المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (73) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (73) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ

‌الآية (73)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 73].

* * *

المعنَى: أنَّ اللَّهَ عز وجل بيَّن لنا الأمانةَ، وأنَّه عرَضها علَى السَّموات والأَرض والجِبال فأبَيْنَ أنْ يَحمِلْنَها وحَملَها الإنسانُ لِأَجْل هذِه النَّتيجة:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هؤلاءِ ثلاثةُ أقسامٍ انقَسم إليها الخَلق:

الأوَّل: المنافِقون.

الثَّاني: المشركُون.

الثَّالث: المُؤْمِنون.

فانتَبِهْ -يا أَخِي- وانظُر سَبيل مَن تَسلُك!

فالمنافِقون: هُم الذِين يُظهرُونَ الإسلامَ ويُخفون الكُفْر، فيُظهرون الإِسلام ويَقُولون: أَشْهد أنْ لا إله إلا اللَّه وأَشْهد أنَّ محمدًا رسولُ اللَّه، ويَحضُرون الصَّلاة، ويَتصدَّقون، لكنْ قُلوبُهم خَرِبة خالِية مِن الإِيمان، أعاذَنِي اللَّهُ وإيَّاكُم مِن ذَلِك! اللهُمَّ أعِذنا مِنَ النِّفاق.

ص: 537

وهذا الصِّنف مِن النَّاس خرَج حِينما صارَ للمُسلمين قوَّة وعزَّة، لكن في مكَّة قبلَ الهِجرة ليسَ هناكَ مُنافق، فالنَّاس إمَّا مُؤمن صَريحٌ وإمَّا كافِر صريحٌ، لكن لمَّا قَوِيت شَوْكة المؤمنين وخصوصًا بعد أنْ هُزم الكفار في بَدر -وقد كانَت في السَّنة الثَّانية مِن الِهجرة في رَمَضان-، فلمَّا هُزم المُشركون بدَأ النِّفاق؛ لأنَّهم -أي: المنافِقين- عرَفوا أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم سيَظهر دِينه، فصارُوا يُظهرُون الإِسلام ويُبطنون الكُفر.

وأنزَل اللَّهُ فِيهم سُورة كامِلة من طِوال المُفصَّل، وهِي قولُه تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فكانُوا يَحضُرون الصَّلاةَ، لكنَّهم إذا قامُوا إلى الصَّلاة قامُوا كُسالَى، ويَتصدَّقون لكنْ رياءً وسُمعةً، ويأتُون إلى الرسُول عليه الصلاة والسلام ويقولون: نَشهد إنَّك لرسول اللَّه. سبحان اللَّه! فقال اللَّه فيهم: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] أي: لكاذِبون في قولهِم: (نَشهَد)؛ لأنَّهم يقولون بأفواهِهم ما ليسَ في قلوبِهم.

ولذَلِك إذا احتاجُوا إلى هذه الكَلِمة عجَزوا عَنها، فإنَّ المنافق إذا دُفن في قَبره وتولَّى عنه أصحابُه أتاه مَلَكان يَسألانه: مَن ربك، ومَا دِينك، ومَن نبيك؟ فيقول: هاه هاه لا أدْرِي، سَمعت الناسَ يقولون شيئًا فقُلتُه! فيقول: لا أدري؛ لأنه ليسَ في قلبِه إيمانٌ، والآخِرة مبنيَّة على السَّرائر لا على الظَّواهر، أما الدُّنيا فمَبنية على الظَّواهر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حِين استُؤذن في قَتل المنافقين، قال:"لَا يتحدَّث الناسُ أنَّ محمدًا يَقتُل أصْحابَه"، وفي الآخِرة العِبرة بالسَّرائر:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 9 - 10]، {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 8 - 9] اللهم طهِّر سرائرِنَا يا ربَّ العالمين، وأمِتنا على الإيمان والتَّوحيد.

ص: 538

فالمنافِقون لهُم رَوَغان عن الحقائِق، ولذَلك كان مِن صِفاتِهم أنَّهم إذا حدَّثوا كذبوا، وأَكْذب حديثٍ أنَّهم يقولُون: نَشهد أنْ لا إله إلا اللَّه وأنَّ محمدًا رسول اللَّه وهم كاذِبون في هذا فلا يُؤمِنون به، وإذا عاهَدوا غَدَروا، فلا يُوفون بالعَهد؛ لأنَّه ليسَ عندهم إيمان يَحملهم على الوفَاء بالعَهد، وإذا خاصَموا فجَروا؛ فجَحدُوا ما يَجب عليهم وادَّعوا ما ليسَ لهُم، وإذا اؤتمنُوا خانُوا.

