الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (25)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25].
* * *
ردَّهُم أي: أَرجَعهم على أَدْبارهم خائِبين، {الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعنِي: الأحزابَ من قُرَيْش وغيرِهم.
وقوله تعالى: {بِغَيْظِهِمْ} الباء هنا للمُلابَسة، أي: مُتلَبِّسين بالغَيْظ، الجارُّ والمَجرور في مَوْضِع نصب على الحال، يَعنِي: أنهم رجَعوا مُغتاظِين غايةَ الغَيْظ، ووجهُ اغتِياظهم أنهم جاؤُوا بهذا الجَمعِ الكثيرِ الذي لم يُشْهَد له نَظِير في ذلك الوقتِ، يُريدون القَضاء على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك حصَل لهم التَّعَب والعَناء والجُوع والبَلاء، واَخِر الأَمْر أَنْ رجَعوا هارِبين، ولا شَكَّ أن مِثْل هذا سَوف يُؤَثِّر على الإنسان، فسوف يَملَأ قلبه غَيْظًا وحَسْرةً وندَمًا، كيف يَأتِي بهذا الجَيْشِ الذي جَمَع له وأَبدَى فيه وأَعاد وآخِر الأَمْر أن يَنقلِب ولا يَكون معركة؟ ! ولهذا قال تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} .
وقوله: {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} لا مِن أَمْر الدُّنيا ولا مِن أَمْر الآخِرة، أمَّا أَمْر الآخِرة فإنهم لن يَنالوا خيرًا بقِتالهم للنبيِّ عليه الصلاة والسلام على كلِّ حال. وأمَّا أَمْر الدُّنيا الذي يَرَوْنه هم خيرًا لأنفسهم فما نالوه؛ فما نالوا خيرًا لا في الدِّين ولا في الدُّنيا
-وللَّه الحمدُ- حتى ما يَظُنُّونه خيرًا من هَزيمة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والقضاء عليه وعلى أصحابه ما حصَل لهم ذلك، لم يَنالوا خيرًا.
وقوله تعالى: {خَيْرًا} نكِرة في سِياق النفي (لم) فتُفيد العُمُوم يَعنِي: ما نالوا أيَّ خيرٍ لا قليلًا ولا كثيرًا، وهذه من نِعْمة اللَّه سبحانه وتعالى وأَضاف اللَّه تعالى الرَّدَّ إلى نَفْسه {رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ؛ لأن رُجُوعهم ليسَ بِحَوْل النبيِّ عليه الصلاة والسلام ولا بقُوَّته ولا بحَوْل أصحابه رضي الله عنهم ولا قُوَّتهم، ولكنه بحَوْل اللَّه تعالى وقُوَّته؛ ولهذا قال تعالى:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} .
يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [{لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} مُرادهم من الظَّفر بالمُؤمِنين {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}] والحمد للَّه! كفَى اللَّهُ تعالى المُؤمِنين القِتال، يَعنِي: أن اللَّه تعالى أَراح المُؤمِنين من القِتال فلم يُقاتِلوا، وأمَّا ما حصَل من المُناوَشات التي حصَلَت لبعض الصحابة مع بعض المُشرِكين، فإذا لا يُعَدُّ قِتالًا؛ لأن الكلام على الجَيْش كله جَمعاءَ فإنه لم يَحصُل فيه قِتالٌ.
وقوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ونِعْمَ الحسْبُ هو الكَفيُّ عز وجل.
وقوله رحمه الله: [بالرِّيح والمَلائِكة] الرِّيح سبَق أن اللَّه تعالى أَرسَل عليهم الرِّيحَ الشرقيةَ البارِدة الشديدة، وأنها كفَأَت قُدُورهم وزَلزَلْت خِيامهم، ورَمَتْهم بالحِجارة تَحمِلها الرِّياح مع البَرْد الشَّديد، حتى كانوا يَصطَلون بالنار، ويَقولون: النَّجا النَّجا، وأمَّا المَلائِكة فإن اللَّه سبحانه وتعالى سلَّط المَلائِكة عليهم بأن تُلقِيَ في قُلوبهم الرُّعْب والفزَع والخَوْف، وتوحِّشهم حتى يَنصَرِفوا من المكان، وهذا من نَصْر اللَّه عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: [{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} على إِيجاد ما يُريده {عَزِيزًا} غالِبًا على أَمْره]
{وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا} القُوَّة صِفةٌ يَتمَكَّن بها القويُّ من فِعْل ما يُريد بدون ضَعْف، وهي أعلى من القُدْرة؛ لأن القُدْرة صِفةٌ يَتمكَّن بها القادِر من فِعْل ما يُريد بدون عَجْز، فالقُوَّة أعلى، وانظُرْ إلى رَجُلَيْن حمَلا صَخْرةً، أحدُهُما حمَلها لكن مع نوعٍ من المَشقَّة، فنَقول: هذا قادِر، ولكن ليس بقَوِيٍّ، والآخَر حمَلها وكأنها شيءٌ بَسيطٌ نَقول: هذا قوِيٌّ.
