يَأمُرَا إلَّا بما يُخالِف الشريعة، فيَكون هذا القَيْدُ بَيانًا للواقِع، والقيدُ الذي يَكون بيانًا للواقِع لا يُقيِّد، لأنه لا يُراد.
وفي ذلك أَمثِلة، منها: قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فإن قوله:{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قَيْد مُبيِّن للواقِع، وليس المَعنى أن هناك رَبًّا لم يَخلُق وربًّا خلَق؛ والأمثِلة في هذا كثير.
فهنا يُمكِن أن نَحمِل كلام المُفَسِّر رحمه الله في قوله: [فيما يُخالِف شريعتَكَ] على أنه بَيان للواقِع، وهو أن الكافِر والمُنافِق لا يُمكِن أن يَأمُر إلَّا بما يُخَالِف الشَّريعة؛ لأن الكافِر كافِر بها، والمُنافِق أيضًا كافِر بها، لكنه يُظهِر الإيمان.
ثُمَّ قال رحمه الله: [{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بما يَكون قَبْلَ كونه، {حَكِيمًا} فيما يَخلُقه]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، هذه الجُمْلةُ مَوضِعها ممَّا قَبْلها في المَعنى تَعليلية، ووجهُ كَونِها تَعليلًا لما قَبْلها أن اللَّه تعالى لمَّا أَمَر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالتَّقوى ونهاهُ عن طاعة الكافِرين؛ بيَّن أن هذا الأَمْرَ والنهيَ صادِر عن عِلْم وحِكْمة، وأنه عز وجل أَعلَم بما يَكيده هؤلاءِ الأعداءُ من الكُفَّار والمُنافِقين، فلا تُطِعْهم؛ فليسوا أهلَ نُصْح لكَ أبدًا.
وقوله رحمه الله: [{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} بما يَكون قبل كَوْنه]، وهذا التَّقييدُ غير صحيح؛ لأنه تعالى عليم بما يَكون قبل كَوْنه، وبعد كَوْنه: حالَ كَوْنه مَوجودًا، وبعدَ كَوْنه: حالَ كَوْنه مَعدومًا، فعِلْم اللَّه تعالى يَتعَلَّق بالأشياء في أَحوالها الثلاثِ؛ قبل الوُجود، وحين الوُجود، وبعد العَدَم.
أمَّا عِلْم المَخلوق فلا يَتعلَّق بالأشياء في هذه الأَحوالِ كُلِّها:
قبلَ الوُجود مَعلوم أنه لا يَعلَمها.
وحين الوُجود: لنَفرِضْ أنه يَعلَمها.
وبعد العَدَم: قد يَنْساها.
فعِلْم المَخلوق مَحفوف بنَقْصين: جَهْل سابِق، ونِسْيان لاحِق.
أمَّا اللَّه عز وجل فإن عِلْمه كامِل، جُملةً وتَفصيلًا، في جميع الأحوال، قبل الوُجود، وحين الوُجود، وبعدَ العدَم، ولهذا قال مُوسى عليه الصلاة والسلام:{عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} ، فنَفَى عنه الضَّلال الذي هو الجَهْل، والنِّسْيان الذي هو: الذّهول عن الشيءِ بعد عِلْمه.
قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} إِذَنْ نَقول: عَليمًا بما يَكون قبلَ كَوْنه، وبما يَكون حين كونه، وبما يَكون بعد عدَمه في كل الأحوال.
{حَكِيمًا} تَقدَّمَت كثيرًا، وبيَّنَّا أنه مُشتَقُّ من الحِكْمة والحُكْم، وأن حُكْم اللَّه سبحانه وتعالى كَوْنيٌّ وشَرْعيٌّ، وأن الحِكْمة نَوعان أيضًا: غائِيَّة وصُورّيَة، والصُّوريَّة ليس المعنى أنها بالصُّورة فقط، لكن كون الشيء على هذه الصورةِ حِكْمة، والغاية منه حِكْمة أُخرى، فإذا كان كذلك فتكون الأقسامُ أَربَعةً:
1 -
حُكْم مُشتَمِل على الحِكْمة في صورته وغايَته.
2 -
حُكْم شَرْعيٌّ مُشتَمِل على الحِكْمة في صورته وفي غايَته.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} ، وهنا إِشْكال في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ} ؛ لأن المعروف أن الشيءَ الماضِيَ قد مضَى، {كَانَ عَلِيمًا} ، فهل يُفيد أنه الآنَ ليس بعَليم؟ لا؛ لأن (كان) قد تَكون مَسلوبة الزمان، ويُقصَد بها اتِّصاف اسمِها بخبَرها، وتَحقُّق ذلك الاتِّصافِ بدون أن يُلاحَظ الزمَن فيها، وهي كلَّما جاءَت بالنِّسبة إلى اللَّه تعالى وأسمائه وصِفاته، فإنها على هذا البابِ: أنها تُفيد تَحقُّق اتِّصاف المَوْصوف -الذي هو اسمُها- بصِفَته -وهو خَبَرُها-، بقَطْع النَّظَر
عن الزمان، فعليه نَقول: إن الفِعْل هنا مَسلوب الزمان، يَعني: لم يَزَلْ ولا يَزال عَليمًا حكيمًا.
وهلِ العِلْم والحِكْمة من الصِّفات الذاتية أو الفِعْلية؟
الجوابُ: من الصِّفات الذاتية؛ لأن اللَّه عز وجل لم يَزَل ولا يَزال عَليمًا، ولم يَزَل ولا يَزال حَكيمًا. واللَّه تعالى أَعلَمُ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن اللَّه سبحانه وتعالى ناداه بوَصْف النُّبوَّة مع الأنبياء الذين سِواهُ، يُنادِيهم اللَّه سبحانه وتعالى بأسمائهم:{يَامُوسَى} [المائدة: 22]{يَاعِيسَى} [المائدة: 116]، وما أَشبَهَ ذلك، أمَّا النبيُّ صلى الله عليه وسلم ما ناداه إلَّا بوَصْف النُّبوَّة أو الرِّسالة.
فإن قلت: أليْس اللَّه عز وجل قد قال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144]، وقال:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]؟
فالجوابُ: أن هذا ليس مقامَ نداء خطاب لكنه مقام خبر.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وجوبُ التَّقوى على الأُمَّة، فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يُؤمَر بالتَّقوى فغيرُه من بابِ أَوْلى هذا وجهٌ. وجهٌ آخَرُ: أن الخِطاب المُوجَّه للرسول صلى الله عليه وسلم ومُوجَّه له ولأُمَّته ما لم يَقُم دليل على تَخصيصه.
وبهذه المُناسَبة فالخِطابات المُوجَّهة للرسول عليه الصلاة والسلام: إمَّا أن يَقوم دليل على العُموم، بأن يَكون في نفس الخِطاب ما يَدُلُّ على العُموم، أو فيه ما يَدُلُّ على الخُصوص، أو فيه ما لا يَدُلُّ على هذا ولا على هذا.
فالذي فيه ما يَدُلُّ على العُموم للعُموم مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1].
والَّذي فيه ما يَدُلُّ على الخُصوص مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1].
والذي فيه ما لا يَدُلُّ على هذا ولا هذا، مثل هذه الآيةِ، ولكنَّ حُكمَها عامٌّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ولأُمَّتِه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم عبدٌ مأمورٌ مُكلَّفٌ، لأَمْره بالتَّقوى، وعدَم إطاعة الكافِرين والمُنافِقين.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن الإنسان مَهما بلَغ من المَرتَبة، فإن التَكاليف لا تَسقُط عنه؛ وعلى هذا فيَتَفرَّع من هذه القاعِدةِ: بيانُ ضَلال أُولئكَ الصوفيةِ الذين يَقولون: إن الإنسان إذا وصَل إلى درجة المُعايَنة سقَطَت عنه التكاليفُ! .
قُلنا: لا؛ لأنه لا أحَدَ يَبلُغ مَرتَبة النبيِّ عليه الصلاة والسلام عند اللَّه سبحانه وتعالى، ومع ذلك لم تَسقُط عنه التَّكاليفُ.
فإن قالوا: إن اللَّه تعالى يَقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، يَعنِي: حتى تَصِل إلى درجة اليَقين، ثُم تمَتَنِع عن العِبادة؟
فالجَوابُ: أن المُراد باليَقين هنا هو الموت، قولهم -أي: أصحاب الجحيم- كما قال تعالى عنهم: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 46 - 47]؛ أَتاهم اليَقينُ، يَعنِي: أنَّهم وصَلوا إلى درجة اليَقين؟ أبدًا، إذ ماتوا على التكذيب ولم يَصِلوا إلى درجة اليَقين، وإذا كان هؤلاء يَقولون: إننا وصَلْنا إلى درجة يَقين يَكونون به من أصحاب الجَحيم، فنحن نُوافِقهم على ذلك.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: تَحريمُ طاعة الكافِرين والمُنافِقين والرُّكونِ إليهم؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن الكافِر والمُنافِق لا يُمكِن أن يَكون ناصِحًا للمُؤمِنين أبَدًا، ولو كان يُمكِن أن يَكون فيه نُصِح ما نَهَى تعالى عن طاعتهم مُطلَقًا، لأن الناصِح يُطاع.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثبات اسمَيْن من أسماء اللَّه تعالى، وهُما: العليم والحكيم.
وهل عِلْم اللَّه سبحانه وتعالى يَشمَل الحاضِر والمُستَقبَل والماضي؟ وهل هو مُتعَلِّق بالواجِب أو بالمُستَحيل أو بالمُمكِن أو بالجميع؟
الجوابُ: إذا لم يُمكِن أن يَكون في السَّموات أو في الأرض آلهِة غير اللَّه تعالى، وكذلك {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]، فإن هذا من المُستَحيل.
ومِثال تَعلُّق عِلْم اللَّه سبحانه وتعالى بالواجِبِ كثير جِدًّا، فكُلُّ ما أَخبَر اللَّه تعالى به عن نفسه فهو من العِلْم الواجِب؛ لأن اللَّه تعالى يَجِب له صِفات الكمال، فإذا أَخبَر عن نَفْسه بهذه الصِّفاتِ صار مُتعَلِّقًا بالواجِب.
أمَّا المُمكِن فمنه قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} [الرعد: 8]؛ لأن حَمْل الأنثى وغيض الأَرحام وزيادة الأرحام مُمكِن.
إِذَنْ: فصار عِلْم اللَّه سبحانه وتعالى شامِلًا لكل شيء جُملةً وتَفصيلًا، حاضِرًا ومُستَقبَلًا وماضِيًا واجِبًا ومُمكِنًا وجائِزًا؛ ولهذا يَقول السَّفارينيُّ في عَقيدته:
وَالْعِلْمُ وَالْكَلَامُ قَدْ تَعَلَّقَا
…
بِكُلِّ شَيْءٍ يَا خَلِيلي مُطْلَقَا
(1)
فائِدة: الواجِب عندهم ضِدُّ المُستَحيل والمُمكِن، لأنهم يَقولون على الأشياء ثلاثة أُمور: إمَّا واجِبة -يَعني: لا بد من وُجودها، وليس الواجِب الذي يُثاب فاعِله ويَستَحِقُّ العِقابَ تارِكُه-، بل الواجِب الذي لا بُدَّ منه، والمُستَحيل الذي لا يُمكِن، والمُمكِن الذي هو جائِز الوقوع وعدَمه.
* * *
(1)
العقيدة السفارينية (ص: 52).