فهَذه علاماتُ النِّفاق، فاحذَر أنْ تتَّصفَ بواحدةٍ مِنها؛ لأنَّ نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم حذَّرنا مِنها؛ والآنَ لو نَظرت فِي واقِع المُسلمين اليومَ لوجَدت كثيرًا مِنهم إذَا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أَخْلف، وإذا خاصَم فجَر، وإذا اؤتمِن خانَ.

إنَّ كثيرًا مِنَ المسلمين وليسَ أكثرُهم، فالحمدُ للَّه أكثرُهم مُستقيم، لكن فِيهم مَن إذا حدَّثك كذَبك، وإذا وعَدك أخلَفك، وإذا عاهدَك غدَر بك، وإذا خاصَمك فجَر بك، ومَا أكثرَ الذين يتُون إلينا يَشكون مِن كُفلائهم! أتَى به عَلى عَقد مَعلوم فِيما بينهم ثُم لا يَفِي بالعَهد ولا يَفِي بالعقد، يُماطل بالأُجرة وربما يُنكرها، ويُؤذي العامِل ويحمِّله ما ليس واجبًا عليه.

وهناك أيضًا مَن إذا اؤتمن خان، وما أكثرهم! إذا اؤتمِنوا خانُوا، وما أكثرَ الخِيانة في كثيرٍ مِن الناس! ومن ذلك -مثلًا- أن يَعرض الإنسانُ سِلعته فيأتِيه الزَّبون ليَشتري فيقول: كم قِيمة هذه؟ فتقول: ألف ريالٍ، وقيمتُها في الحَقيقة خَمس مئة، لكن استغل فُرصة جهل هذا المشترِي بالثَّمن وقال: بألفِ ريال، فهَذا جَمَع بَين الكذِب والخِيانة والغَدر، ثلاثُ صفاتٍ من صفاتِ المنافِقين، ومَا يَدري أنَّ ما ترتَّب على هذا الكذِب مِن كَسب مادِيٍّ فهو حرام، ويُوشك من أَكل الحرام ألَّا تُستجاب دَعوتُه؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم ذكَر الرجُل يُطِيل السَّفَر أشْعَث أَغْبر، يَمُد يَدَيْه إلى السَّماء: يا ربِّ يا ربِّ، ومَطعمه حرَام، ومَلبسُه حَرام، وغُذِي بالحَرام، فأنى يُستجاب لذلك؟ ! .

ص: 539

ومن الخِيانة في الأمانةِ: مَا يَفعلُه كثيرٌ مِن أَولياءِ النِّساء في التَّزويج، فتَجده يَخطب منه الرجلُ الصالحُ المستقيمُ في دِينه وخُلُقه، ولكِنْ إذا عرَف أنَّه لن يُعطيه مالًا ردَّه، وقال: البِنت صَغيرة، البِنت مَخطُوبة لغَيرك، وما أَشْبه ذلك، ثم يزوجها ابن عمها الذي ليس عنده خُلق ولا دِين، أو يُزوجها مَن ليس ابنَ عمِّها ولكنْ أكثرَ الدراهمَ لأبيها، وهذه واللَّه خِيانة، وستُطالبه البِنت يوم القيامة، وحينئذٍ يفِر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبَنيه؛ فلماذا تَحجُب المرأةَ عن خاطبها الكُفْء مِن أجْل مَصْلحتك الخاصَّة؟ أليسَ هذا مِن الخيانة؟ ! أليسَ هذا مِن الظلم؟ ! سبحان اللَّه! لو أنَّك أنْت -أيُّها الأبُ- خَطَبت امرأةً ثم مُنعت منها لاستكْبرت هذا الشيء وعدَدْته ظلمًا وجورًا.

والعجَب: أنَّ هؤلاء يَظلمون أقربَ النَّاس إليهِم وهُنَّ بناتُهم اللاتِي هنَّ بَضعةٌ من الأبِ -قِطعة وجُزء مِنه-، ومع ذلك يَظلمها هذا الظُّلم، فيحَجُرُها لابنِ عمِّها، أو يقول: لا تتزوَّجي رَجلًا مِن غَير القَبِيلة، أو ما أشبه هذا! هذا مِن المُنكر، وللقُضاة أن يتدخَّلوا في هذا الموضوع، بمَعنى: أن المرأةَ إذا خَطبها كُفءٌ لها وأبَى أبوها فلَها أن ترَفع الأَمر إلى القاضي ويقول لأبِيها: زوِّجها وإلَّا زوجتُها أنا أو مَن يليك في الوِلاية مِن عَصَبتها.

ومِن الخِيانة -وهي مِن صِفات المنافِقين-: ما ذَكره اللَّه عز وجل في قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3]، إذا استوفَى لنَفسه استوفَى كاملًا، وإذا كالَ لغَيره نَقَص، {يُخْسِرُونَ} أي: يَنقُصون، قال اللَّه عز وجل:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6].

ص: 540

ومن الخِيانة في الأمانةِ: ما يَفعله بعضُ الناس في أهلِه، يُرضِيهم بما حرَّم اللَّه عليهم، فيَجلب لهم مِن وَسائل الإعلامِ المَنظورة والمقروءة والمسمُوعة ما فِيه البَلاء والشَّقاء، وهذا خِيانة للأمانةِ، وسَوف يُحاسب عِند اللَّه عز وجل يوم القيامة، لقَول اللَّه عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، فجعَل وِقاية الأهل كوِقاية النَّفس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الرَّجُل راعٍ في أهله ومَسؤولٌ عَن رعيَّته"، مَسؤولٌ أمامَ اللَّه يومَ القِيامة. أسألُ اللَّهَ أن يُعيننِي وإيَّاكم على أداءِ هذِه الأمانةِ الكبرَى.

فعَليك أن تُوجِّه أهلَك مِن بنينَ وبناتٍ وزوجاتٍ وغيرهِم ممَّن لك ولايةٌ عليهم، أن توجِّههم إلى الطَّريق السَّوِي، الطَّريق المُستقيم، ولا تظُنَّ أنَّك بَرِيء مِن المسؤُولية أبدًا، فقَد حمَّلك إياها اللَّه ربُّ العالمين وحملك إيَّاها رسولُ ربِّ العالمين محمدٌ صلى الله عليه وسلم.

ومن النفاق: أنَّ بعضَ الناس يُرائِي، بمعنى: أنه يَفعل العبادَة ليَقول الناس: إن فلانًا عابد. اللهُم أعِذنا مِن الرِّياء! "ومَن راءَى راءَى اللَّهُ به"، وسَوف يَفضحُه إمَّا في الدُّنيا وإمَّا في الآخِرة؛ ومن ذلك أيضًا: أن يتصدَّق بشيءٍ أمامَ الناس ليقُولوا: فلانٌ كريمٌ، لا لِيتقرَّبَ إلى ربِّ العالمين، وهذا الرياء مبطلٌ للعمل، قال اللَّه عز وجل في الحديث القُدْسي الصَّحيح:"أنا أغنَى الشُّركاء عَن الشِّرك، مَن عمِل عملًا أشرك فيه مَعِيَ غَيري تركتُه وشِرْكه"، ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عَن الرجُل يُقاتل أعداء اللَّه، يُقاتل شجاعة، ويُقاتل حَميَّة، ويُقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل اللَّه؟ قال:"مَن قاتَل لتكون كَلمةُ اللَّه هي العُليا فهو في سبيل اللَّه".

فالمُراءاةُ في العَمل محُبِطة له، وماذا يَنفعك الناسُ إذا راءَيتَهم؟ ! وماذا يضرُّونك

ص: 541

إذا أخلَصْتَ العمل للَّه وتَركْتَهم؟ ! إنَّهم لَن يَضرُّوك شيئًا بالإخلاص، وإنَّهم يضرُّونك بالرِّياء، وأنت الذِي أضرَرْت بنَفْسك. فاحذَرْ أخِي مِن النِّفاق، احذَر مِن النِّفاق العقَدي والعمَلي، فالعقَدي في القَلب -أجارني اللَّه وإيَّاكم منه-، والعمَلي بالجَوارح.

وقال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} .