وقوَّةُ اللَّه سبحانه وتعالى لا مُنْتهَى لها، ولَا مِقْياسَ لها، بَل هي فَوْق ما يَتصوَّره الإنسان، لمَّا قالت عادٌ:{مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} قال اللَّه عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16].
وأمَّا قوله تعالى: {عَزِيزًا} فتقول رحمه الله: [غالِبًا على أَمْره]، فالعزيز من أسماء اللَّه تعالى له ثَلاثة مَعانٍ:
1 -
عَزيز القَدْر.
2 -
وعَزيز القَهْر.
3 -
وعَزيز الامتِناع.
أمَّا عزيز الامتِناع: فمَعناه: أنه يَمتَنِع أن يَناله سبحانه وتعالى سوءٌ أو نَقْصٌ في جميع صِفاته وجميع أَفْعاله.
وأمَّا عِزَّة القَدْر: فمَعناه: أنه ذو قَدْر عظيم رفيع مثلَما تَقول: فُلَان عَزيزُ النَّفْس. يَعني: له عِزَّة وترَفُّعٌ عن الدَّنايا.
وأمَّا عِزَّة القَهْر التي من الغَلَبة: فمَعناها أنه غالِب على كل شيء حتى بالجاهِلية، يَقول الشاعِر:
أَيْنَ المَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ
…
وَالْأَشْرَمُ المَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ
(1)
واللَّهُ عز وجل هو الغالِب على أَمْره وهو غالِب على كل شيء، لا شيءَ يَكون أمام غلَبَته.
فصار العزيزُ له ثلاثة مَعانٍ: عِزَّة القَدْر وعِزَّة القَهْر، وعِزَّة الامتِناع، وكلها ثابِتةٌ للَّه عز وجل.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: بَيان قُدْرة اللَّه سبحانه وتعالى حيث رَدَّ هذه الأحزابَ الكثيرة العَظيمة مع ما في قُلوبهم من الغَيْظ والحنَق الشديد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ردَّهم اللَّه سبحانه وتعالى بغَيْظهم ما اشتَفَوْا، ولا نالوا مُرَادهم قال اللَّه تعالى:{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} ؛ ولهذا أَثْنى النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ربِّه بهَزيمة الأحزاب، فقال:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ"
(2)
.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن هؤلاءِ الأحزابَ قدِ امتَلَأت قلوبُهم غَيْظًا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {بِغَيْظِهِمْ} ، فإن الباء للمُصاحَبة وللمُلابَسة.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن الأحزاب لم يَنالوا مع هذا التَّعَبِ الشديد خيرًا لا في الدُّنيا
(1)
نسبه ابن هشام في السيرة (1/ 53) لنفيل بن حبيب.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب العمرة، باب ما يقول إذا رجع من الحج أو العمرة أو الغزو، رقم (1797)، ومسلم: كتاب الحج، باب ما يقول إذا قفل من سفر الحج وغيره، رقم (1344)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ولا في الآخِرة، فما نالوا خيرًا في الدنيا من غنائِم وغيرها ولا نالوا خيرًا في الآخِرة من الأُجور والثَّواب.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن اللَّه عز وجل كفَى المُؤمِنين القِتالَ بعد هذه الغَزوةِ؛ ولهذا لم يُقاتِل النبيُّ عليه الصلاة والسلام أحَدًا من المُشرِكين بعد تِلك الغَزوةِ حتى قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: "الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَنَا"
(1)
؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى قال: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} في هذه الغَزو وما بعدَها، فإن العرَب لم يَقوموا بغزوٍ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد هذه.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن اللَّه عز وجل يُدافِع عن المُؤمِنين؛ لقوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} يُؤْخَذ من الآية: أنه خصَّه بالمُؤمِنين فدَلَّ هذا على أنه كَفاهم القِتال لإيمانهم؛ فالمُؤمِنون يَكفيهم اللَّه سبحانه وتعالى ما أَهمَّهم؛ فيُدافِع عنهم لإِيمانهم كما قال تعالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61].
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: إثبات القُوَّة والعِزة للَّه تعالى في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} ، وفيها إثبات هَذين الاسمَيْن من أسمائه، وهما: القويُّ والعَزيز.
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق، رقم (4110)، من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه.