المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (35) * قالَ اللَّه عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (35) * قالَ اللَّه عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ

‌الآية (35)

* قالَ اللَّه عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

* * *

أوَّلًا: أنَّ القرآن الكريم في غالِب ما يَتَحَدَّث عن الأحكام الجَزائية، والأَحْكام العمَلِية أكثَرَ ما يَتحدَّث مُخَاطِبًا الرِّجال؛ لأنَّ الرِّجال أَشرَفُ من النِّساء؛ ولأنَّ الرِّجال قوَّامون على النِّساء، فإذا صَلَحَ الرِّجال صَلَحَت النِّساءُ؛ ولأنه إذا اجتَمَع جِنْسان فإنه يُغلَّب أَشرَفُهما وأَعْلاهما؛ ولهذا أَكثَر الخِطابات الوارِدة في القُرآن تُوجَّه إلى الرِّجال؛ لهذه الأَسبابِ الثَّلاثة ولغيرها.

لكن في بَعْض الآيات تُذكَر الأحكامُ للرِّجال والنِّساء، إمَّا على سبيل التَّفصيل، وإمَّا على سَبيل الإِجْمال:

مِثال الأوَّلِ: قولُه تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخِره.

ومثال الثانِي: قولُه تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195]، فإنَّ في هذا إجمالًا.

ص: 254

ثانيًا: في هذه الآياتِ ذكَر المُفسِّرون أنَّ من أَسباب نُزولها: أنَّ أُمَّ سلَمةَ رضي الله عنها قالت: يا رسول اللَّهِ، إن اللَّه تعالى إذا تَكلَّم إنما يَتكَلَّم عن الرِّجال ولا يَذكُر النِّساء، فأَنزَل اللَّه تعالى هذه الآياتِ:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخِره

(1)

.

ففي قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} هذه (إنَّ) التَّوْكِيدية التي تَنصِب المُبتَدَأ والخبَر، وفي قوله تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} ما قال: أَعَدَّ اللَّه تعالى لهم ولهن، بل قال تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} فَدَلَّ ذلك على تَغليب جانِب الذُّكورية، كما أن في قَولِه سبحانه وتعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} تَقديمَ الذُّكور، يَدُلُّ على شرَف الذُّكور، وهذا أَمْر لا يَمتَرِي فيه عاقِل، لكن لمَّا جاء الغَرْب الخَبيثُ القَبيح المَقلوب فِطرةً ودِينًا، وصار يُقدِّم النِّساء من أجل إثارة الفِتْنة بهن، وتَشريفهن على الرِّجال؛ تَبِعه الذين يَتبَعون كلَّ ناعِقٍ، وصاروا يُقدِّمون النِّساء على الرِّجال؛ حتى كانوا لا يُطلِقون على النِّساء إلَّا كلِمة (السيِّدات) يَعني: أنَّهُنَّ سيِّدات للرِّجال، فقلَبوا الحَقائِق والأَوْضاع؛ لأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى قد قلَب فِطَرهم فعبَدوا المادَّة دون خالِقها، وكذلك تَصرَّفوا في تُصرُّفاتهم هذه، ويَجِب على المُسلِمين الحذَرُ والتَّنبُّه من مُغالَطات أُولَئِك الكفَرةِ، لا في هذا ولا في غيرِه، حتى يَكونوا على بَيِّنة من أَمْرهم، ودِينهم -والحمد للَّه- قد بيَّن اللَّه تعالى فيه كلَّ شيء.

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الإسلام: في أَعمال الجَوارِح الظاهِرة، لأنَّه يَشمَل أو يُراد به أن يَستَسلِم الإنسانُ للَّه تعالى ظاهِرًا بجَوارحه، بلِسانه بيَديه برِجْليه بعَيْنه بأُذُنِه؛ هذا الاستِسلامُ الظاهِر يُسمَّى

(1)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 301)، والنسائي في الكبرى رقم (11341)، والحاكم في المستدرك (2/ 416).

ص: 255

إسلامًا، وقد يَقَع من غير المُؤمِن، فقد يَقَع من المُنافِق، وقد يَقَع من ضعيف الإيمان، قال اللَّه تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، وهذا الإسلامُ مَرتَبَتُه دون الإيمان، لأنه يَقَع من المُؤمِن حَقًّا، ومن المُنافِق، ومن ضعيف الإيمان، لأن الاستِسْلام للَّه تعالى بالجوارِح الظاهِرة.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هذا الاستِسْلامُ للَّه تعالى باطِنًا؛ وذلك بالإيمان باللَّه تعالى، ومَلائِكته، وكتُبه، ورُسُله، واليَوْم الآخِر والقدَر خَيرِه وشَرِّه؛ ولَسْنا بحاجة إلى تَفسير أحدٍ للإيمان بعد أن فَسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين سأَله جِبْريلُ عليه السلام: ما الإيمانُ؟ قال: "أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَاِئِكَتِهِ وَكتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"

(1)

، وتَفاصيل هذه الجُمْلةِ قد تَكلَّمنا عليه مِرارًا، وليس هذا مَوضِعَ بَسْطه.

إذَنِ: الإيمانُ هو: الاستِسْلام للَّه تعالى باطِنًا بحيث يُؤمِن الإنسان بما يَجِب الإيمانُ به، وهو: الإيمانُ باللَّه تعالى ومَلائِكَته. . . إلى آخِره.

والإيمان أَعلى من الإسلام؛ لأنَّ الإيمان يَستَلزِم الإسلام ولا عكسَ؛ فكُلُّ مُؤمِن لا بُدَّ أن يَكون مُسلِمًا؛ لأنه إذا صلَح القَلْب صَلَحَتِ الأَعضاءُ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَلا وَأَنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كلُّه، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ"

(2)

، ولكنَّ بعض الناس يَعمَلُ المَعاصِيَ، ويَحتَجُّ

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام، رقم (8)، من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ص: 256

بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "التَّقْوَى هَاهُنَا"

(1)

، إذا قُلْت: يا أخي، اتَّقِ اللَّه، صَلِّ مع الجَماعة! اتَّقِ اللَّه، دَعْ حَلْق اللِّحْية! اتَّقِ اللَّهَ اتْرُكِ الغِيبةَ! وما أَشبَه ذلك يَقول لك:"التَّقْوَى هَاهُنَا".

وكَيْف يُرَدُّ عليهِ؟

الجَوابُ: أن نَقول له: لوِ اتَّقَى ما هاهنا لاتَّقَى ما هاهنا. يَعنِي: لوِ اتَّقى الباطِن لاتَّقَى الظاهِر، لأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم يَقول:"إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ"، فجعَل الأَمْر جُمْلة شَرْطية، والمَعروف في اللُّغة والعُرْف والشَّرْع أنَّ الجُمْلة الشَّرْطية يَتحَقَّق فيها المَشروط متى تَحقَّق الشَّرْط.

ونَقول: صحيح -ونَحْن معَك- بأنَّ هذا الذَّنْبَ الذي تَعمَله دون الشِّرْك قابِلٌ لأَنْ يَغفِره اللَّه تعالى، ولكن اللَّه تعالى لم يَقُل: ويَغفِر ما دون ذلكَ لكُلِّ أحَدٍ. بل قال تعالى: {لِمَنْ يَشَاءُ} [النجم: 26]، فهل تَشْهَدُ أنك أنتَ ممَّن شاءَ اللَّه أن يَغفِر لهم؟ ! إذَنْ: فأنت على خطَأ، والأصل أن الوَعيد على المَعاصِي ثابِت، لأنَّ رَفْعه تَحت المَشيئة، ووقوعه بمُقتَضى الوَعْد، فالأصْلُ ثُبوته، فلا حُجَّةَ له في هذا.

وقوله رحمه الله: [{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} المُطيعات] كان عليه أن يَقول: المُطيعين، ويَصير: والقانِتات مَعروف أنها المُطيعات.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْقَانِتِينَ} القُنوت ليس مُطلَق الطاعة كما يُفهَم من كلام المُفَسِّر رحمه الله، ولكنه: الطاعة بدَوام وذُلٍّ وسُكون، ويَدُلُّ لذلك قوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ولمَّا نزَلَت

(1)

أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم (2564)، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

ص: 257

هذه الآيةُ أُمِروا بالسكوت ونُهُوا عن الكلام، فدلَّ هذا على أن القُنوت ليس مجُرَّدَ فِعْل الطاعة، بل هي طاعة مع ذُلٍّ وخُضوع، ودوامٍ.

وقوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} القُنوت أَعلى ممَّا سبَقه؛ لأنَّ القانِت معه الإيمان والإسلام، كما قال تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

وقوله رحمه الله: [{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} في الإيمان] الصِّدْق هو: الإخبار بما يُطابِق الواقِع؛ هذا الأصلُ في مَعنَى الصِّدْق، مثل: أن أَقول لك: إن هذه المَروحةَ تَشتَغِل. هذا صِدْق؛ لأنه إِخْبار بما يُطابِق الواقِع، ولو قُلت: إنَّ هذه المَرْوحةَ لا تَشتَغِل. لم يَكُن صِدْقًا، لأنه إخبار بما يُخالِف الواقِع، ولكن الصِّدْق هل هو في القَوْل فقَطْ أو يَكون الصِّدْق في القول والعمَل والعَقيدة؟ الجوابُ: الأخيرُ.

فيَكون الصِّدْق في العَقيدة: بأن يَكون الإنسان صادِقَ الإخلاص للَّه عز وجل في كُلِّ أعماله، صادِقَ العَقيدة بحَيْثُ تكُونُ مُطابِقة لما جاء به الشَّرْع.

ويَكون الصِّدْق كذلك في الأقوال، بألَّا يَقول إلَّا صِدْقًا، ولو كان الأمر عليه، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} .

وانظُرْ إلى نَتيجة الصِّدْق في قِصَّة الثلاثة الذين خُلِّفوا، يَعنِي: أُرجِئَ أَمْرُهم؛ لأنهم جاؤُوا وأَخبَروا بالصِّدْق، والمُنافِقون كانوا يَأتون يَقولون: يا رسول اللَّه، لنا عُذْر، ولنا عُذْر. فيَستَغفِر لهم ويَكِلُ سَرائِرَهم إلى اللَّه تعالى، لكن هؤلاء صدَقوا فخُلِّفوا عن الحُكْم عليهم بما حُكِم على المُنافِقين، وليس المُراد أنهم خُلِّفوا عن الغَزوة،

ص: 258

لو كان كذلك لقال: الذين تَخلَّفوا. هؤلاءِ الثلاثةُ وهم: كَعبُ بنُ مالِك، وهِلالُ ابنُ أُميَّةَ، ومُرارةُ بنُ الرَّبِيع رضي الله عنهم، هؤلاءِ صدَقوا رسول اللَّه عليه الصلاة والسلام، وأَشَدُّ مَن تَكلَّم وأَبيَنُ مَن تَكلَّم وأَفصَحُ مَن تَكلَّم من هؤلاءِ الثَّلاثةِ كَعبُ بنُ مالِكٍ رضي الله عنه، لأنه أَشبَهُم رضي الله عنه، فتكلَّم كلامًا عَجيبًا، ويَحسُن بكم أن تُراجِعوا قِصَّته

(1)

؛ لأنها في الحقيقة تَزيد في الإيمان، هَؤلاءِ صدَقوا فكانت نَتيجةُ صِدْقِهم: أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى أَنزَل فيهم كِتابًا يُتلَى إلى يوم القِيامة، في مَدْحهم والثَّناء عليهم؛ حتى قال اللَّه سبحانه وتعالى للناس كلِّهم:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، أمَّا الآخَرون فقال تعالى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 95].

فانظُرِ الفَرْق بين الأَمْرين، هؤلاءِ كذَبوا فأَرْجَسوا -والعِياذُ باللَّه- وهؤلاءِ صدَقوا فرُفِعوا، فعَلَيْك بالصِّدْق فإن الصِّدْق يَهدِي إلى البِرِّ، وإن البِرَّ يَهدِي إلى الجنَّة، ولا يَزال الرجُل يَصدُق ويَتحرَّى الصِّدْق حتى يُكتَبَ عند اللَّه تعالى صِدِّيقًا.

فالمُهِمُّ أن {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} نَقول: في الإيمان، وفي القَوْل، وفي العمَل، فالصِّدْق في العمَل أن يَكون مُطابِقًا للباطِن؛ فلا تَعمَل رِياءً ولا سُمْعةً، ولا مُصانَعة، ولا مجُامَلة، ولا لأَجْل شيءٍ من الدُّنيا، مِثال ذلك رجُل أَخرَج من

(1)

أخرجها البخاري: كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، رقم (4418)، مسلم: كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، رقم (2769)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

ص: 259

جَيْبه أَلفَ دِرهَم فتَصدَّق بها، لأنَّ الناس يُشاهِدونه، فقال: أُريد أن يَقولَ النَّاسُ: ما أَكرَمَ فلانًا! فهل صَدَق في فِعْله؟ ظاهِر فِعْله أنه للَّه تعالى صادِق، ولكنَّ حقيقة أَمْره العكسُ، فكان كاذِبًا، ومن الصِّدْق في الأقوال أو في الأَعْمال مُتابَعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها دليل على صِدْق محَبَّة الإنسان للَّه تعالى ورسولِه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، فصار الصِّدْق في العَقيدة في القَوْل وفي العمَل.

وقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} لمَّا كان الصِّدْق قد يَتَرتَّب عليه من مجُاهَدة النَّفْس ما يَترتَّب؛ لأنَّ إخبار الإنسان بالصِّدْق ولا سيَّما على نفسه أَمْرٌ صَعْب، أَعقَبه بذِكْر الصَّبْر، يَعنِي كأنما يَقول: اصدُقْ واصبِرْ على صِدْقِكَ. فقال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} .

والصَّبْر في اللُّغة: الحَبْسُ، ومنه قولهم: قُتِلَ صَبرًا. يَعنِي: حَبْسًا.

وفي الشَّرْع: حَبْس النَّفْس عن التَّسخُّط والكراهة لحُكْم اللَّه عز وجل والتَّضجُّر منه.

فقَوْلنا: لحُكْم اللَّه سبحانه وتعالى يَشمَل الحُكْم الكَوْنيَّ والحُكْم الشَّرْعيَّ، وهذا التَّعريفُ يَشمَل أنواع الصَّبْر الثلاثةَ التي تَكلَّم عليها أهلُ العِلْم، حيث قالوا: إنَّ الصَّبْر ثلاثة أنواع: صَبْرٌ على طاعة اللَّهِ تعالى، وصَبرٌ عن مَعْصية اللَّه، وصَبْرٌ على أَقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة.

فنَحنُ إذا قُلْنا: حَبْس النَّفْس عن التَّسخُّط والكراهة لحُكْم اللَّه تعالى. يَشمَل الأنواع الثلاثة، لأنه كلَّه حُكْم اللَّه تعالى الكَونيُّ والشَّرْعيُّ، فالكونيُّ يَتعَلَّق بالصَّبْر على أقدار اللَّه تعالى، والشَّرْعيُّ يَتعَلَّق بالصبر على طاعة اللَّه تعالى، وعن مَعصِيَته.

ص: 260

وأمَّا تَعريف ابنِ القَيِّم

(1)

رحمه الله للصَّبْر، فيَقول: هو حَبْس النَّفْس عن الجَزَع، واللِّسان عن التَّشكِّي، والجَوارِحِ عن لَطْم الخُدود وشَقِّ الجُيوب؛ وهو صحيح وقولنا:(عَن الكَراهةِ لحُكْم اللَّهِ تعالى) أعَمُّ ممَّا قاله رحمه الله.

أمَّا الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى: فهو أَعلى أنواع الصَّبْر؛ لأنَّه صَبْرُ النَّفس على عمَلٍ وحرَكة وتعَب، والصبر عن مَعْصِية اللَّه تعالى دونه في المَرْتَبة؛ لأنَّ فيه حَبْسًا للنفس عمَّا تَشتَهِيه، من أجل أنه مَعصية للَّه عز وجل، لكن هل فيه عمَل كالصَّبْر على طاعة اللَّهِ تعالى؟ لا، ليس فيه عمَل، ما فيه إلَّا كفُّ النَّفْس عن هذا المُحرَّمِ، فبِهذا تمَيَّز الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى على الصبر عن مَعصِيته؛ لأن في كلٍّ مِنهما جِهادًا للنَّفْس، لكِنَّ الصَّبْرَ على الطاعة فيه تَكليف النَّفْس بالعمَل، وهذا ليس فيه تَكليفُ نفسٍ بالعمَل، ولكِنْ فيه الكَفُّ عن مَعصية اللَّه تعالى؛ فلهذا كان دون الأَوَّل في المَرتَبة، ولكننا نحن نَقول: دونَ الأوَّل في المَرْتَبةِ. باعتِبار نَفْس النَّوْع لا باعتِبار الصابِرين؛ لأن بعض الصابِرين يُعانِي من المَشقَّة من الصبر على مَعصية اللَّه تعالى أكثَرَ ممَّا يُعاني من الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى، فلو فرَضْنا أن رجُلًا تُساوِره نَفْسه وتَدْعوه إلى فِعْل الفاحِشة بضَغْطٍ شديد، ولكنه عِندما يُصلِّي يَجِد نفسه مُرتاحًا بدون عَناء ولا مَشقَّة، لا شكَّ أن مُعاناتَه الأُولى أشَدُّ، ولكن نحن نَتكلَّم عن أنواع الصبر من حيث هي نَوعٌ، بقَطْع النظَر عن الصابِر وما يَتعَلَّق بحاله.

أمَّا القِسْم الثالِث: فهو صَبْر على أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة، وهذا أَدْنى أنواع الصَّبْر؛ لأنه صَبرٌ على ما لا فِعْلَ للإنسان به، صَبرٌ على أمرٍ ليس من فِعْلك، ولا من مَقدورك، لكن الصبر على الطاعة وعن المَعصية من مَقدورك، أمَّا أقدارُ اللَّه تعالى

(1)

عدة الصابرين (ص: 15).

ص: 261

فإنها ليسَتْ من مَقدورك، فهو صَبرٌ على أَمْرٍ ليس بمَقدورك؛ لهذا كان أَدنَى منها؛ ولذلك قال بعضُ السَّلَف في المُصاب: إمَّا أن يَصْبِرَ صَبرَ الكِرام، أو يَسلُوا سَلْوَ البَهائِم.

وهذا صحيح؛ مَن مِنَّا لم يُصَب ببَدَنه أو أهله أو ماله، ثُمَّ تَكون المُصيبة عَظيمة جِدًّا وبعد مُضِيِّ مُدة من الزمَن يَنساها ما كأنها شيء؛ ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّما الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى"

(1)

، هذا حَقيقةُ الصَّبْر، أمَّا بعد ذلك تَبرُد النَّفْس، وتَتَلهَّى بأَمْر بما يَحدُث لها من شُؤُونها في حياتها حتى تَتَسلَّى ولا كأنَّ شيئًا جَرَى.

إِذَنِ: الصَّبْر أنواعه ثلاثة: صَبْرٌ على طاعة اللَّه تعالى، وصَبْرٌ عن مَعْصيته، وصَبرٌ على أقداره المُؤلمِة.

فصَبْرُ أيُّوبَ عليه الصلاة والسلام على ما مَسَّه من الضُّرِّ من باب الصَّبْر على أقدار اللَّه تعالى، وصَبْرُ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام عن فِعْل الفاحِشة في امرأة العَزيز صَبْرٌ عن مَعصية اللَّه تعالى، وفي صَبْره على ما ناله من أَلَمِ السَّجْن وأَذِيَّته صَبْر على أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة، وهل ليُوسُفَ عليه الصلاة والسلام صَبْرٌ على طاعة اللَّه تعالى؟

الجَوابُ: نعَمْ، دَعْوته أهلَ السِّجْن إلى عِبادة اللَّه تعالى وإلى تَوحيده، هذا من الصَّبْر على طاعة اللَّه تعالى.

فاجتَمَع في حَقِّه أنواع الصَّبْر الثلاثة، وهكذا تَكون أنواع الصَّبْر الثلاثة لكثير من عِباد اللَّه تعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم صَبَر على طاعة اللَّه تعالى، وعن مَعصِيته، وعلى أَقداره، وهذا شيءٌ كثيرٌ.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، رقم (1283)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب في الصبر عند الصدمة الأولى، رقم (926)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 262

والصَّبْر على أقدار اللَّه تعالى المُؤْلمِة لا يُنال أجرُها ومَرْتبتُها إلَّا بوجود أَسبابها؛ فأمَّا أن يَقول الإنسان: أنا صابِر. ثُمَّ لا يَصبِر فإنه لا يَنال تِلكَ المَرْتبةَ، ولهذا كانَ الرسول عليه الصلاة والسلام يَناله من أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة أكثَرَ من غيره، كما ثَبَت عنه أنه قال:"إِنَّهُ يُوعَكُ كَما يُوعَكُ الرَّجُلَانِ"

(1)

، يَعنِي: بمَعنَى أنه يُصاب بالحُمَّى كما يُصاب الرَّجُلان، وفي سِياق المَوْت شُدِّدَ عليه عليه الصلاة والسلام من أَجْل أن تَتِمَّ له هذه المَرْتبةُ، مَرْتَبةُ الصابِرين؛ حتى يَنال أَعلاها.

والصبرُ هل هو واجِبٌ أو مُستَحَبٌّ؟

الصَّبْر واجِب، وقُلْنا -المَعنى العامُّ للصَّبْر: حَبْس النَّفْس عن التَّسخُّط والكراهةِ لأحكام اللَّه تعالى- ما قُلنا لشَريعة اللَّه تعالى؛ وقُلْنا: (لأحكام اللَّه)؛ لأَجْل أن يَشمَل هذا الصَّبرُ على أقدار اللَّهِ تعالى المُؤلمِة، فالصَّبْر إِذَنْ: واجِبٌ، وفيه أَجْرٌ كثير، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]؛ ولهذا قال اللَّه تعالى في الصوم: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، الحَسَنهُ بِعَشْرِ أَمْثَالهَا، إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنا أَجِزِي بِهِ"

(2)

؛ لأنَّ الصَّومَ حقيقةً اجتَمَع فيه أنواع الصَّبْر الثَّلاثة فهو صَبرٌ على طاعة اللَّه تعالى، وصَبْرٌ عن مَعصِيَّته، وصَبرٌ على أقداره المُؤلمِة.

ففيه صَبْرٌ على طاعة اللَّه تعالى؛ لأنه صَبْر على الصوم، وحَبْس نَفْسه على الرِّضا به فصَامَ، وصَبرٌ عن معصية اللَّه تعالى، فالصائِم مَأمور بأن يَجتَنِب أشياءَ كَثيرةً فاجتِنابُها صَبْر عن معصية اللَّه تعالى، وصبرٌ على أقدار اللَّه تعالى فالجُوع والعَطَش

(1)

أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء، رقم (5648)، ومسلم: كتاب البر والصلة، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه، رقم (2571)، من حديث عبد اللَّه بن مسعود.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول إني صائم إذا شتم، رقم (1904)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم (1151)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 263

والتَّالُّم من هذا الجُوعِ والعطَش، إذَنْ صَبرٌ على أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة؛ ففيه أنواع الصَّبْر الثلاثة: صبرٌ على طاعة اللَّه تعالى، وصبرٌ عن مَعصية اللَّه تعالى، وصبرٌ على أقدار اللَّه تعالى المُؤلمِة.

قال تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [المُتواضِعِين] الخاشِع المتواضِع المُتطامِن، وضِدُّه المُتَعالِي المُسْتَكبِر؛ فالخُشُوع إِذَنْ: تَطامُن، وخُضوع، وتَواضُع، وهو من أعلى مَراتِب الإيمان، ومن اَكمَلِ أحوال القَلْب، والخُشوع له مَواضِعُ منها الخُشوع في الصلاة؛ فسَّرَه الفُقَهاء رحمه الله بأنَّه سُكونٌ في القَلْب، يَتبيَّن على الجوارِح، وبعضُهم قال: مَعنًى في النَّفْس، يَظهَر منه خُشوع الأطراف. فهو في القَلْب ويَظهَر أثَرُه على الجوارِح.

ولهذا يُروَى عن عُمرَ رضي الله عنه أنه رأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بلِحيته وهو يُصلِّي، فقال: لو سَكَن قَلْب هذا لسَكَنَت جوارِحُه

(1)

. وقد رُوِيَ مَرفوعًا

(2)

ولا يَصِحُّ، وإنما هو عن عُمرَ رضي الله عنه على ما فيه ضَعْف عنه.

فالخُشوع في الصلاة: هو سُكون القَلْب الذي يَظهَر أثَره على الجوارِح، أو مَعنًى يَكون بالنَّفْس يَظهَر منه سُكون الأطراف، وهناك أيضًا خُشوع في بَقيَّة الطاعات، بأن يُؤدِّيَها الإنسان، وهو مُتَواضِع مُتطامِنًا للَّه عز وجل، ومنه ما حصَل

(1)

ذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (18/ 273)، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص: 419 رقم 1188)، وعبد الرزاق في المصنف (2/ 266)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/ 482)، عن ابن المسيب من قوله.

(2)

أورده الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (3/ 210)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعزاه له العراقي في تخريج الإحياء (1/ 178) وقال: سنده ضعيف، والمعروف أنه من قول سعيد ابن المسيب.

ص: 264

لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين فتَحَ مكَّةَ وانتَصَر على أهلها؛ فإنه عليه الصلاة والسلام لم يَدخُل دُخول العالِي المُستكبِر، وإنما دخَل مُطَأْطِئًا رأسَه صلى الله عليه وسلم خاضِعًا للَّه تبارك وتعالى

(1)

.

ومنه أيضًا الخُشُوع في الحجِّ والعُمرة؛ حيث يُؤدِّيها الإنسان بتَطامُن، وذُلٍّ، وهو يَعْتَقِدُ أنَّه يَعْبُد اللَّه تعالى، فأنت إذا دخَلْت في العُمرة أو الحَجِّ فاعتَقِدْ أنك في عِبادة، من حين أن تَقول:(لبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيكَ) إلى أن تَنتَهيَ، ولكننا -مع الأسَف الشديد- لا نَشعُر بهذا، فتَجِد الإنسان يَتلبَّس بمَحظورات الإحرام وبغَيْرها من المُحرَّمات، إلَّا مَن شاء اللَّه تعالى.

إِذَنِ: الخُشوع يَشمَل جميع الطاعات، بأن يُؤدِّيَها الإنسان بتَواضُع وذُلٍّ وتَطامُن، ليس في قَلْبه استِكْبار ولا عُلوٌّ، ولا فَرقَ في هذا بين أن يَكون الخُشوع في أثناء فِعْل العِبادة، أو بعد فِعْل العِبادة أيضًا؛ لأنَّ من الناس مَن يَخشَع في العِبادة لكن إذا انتَهى منها رأَى نَفْسه في درجة عالية، وأنه مُرتَفِع، وأنه قد نال درجة ما نالَها غيرُه، وهذا من الإعجاب بالنَّفْس وبالعمَل، فالإنسانُ يَنبَغي له إذا أدَّى العِبادة أن يَكون كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} ، إن نظَروا إلى تَقصيرهم خافُوا، وإن نظَروا إلى فَضْل اللَّه تعالى طمِعوا.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} المُتصدِّقين يَعنِي: الباذِلين للصَّدَقة، والصَّدَقَةُ هي بَذْلُ المالِ تَقَرُّبًا إلى اللَّه عز وجل، ويَشمَل الزكاة؛ فإنها أَعلى الصدَقات، ويَشمَل البَذْل التَّطوُّعيَ كصدَقة التَّطوُّع، وكالإنفاق على الضيف وعلى الأهل، وعلى النَّفْس، كل هذا من الصدَقة فما يَجعَله الإنسان في فَمِ امرأته من الصدَقة،

(1)

أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 47)، من حديث أنس رضي الله عنه. وانظر: السيرة لابن هشام (2/ 405).

ص: 265

وما يَأكُله من الصدَقة.

وكلُّ شيء من المال تَبذُله للَّه سبحانه وتعالى فهو من الصَّدَقة، وقد يُقال: إنَّ المُتَصدِّقين أَعمُّ من الباذِلين لمالهم في ما يُرضِي اللَّه عز وجل، فيَشمَل فِعْل كلِّ خَيْر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يَقول:"كُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَلَيْهَا، أَوْ تَضَعَ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ تَخطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"

(1)

.

فإذا أَخَذْنا بهذا العُمومِ صار المتصدِّقون والمُتصَدِّقات يَشمَلُ مَن قام بأيِّ طاعة من طاعات اللَّه سبحانه وتعالى، ولكنه من المَعروف أنَّ المُتصَدِّقين والمُتصَدِّقات، يَتبادَر إلى الذِّهْن أنَّهم الباذِلون لمالهِم فيما يُرضِي اللَّهَ عز وجل.

ولا حاجةَ بنا إلى التَّطويل في تَفصيل الصدَقاتِ، وما يَنبَغي للإنسان أن يَتصَدَّق به، وهل يَجوز أن يَتصَدَّق بكُلِّ ماله ويَدَعَ عائِلته فُقَراءَ، أو لا يَجوز؟ فإن هذا له وَضْعٌ آخَرُ.

المُهِمُّ: أن اللَّه تعالى أَثنَى على المُتصَدِّقين والمُتصَدِّقات.

وقوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} ففي الصدَقة بَذْل، وفي الصِّيام إمساك، والصائِمون همُ الذين قاموا بالتَّعبُّد للَّه تعالى بالصِّيام.

والصِّيام هو: التَّعبُّد للَّه تعالى بالإمساك عن المُفطِّرات من طُلوع الفَجْر إلى غُروب الشَّمْس.

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم (1006)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

ص: 266

وهو أنواع: منه ما هو رُكْن من أركان الإسلام، ومنه ما هو واجِب، وليس برُكْن، ومنه ما هو سُنَّة مُعيَّنة مُقيَّدة، ومنه ما هو سُنَّة مُطْلَقة، أَرْبَعَةُ أنواعٍ:

1 -

فالواجِب الذي هو فَرْض من فُروض الإسلام، وكذلك قَضاء الصَّوْم.

2 -

والواجِب الذي ليس من أركان الإسلام النَّذْر الذي أَوْجَبْته على نَفْسك.

3 -

ومنه ما هو سُنَّة مُقيَّدة مُعيَّنة بوَقْت مُعيَّن مُقيَّدة بوَقْت مُعيَّن، كأيام البِيض

(1)

والاثنين والخَميس

(2)

، ومنه عاشُوراءُ

(3)

وَتِسعُ ذي الحِجَّة

(4)

ويَوْمُ عرَفةَ

(5)

؛ وسِتٌّ من شوَّال

(6)

تَدخُل في المُعيَّن، لكنها في كل الشَّهْر.

4 -

ومنه ما هو مُطلَق مثل أن يَصوم الإنسان للَّه تعالى يومًا من الأيام إلَّا أنه

(1)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 162)، والترمذي: كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، رقم (761)، والنسائي: كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيام من الشهر، رقم (2422)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الإمام أحمد (6/ 80)، والترمذي: كتاب الصوم، باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، رقم (745)، والنسائي: كتاب الصيام، رقم (2186)، وابن ماجه: كتاب الصيام، باب صيام يوم الاثنين والخميس، رقم (1739)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه مسلم: كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام وعاشوراء، رقم (1162)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه الإمام أحمد (5/ 271)، وأبو داود: كتاب الصوم، باب في صوم العشر، رقم (2437)، والنسائي: كتاب الصيام، باب صوم النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (2372)، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

(5)

أخرجه مسلم: كتاب الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام وعاشوراء، رقم (1162)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(6)

أخرجه مسلم: كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا، رقم (1164)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

ص: 267

يُكرَه أن يَصوم الإنسان يومَ جُمُعة مُنفرِدًا، بل إمَّا أن يَصوم يومًا قبلَه أو يومًا بعدَه.

وقوله تعالى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} مُمسِكون عن مَلاذِّهم وشَهَواتهم، عن الأكل والشُّرْب والجِماع وما يَتبَع ذلك، لكن هذه هي الأساسياتُ في المَلاذِّ؛ ولهذا قال اللَّه عز وجل في الحديث القُدسيِّ في الصائِم:"يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهَوَتَهُ مِنْ أَجْلي"

(1)

، والصِّيام يَدخُل في الصبر، ولكنه عِبادةٌ مُستَقِلَّة بنَفْسه، مُتضمِنٌ الصَّبْر.

وقوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [عن الحَرام] وهي كلِمةٌ جامِعة، تَشمَل حِفْظ الفَرْج عن الزِّنا، وحِفْظ الفَرْج عن النظَر، وحِفْظ الفَرْج عن العمَل المُحرَّم، الذي هو دُون الزِّنا.

وقد بيَّنَ اللَّه عز وجل مَن يُحفَظ عنه الفَرْج أو مَن لا يُحفَظ فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج: 29 - 31]، فأَعلى شيءٍ يُحفَظ عنه الفَرْج الزِّنا، وهو فِعْل الفاحِشة في قُبُلٍ أو دُبُر، إلَّا أنَّه إذا تَعلَّق بذَكَر سُمِّيَ لوَاطًا واللِّواط أَعظَمُ من الزِّنا، والعِياذُ باللَّه، لأنَّ اللِّواط عُقوبته القَتْل بكل حال، سَواءٌ كان الفاعِل محُصَنًا أم غير محُصَن، لكن بشَرْط أن يَكون مُكلَّفًا، أي: بالِغًا عاقِلًا، فإذا تَلوَّط ذكَرٌ بآخَرَ وهُما عاقِلان بالِغان وجَبَ قَتْلُهما، وإن لم يَكونا محُصَنَيْن.

ولكن كيف يُقتَلان؟

اختَلَفَ في ذلك الصحابةُ رضي الله عنهم ومَن بَعدَهم فقيل: يُرجَمان بالحِجارة كالزاني المُحصَن. وقيل: يُلقَيان من أعلى مَكان في البلَد، ويُتبَعان بالحِجارة. وقيل:

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب فضل الصوم، رقم (1894)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم (1151)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 268

يُحرَقان بالنار كما فعَل أبو بَكْر رضي الله عنه حين كتَب إلى خالِد بنِ الوليدِ رضي الله عنه لمَّا قال له: "إِنَّ عِندَهُ رَجُلًا يُنكَح كما تُنكَح المَرأةُ. فكَتَب إليه أبو بَكْر أن يُحرِقه مُبالَغةً في عُقوبَتِه"

(1)

.

فائِدةٌ: استِخدام لَفْظ (اللِّواط) ليس فيه إساءة إلى لُوطٍ عليه السلام، وهذا شَيءٌ مُتعارَف، فالنِّسبة يَجوز فيها أن تَنسُب إلى المُضاف أو المُضاف إليه، هذا في مُقتَضى اللغة العربية قَوْم لُوط، يَعني: لُوطيٌّ أي: مُنتَسِب إلى هؤلاء القَوْمِ.

إذَنْ: أَوْجَب ما يَكون أن يُحفَظ عنه الفَرْجُ هو الزنا، كذلك النَّظَر يَجِب أن يَحفَظ الإنسان فَرْجَه عن النظَر، حتى الجِنْس مع جِنْسه، ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَنْظُرِ المَرْأَةُ إِلَى عَوْرَةِ المَرْأَةِ، وَلَا الرَّجُلُ إِلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ"

(2)

، فيَجِب حِفْظ العَوْرة عن النظَر إلَّا على الزوجة وما ملَكَت يَمينُه.

كذلك حِفْظ الفَرْج عن الأفعال المُحرَّمة غير الزِّنا واللِّواط والنظَر؛ كالاستِمْناء مثَلًا، وهو ما يُعرَف عند الناس بالعادة السِّرِّية، ويَكون في الرِّجال ويَكون في الإناث أيضًا، حتى بعض الإناث يَستَعمِلن ذلك! وهذه أيضًا مُحرَّمة لا تَحِلُّ، وذلك لأنه ليس فيها حِفْظ للفَرْج، فإنَّ الإنسان الذي يَبتَغِي نَيْلَ شَهْوته بغير امرأته وما مَلَكَتْ يَمينُه يَدخُل في قوله تعالى:{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، فهو حَرام بالقُرآن وبالسُّنَّة أيضًا.

والسُّنُّة ذكَرْنا أن من أدِلَّتها قولَ الرسول عليه الصلاة والسلام: "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي رقم (140)، والخرائطي في مساوئ الأخلاق رقم (428)، والآجري في ذم اللواط رقم (29)، والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 232).

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، رقم (338)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 269

فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"

(1)

، وَجهُ الدَّلالة من الحديث: أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم أَرشَد إلى الصوم، وهو أَشَقُّ من هذه الفِعْلةِ، ولو كانت هذه الفِعْلةُ جائِزة لأَرشَد إليها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنها أَسهَلُ وأيسَرُ، وقد قالت عائِشةُ رضي الله عنها:"ما خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْن إلَّا اختار أَيسَرَهُما ما لَمْ يَكُنْ إِثْمًا"

(2)

، فلمَّا لم يَختَرْ هذا الأيسَرَ عُلِمَ أنه إِثْمٌ محُرَّم.

مَسأَلةٌ: إذا استَمْنَى رجُل في رَمضانَ فهل عليه كفَّارة؟

الجَوابُ: لا، ليس عليه كفَّارة، الكفَّارة لا تَكون إلَّا بالجِماع فقَطْ.

مَسأَلة أُخرَى: أَحادِيثُ وَطْء المَرأة في الدُّبُر كلها فيها مَقال

(3)

، لكن يَشُدُّ بعضُها بعضًا، وتَدُلُّ على التحريم، وقد تَقدَّم في قوله سبحانه وتعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] أنَّ من فَوائِدِها: تَحريمَ وَطْء الدُّبُر، أمَّا الإِثْم فنعَمْ، فهي اللُّوطِيةُ الصُّغْرى.

فائِدةٌ: تَحريم الوَطْء على مَن تَلبَّس بنُسُك أو تَلبَّس بصوم أو تَلبَّس بصلاة مَفروضة، ليس هو من أَجْل حِفْظ الفَرْج، لكن من أَجْل احتِرام هذه العِبادةِ.

قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} ختَمَ الآيةَ الكريمةَ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم، رقم (5066)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنه، رقم (1400)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (3560)، ومسلم: كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، رقم (2327)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد (2/ 444)، وأبو داود: كتاب النكاح، باب في جامع النكاح، رقم (2162)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ملعون من أتى امرأته في دبرها". وانظر: بلوغ المرام (ص: 309).

ص: 270

بهذا الوَصْفِ العَظيمِ، وهو ذِكْر اللَّه عز وجل، وهو شامِل لكل عِبادة، فكلُّ عِبادة فهي ذِكْر للَّه عز وجل، حتى دِراسة العِلْم هي مِن ذِكْر اللَّه؛ ولهذا تُسمَّى حِلَق العِلْم حِلَقَ الذِّكْر، أو مَجالِسَ الذِّكْر، فكلُّ ما يُقرِّب إلى اللَّه تعالى كلُّ عِبادة فهي من ذِكْر اللَّه تعالى.

وذِكْر اللَّه عز وجل يَكون بالقَلْب، ويَكون باللِّسان، ويَكون بالجوارِح، فبالقَلْب التَّفكُّر، وباللِّسان النُّطْق، وبالجَوارِح الفِعْل والعمَل، أيُّها أفضَلُ: ذِكْر اللَّه سبحانه وتعالى باللِّسان، أو ذِكْر اللَّه تعالى بالقَلْب أو ذِكْر اللَّه تعالى بالجَوارِح؟

لا شَكَّ أن الجَمْع أَفضَلُ وهذا مَعلوم، فالقَلْب وحدَه لا يَكفِي، واللِّسان وحدَه لا يَكفِي، والجوارِحُ وحدَها لا تَكفِي، يَعنِي: لو أن الإنسان قال: سأَتفَكَّر في آيات اللَّه عز وجل وفي أَسمائِه وصِفاته ولكن ليس بذاكِر، هل يَكون مُسلِمًا؟ لا بُدَّ أن يَقول مَن قالَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وكذلك أيضًا بالنسبة للجوارِحِ.

لكن لا شَكَّ أن اختِلال الذِّكْر بالقَلْب له أثَر عَظيم جِدًّا؛ لأن المَدار على القَلْب، ولا شَكَّ أيضًا أن تَأثيرَ ذِكْر اللَّه سبحانه وتعالى بالقَلْب أَبلَغُ في تقوية الإيمان، وفي التَّقرُّب إلى اللَّه سبحانه وتعالى من الذِّكْر بالجوارِح؛ لأن المَدار كُلَّه على ما في القَلْب، لا بالنِّسبة للأَعمال وقوام الأعمال ولا بالنِّسبة للجَزاء كما قال اللَّه تعالى:{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9 - 10].

وذِكْر اللَّه عز وجل يَكون مُطلقًا في كل وَقْت، ويَكون مُقيَّدًا بأَحوال، ويَكون مُقيَّدًا بأَماكِنَ، ويَكون مُقيَّدًا بأزمان، فهو إِذَن أربعةُ أنواع:

1 -

أمَّا المُطلَق فقد قال اللَّه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 190 - 191]، هذا في كلِّ وَقْت، في كل حالٍ، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 271

اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 - 42]، وكما في هذه الآيةِ:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} .

2 -

المُقيَّد بزمَن؛ مثل: أَدبار الصلوات، وكذلك الذِّكْر في أوَّل النَّهار وفي آخِره، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39].

3 -

المُقيَّد بأَمكِنة، كدُخول المَسجِد، ودُخول المَنزِل والخُروج منه، ورَميِ الجمَراتِ، ورُكوب السيَّارات.

4 -

أمَّا المُقيَّد بحال من الأحوال فهو أيضًا كثيرٌ: عند الهَمِّ والحُزْن، وعند الأكل والشُّرْب، وعند الاستِسْقاء، وما أَشبَه ذلك.

وعلى كل حال: الذِّكْر إمَّا مُطلَق وإمَّا مُقيَّد، واللَّه سبحانه وتعالى شرَع لعِباده ذلك لأَجْل أن يَكونوا دائِمًا على ذِكْر اللَّه عز وجل حتى عند لُبْس الثَّوْب، وعند الأَكْل والشُّرْب، والفَراغ مِنهما.

وقوله سبحانه وتعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} : {أَعَدَّ} فِعلٌ ماضٍ، ولَفظُ الجَلالة فاعِل، والجُملة من الفِعْل والفاعِل خبَرُ (إنَّ) واسمُ (إنَّ){الْمُسْلِمِينَ} ، وما عُطِف عليه، وقوله تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} أي: لهؤلاء، والمِيمُ علامة جَمْع الذُّكور، وفيه دَلالة واضِحة على تَفضيل الرِّجال على النِّساء، لم يَقُلِ اللَّه عز وجل: أَعَدَّ اللَّه لهُمْ ولهُنَّ. ولم يَقُلْ: أَعَدَّ اللَّهُ لهُنَّ. وإنما قال تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} .

وقوله تعالى: {أَعَدَّ} بمَعنَى: هيَّأَ لهُمْ.

وقوله تعالى: {مَغْفِرَةً} المَغفِرة مَأخوذة من الغَفْر وهو السَّتْر أو السَّتْر مع الوِقاية، لأن أصلَها من المِغْفَر الذي يُوضَع على الرأس، لاتِّقاءِ السِّهام، والمِغفَر

ص: 272

الذي يُوضَع على الرأس؛ لاتِّقاء السِّهام يَحصُل به السَّتْر والوِقاية.

إِذَنِ: المَغفِرة نَقول: هي سَتْر الذُّنوب، والتَّجاوُز عنها، ليست سَتْرَ الذُّنوب فقَطْ، بل هي سَتْر مع التَّجاوُز، سَتْر عن الخَلْق، وتَجاوُز عن العُقوبة؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح:"أَنَّ اللَّهَ يَخْلُو بِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ"

(1)

.

إِذَنْ: بإِعداد المَغفِرة يَسلَمون من الآثام وأَوْزارِها وعَواقِبها.

وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَجْرًا عَظِيمًا} أَيْ: ثوابًا ذا عظَمة في نَفْسه، هذا الأجرُ العظيمُ هو دُخول الجنَّة، وهو أَجْر لا يُمكِن أن يُحيط به البَشَر؛ لأنَّ اللَّه تعالى يَقول في الحديث القُدسيِّ:"أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"

(2)

، وفي القُرآن الكريم يَقول اللَّه تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، ويَقول تعالى:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35].

هذا الأَجرُ العَظيم الذي لا يُقدِّر قَدْره إلَّا اللَّه عز وجل، يَكون لهِؤلاء المُتَّصِفين بهذه الصِّفاتِ، وإذا كان اللَّه تعالى قد بيَّن القائِمين بهذه الصِّفاتِ، وبيَّن ما أَعَدَّ لهم من الأَجرِ والثَّواب فهل المُراد بذلك مجُرَّدُ إعلام الناس بهذا أو أن المُراد شيءٌ وراءَ ذلك؟

(1)

أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب قول اللَّه تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، رقم (2441)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل، رقم (2768)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، رقم (3244)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها، رقم (2824)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 273

الجَوابُ: المُراد شيءٌ وراءَ ذلك، وهو أن يَقوم الناس بهذه الصِّفاتِ العَظيمةِ حتَى يَنالوا ذلك الأجرَ العَظيمَ والمَغفِرةَ.

وقوله تعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} ، كلِمة (مَغفِرة) نكِرة، فهل نَقول: إنها نُكِّرت للتَّعظيم، بدليل العَطْف عليها {وَأَجْرًا عَظِيمًا} أو ماذا؟

الجَوابُ: الظاهِر: أنها نُكِّرت للتَّعظيم، أي: مَغفِرة عَظيمة، كما أن لهم أَجْرًا عظيمًا يَقول المُفَسِّر رحمه الله:{مَغْفِرَةً} للمَعاصِي {وَأَجْرًا عَظِيمًا} على الطاعاتِ] وهذا جَيِّد؛ فالمُفَسِّر رحمه الله جعَل المَغفِرة في مُقابِل المَعاصِي، والأَجْر في مُقابِل الطاعات.

ولكن هل لتَرْك المَعاصِي أَجْر؟

الجَوابُ: إن قُلْت: لا. أَخطَأْت، وإن قُلْت: نعَمْ. أَخطَأْت، ونَقول: تارِكُ المَعاصِي له ثلاثُ حالات:

إمَّا أن يَترُكها عَجْزًا عنها مع فِعْل الأسباب المُوصِّلة إليها.

وإمَّا أن يَترُكها؛ لأنها لم تَطرَأ له على بالِه.

وإمَّا أن يَترُكها مع كونها على باله، لكن ترَكها للَّه عز وجل.

أمَّا الحالُ الأُولى: الذي ترَك المَعصية عَجْزًا عنها مع فِعْل الأسباب المُوصِّلة إليها، فهذا له حُكْم الفاعِل، مثال ذلك: رجُل أتَى بالسُّلَّم؛ ليَصعَد إلى البيت فيَسرِق، وحين أَراد أن يَصعَد سمِعَ صوتًا، ونظَر وإذا حولَه أُناس، فتَرَك، له حُكْم الفاعِل لكن عِند اللَّه تعالى، أمَّا في الدُّنيا فلا نَقطَع يَدَه، لكن عند اللَّه تعالى له حُكْم الفاعِل، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا الْتَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ"،

ص: 274

قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، هذا القاتِلُ فما بالُ المَقتولِ؟ يَعنِي: كيف يَكون مَقتولًا ويَصير في النار، قال صلى الله عليه وسلم:"لَأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ"

(1)

: "حَريصًا" فهذا فِعْل له سبَب، فحَكَم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار، لأنه كان حَريصًا على قَتْل صاحِبه.

الحال الثانية: مَن تَرَكها؛ لأنها لم تَطرَأ له على بالٍ، مثل: إنسان مثَلًا لا سرَق ولا زنَى ولا شرِبَ الخَمْر، لأن نفسَه ما دَعَتْه إلى ذلك يومًا من الأيام، فما الحُكْمُ؟

الجَوابُ: هذا ليس له شيء وليس عليه شيء، لأنه ما فعَل إِثْمًا، ولا تَقرَّب إلى اللَّه تعالى بِنيَّة، فلا يَكون له شيء، ولا عليه شيء.

الحالُ الثالِثة: رجُل هَمَّ بمَعصية، وربما فعَل أسبابَها، ولكنه ترَكَها للَّه عز وجل عِندما تَذكَّر عظَمة اللَّه تعالى، خَشِيَ اللَّه عز وجل وخافَه، فهذا حُكْمه أن له أجرًا على التَّرْك، كما جاء في الحديث الصحيح:"مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتبَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَسَنَةً كامِلَةً"

(2)

، قال:"لَأَنَّهُ إِنَّما ترَكَ ذَلِكَ مِنْ جَرَّائِي"

(3)

، أي: من أَجْلي، فإذا ترَكْتها للَّه تعالى فإنه فإنَّك تُؤجَر على ذلك.