المشرِك: مَنِ اتخذ مع اللَّه إلهًا يَعبُده، أوِ اتَّخذ معَ اللَّهِ ربًّا يَعتقِد أنَّ لَه تَدبيرًا في الكَون، والمُشرِك كافرٌ واضِحٌ وليس يُنافِق، فهُو يُظهِر شِرْكه عَلَنًا ويُقاتِل المُؤمِنين مِن أَجْلِه، مِثل مُشركِي قُرَيْشٍ، ألَيْسُوا قاتَلُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عَمْدًا؛ أليسُوا أَخْرجُوه وأصحابَه مِن دِيارِهم؟ أليسوا يُسيئون إليه بالقَول وبالفِعل؟ فيقُولون: إنَّه ساحرٌ، إنَّه مجنونٌ، إنَّه كاذِب؛ وأساؤُوا إليه بالفِعل أيضًا، فقَد كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ ساجدًا تَحتَ الكَعبة، آمَنُ مَكانٍ على الأرضِ ذلِك المكانُ، وهُو محُترَم مُعظَّم عِندَ قُريشٍ إلَّا مَع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فكانَ ساجدًا للَّه عز وجل فقالُوا: مَن يَذهبُ إلى جَزور بنِي فُلان ويأتِي بسَلاها -القَذِر المكروه مَنظرًا- ويَضعُه على ظَهر محمَّد؟ فانتدبَ لذَلِك أشْقاهُم والعِياذ باللَّه! فذهَب وأتَى بسَلى النَّاقة -الذِي يَخرج مِنها عِندَ الوِلادَة-، فألقَى السَّلى على ظَهْر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهُو ساجِدٌ، وفي هَذا إهانة للرَّسول، بل وإهانةٌ للمَسجِد الحَرَام، والعَجَب أنَّه لو جاءَ بَدوِيٌّ جاهِلٌ يَسجُد تَحتَ الكَعْبة لعَظَّمُوه واحترَمُوه، وهَذا النبيُّ الكَرِيم الذِي هُو أَوْلَى بالكَعْبة مِن هؤلاءِ المشركِين يُفعل به هكَذا! لأنَّ المشركِين لا يُبالون، فهُم يُعلِنون بشِرْكهم ولا يُبالون، ولَيس عِندَهم نِفاقٌ، هَذا الصِّنف الثَّاني مِن النَّاس.

الصّنف الثَّالث: قالَ سبحانه وتعالى: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

ص: 542

[الأحزاب: 73]، اللهُمَّ تُبْ عَلَينا يا ربَّ العالِمين! يتُوب اللَّهُ على المؤمِنين الموحِّدين الذِين ليسَ عندَهم نفاقٌ، فهُم موحِّدون ضِد المشركِين، وهُم خالِصون ضِد المنافقِين، فيتُوب اللَّهُ علَيهم، حتَّى لو أنَّهم تابُوا مِن الشِّرك ومن النِّفاق تابَ اللَّه علَيهم؛ لقَول اللَّه تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

وكَم مِن مُشرِك مُنابِذ للدَّعوة الإسلاميَّة تابَ فتابَ اللَّه عَليه، فهَذا عُمر بنُ الخطَّاب رضي الله عنه كانَ ضِد الدَّعوة الإسلاميَّة، فأَسْلم وكانَ الجليفةَ الثَّاني في هَذِه الأُمَّة. وخَالِدُ بنُ الولِيد، وعِكرمة بن أبي جَهْل، وغيرُهم مِن صَنادِيد قُريش وكُفَّارها أَسلمُوا فتابَ اللَّه علَيهم.

وهذا أبُو سُفيان زَعيم قُريش كانَ يَقول يومَ أحُد: اعلُ هُبَل؛ لأنَّ أبا سُفيان لمَّا انتَهت امحرب وصارتِ الهزيمةُ على المُسلمِين -لأنَّهم حصل مِنهم ما يُوجب الهزيمةَ-؛ افتَخر وقال: أفيكُم محمَّد؟ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُجِيبُوهُ" إهانةً له، وحتَّى يربُو بنَفسه بعدَ ذلِك ويَفتخر؛ فانظُر إلى الحِكمة النبويَّة، وهكَذا وقَع، ثُم قال: أفيكُم ابن أبي قُحَافة؟ أفيكم عُمَر؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا تُجِيبُوهُ" حينئذٍ افتَخر وانتَفخ، ورأَى أنه حصَل على كُل شيءٍ، فقال: اعلُ هُبَل. وهُبل صَنَم لقُريش في وَسط الكعبة، والمعنَى: ما أعْلاك اليوم! اليومَ أنتَ العالي!

ثُم قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أجِيبوه"، فالآنَ حَمِيَ الوَطِيس فقَد وصَلَتِ المسألةُ إلى البارِي عز وجل، فقال:"أجِيبوه"، قالوا: بماذا نُجيبه؟ قال: "قولوا: اللَّه أعلى وأجَلُّ"، فقالوا:"اللَّه أعلى وأجَلُّ"، فإذا كنتَ اليومَ تَفتخِر بصنَمك بأنَّه عالٍ فاللَّه أعلى وأجَلُّ؛ ثم قالَ أبو سُفيان -لما رُدَّ عليه بالتَّوحيد أتَى عن طَريق الرسالة-: يَومٌ بيومِ بَدْر

ص: 543

والحرْب سِجال؛ ويومُ بدرٍ كانَ النَّصْر للمُسلمِين، وقُتِل مِن صَنادِيدِ قُريش وكُبَرائهم ما هو مَعلوم؛ فقال: يَومٌ بيومِ بَدْر، أي: اليومَ غَلبْناكُم، وأنتُم غلبتُمونا يومَ بدر، والحربُ سِجال، أي: مرَّة لكم ومرَّة عليكم! . فأجابُوه: (لا سَواءَ! )؛ أي: بَيْن اليَومَيْن، فقَتْلانا في الجنَّة وقَتْلاكم في النَّار؛ وهل هذانِ اليومانِ على حدٍّ سواءٍ بعدَ أن كانَ قَتلَى المسلِمِين في الجنَّة وقَتلَى الكُفَّار في النَّار؟ الجواب: لَا.

والمقصودُ: مِن هذا أنَّ المشركِين يُصرِّحون بمُنابذة المؤمِنين، وأنَّ الإنسانَ إذا تابَ ولو كانَ مُشركًا مُنابِذًا تابَ اللَّه عَليه؛ فهَذا الرجُل أبو سُفيان أَسْلم وصارَ مِن الصَّحابة، لكنَّه تأخَّر إسلامُه فتأخَّرت مَرتبتُه.

إذَن: مَن تابَ تابَ اللَّه عَليه، حتَّى مِن الشِّرك، وحتَّى مِن النِّفاق، وحتَّى مِن الاستِهزاء باللَّهِ وآياتِه.

والدَّليل على أنَّ التَائب من النِّفاق يتُوبُ اللَّه علَيه قولُ اللَّهِ عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 145 - 146]، لكنْ لَاحِظْ أنَّ اللَّه تعالى ذكَر أشياءَ مُهمَّة:

1 -

{الَّذِينَ تَابُوا} أي: رجَعوا مِن النِّفاق إلَى الإِيمانِ الخالِص.

2 -

{وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أي: توكَّلوا عَليه واعتَصَمُوا بِه.

3 -

{وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} .

فهذه ثلاثةُ أوصافٍ؛ {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .

والمُستهزِئ باللَّهِ وآياتِه هَل تَصحُّ توبتُه؟

ص: 544

الجواب: نعَم تَصحُّ، والدَّليل: قولُ اللَّه عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] أي: سأَلْتَ المستهزِئين، لأنَّهم كانوا يَستهزِئون ويقُولون: ما رأَيْنا مِثلَ قُرَّائنا هؤلاء -يَعْنون: النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه- أَرْغَب بُطونًا ولا أَكْذبُ ألسنًا ولا أَجْبنُ عندَ اللِّقاء. وكذَبوا واللَّهِ، فهذِه الأوصافُ في المنافِقين تمامًا، قال اللَّه عز وجل:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة: 65 - 66]، فمعناه: أنَّ هؤلاءِ قَد يَعفو اللَّهُ عَنهم وذلِك بالتَّوبة، فمَن تابَ مَهما كان شِركُه وكُفرُه فإنَّ اللَّه يتُوبُ عليه.

وهؤلاءِ الذِين تابُوا مِن الكُفر وقَد قَتلوا مَن قتَلوا مِن المُسلمين هَل يَلزمهم ضَمانُ المسلمِين الذِين قتَلوهُم؟ لا يَلزمهم، لقَول اللَّه تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] ولهذا لو رأَى شخصٌ شخصًا كان كافِرًا وقد قَتل أباهُ ثُم أسْلم فإنَّه لا يجُوز لَه أنْ يَقتُلَه؛ لأنَّ إسلامَه عصَمه وغفَر لَه بِه ما سَلَف.

ثُم قال تعالى: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقد تُشكِل عَليك هذِه الجُملة: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: كانَ فِيما مضَى، ولكن الآنَ؟ فـ (كان) فِعل ماضٍ؟ !

فنقُول: (كان) هنا لا يُقصد بها الزَّمان، بل يُقصد بها تَحقيق اتِّصاف اللَّهِ عز وجل بالمَغفِرَة والرَّحمة، فهِي كَما يقول النَّحْويُّون: مَسْلُوبَة الزَّمان، والمقصودُ بِها التَّوكيد، فاللَّه تعالى مُتَّصفٌ بالمَغْفِرةِ والرَّحمة دائمًا وأبدًا.

* * *

ص: 545