ولو أنَّ الإنسان همَّ بالمَعْصية وفعَل الأسبابَ، لكن ترَكها لا للَّهِ سبحانه وتعالى ولا لعِباد اللَّه تعالى، هل يَأثَم أو ما يَأثَم؟

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، رقم (31)، ومسلم: كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، رقم (2888)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، رقم (6491)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب، رقم (131)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه ابن منده في الإيمان رقم (376)، والبيهقي في شعب الإيمان رقم (6645)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 275

يعني: واحِد هَمَّ بالسرِقة وأتَى بالسُّلَّم، ولمَّا أَراد أن يَصعَد رجَع لنَفْسه، وقال: لماذا تَسرِق ما دام أن اللَّه أَرْضاك، فعِندك مالٌ، ولسْتَ في حاجة إلى السرِقة. فتَرَكها؛ ونَقول: هو ليس عليه إِثْم السرِقة، ولا له أَجْر، لكن هل يَأثَم على فِعْل السبَب؟

الجَوابُ: يَأثَم على فِعْل السبَب هو الظاهِر، وإن كان أن الغاية لم يَصِل إليها، لكن نَقول: هذا السبَبُ الذي فعَلْت، وقد قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8].

فهو لم يَرجع؛ لأن الأسباب الأُولى ما تَرَكها للَّه تعالى، إنما تَرَكها، لأنه نظَرَ أنه ليس بحاجة للسَّرِقة فتَرَكها.

ونَقول: أمَّا السَّرِقة فلا تَأثَم -وإن كُنْت قد نَوَيْتها في الأوَّل- لأنك ما فعَلْتها، وأمَّا فِعْل الأسباب، فإن هذه الأَسْباب محُرَّمة.

وهذا رجُل ترَك المَعصية لشَرَفه، يَعنِي: ترَك الزِّنا مع تيسُّره، لأنه رجُل شَريف، لا يُحِبُّ أن يَتَلوَّث بهذه الأخلاقِ السافِلةِ، فهل يُؤجَر أو لا يُؤجَر؟

الجَوابُ: أمَّا على تَرْك الزِّنا فالظاهِر: أنه لا يُؤجَر، لأنه ما ترَكَه للَّه تعالى، وأمَّا على حِماية شرَفه فإنه يُؤجَر، لأن الإنسان يَنبَغي له أن يُدافِع عن شرَفه، حتى إن النبيَّ عليه الصلاة والسلام لمَّا قال:"هَذِهِ صَفِيَّةُ"، وهذا ليس لدَفْع التُّهْمة عن نَفْسه؛ لأن هذا شيء بعيد، لكن لِئَلَّا تَقَع التُّهْمة في أُولئِكَ فيَهلِكوا؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الاعتكاف، باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، رقم (2038)، ومسلم: كتاب السلام، باب يستحب لمن رئي خاليا بامرأة. .، رقم (2175)، من حديث صفية رضي الله عنها.

ص: 276

فالظاهِرُ لي: أنَّ الإنسان الذي يَترُك الشيء محُافَظةً على شرَفه وعلى سُمْعتِه فإنه يُؤجَر على ذلك؛ لأنه صان نَفْسه، وفي الحَديث:"رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً كَفَّ الْغِيبَةَ عَنْ نَفْسِهِ"

(1)

، ولا أَدرِي عن صِحَّته.

لكن الإنسان مَأمور بحِماية شرَفه بلا شَكٍّ، والذَّودِ عن نَفْسه، وإزالة التُّهْمة عنها، فإذا كانت هذه نِيَّتَه، فإنه يُؤجَر، لكن لا يُؤجَر أجرَ مَن ترَك الزِّنا للَّه تعالى، لأن بينهما فَرْقًا عظيمًا.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: التفصيلُ في ذِكْر الرِّجال والنِّساء، لقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ. . .} وهذا وإن كان مَوْجودًا في القُرآن لكنه قَليل.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الإسلام غيرُ الإيمان، لقوله سبحانه وتعالى:{الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ} ، والعَطْف يَقتَضي المُغايَرة، وقدِ اختَلَف الناس: هل الإسلام هو الإيمانُ؟ أو هلِ الإسلامُ هو الإيمانُ أو غيرُه؟ والصوابُ في ذلك التَّفصيلُ، فإذا أُطلِق الإسلامُ دخَل فيه الإيمانُ، وإذا أُطلِق الإيمانُ دخَل فيه الإسلامُ، و (أُطلِق) يَعنِي: ذُكِرَ مُفرَدًا، فقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] يَدخُل فيه الإيمانُ لا شَكَّ.

وأمَّا إذا ذُكِرَا جميعًا فإنهما يَختَلِفان، ولهذا سَأَل جِبريلُ عليه السلام النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الإسلامِ، فذَكَر له أشياءَ، وسأَله عن الإيمانِ فذكَر له أَشياءَ تُخالِف الأُولى

(2)

؛ فإذا ذُكِرَا جميعًا صار الإيمانُ في القَلْب والإسلام عَلانية في الجَوارح.

(1)

لا أصل له، وانظر: كشف الخفاء للعجلوني رقم (1367).

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام، رقم (8)، من حديث عمر رضي الله عنه.

ص: 277

وأيُّهما أَكمَلُ؟ الإيمان اكمَلُ؛ لقول اللَّه عز وجل: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، هذا من القُرآن.

ومن السُّنَّة: أن رجُلًا أَثنَى عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم على رجُل فقال: إنه مُؤمِنٌ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمٌ"

(1)

، فدَلَّ ذلك على أن الإسلام أَضعَفُ من الإيمان؛ لأنَّ الرجُلَ كان يُثنِي عليه يَمدَحه، فقال: إنه مُؤمِن فقال صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسلِمٌ" يُكرِّرها.

وعلى هذا فنَقول: إن الإيمان أَعلى من الإسلام، وهو مُغايِر له إذا ذُكِرَا جَميعًا.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: فضيلة الإسلام والإيمان، وكلُّ ما ذُكِر بعد ذلك.

فإن قال قائِل: إن الفَضْل جاء لمَنِ اتَّصَفوا بهذه الصِّفاتِ كلِّها؟

قُلْنا: لكن لمَّا جاء هذا الفَضلُ لها مجَموعًا دلَّ على أن كلَّ واحِد منها له فَضْل، وإلَّا لما كان لذِكْرها جميعًا فائِدة.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فضيلة القُنوت؛ لقوله تعالى: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} .

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: فَضيلة الصِّدْق؛ لقوله تعالى: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} ، وإذا كان الصِّدْق فَضيلةً كان ضِدُّه وهو الكذِبُ رَذيلةً، وهو كذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كذَّابًا"

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، رقم (27)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه، رقم (150)، من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب قول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، رقم (6094)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، رقم (2607)، من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 278

فإن قُلْت: أفلا يَجوز الكَذِب الأبيضُ؟

فالجَوابُ: ليس في الكذِب أَبيضُ، كلُّ الكذِب أَسوَدُ، وعند العوامِّ: الكذِبُ الأبيضُ هو الذي لا يَستَلزِم أَكْل المال، اكْذِبْ كما شِئْتَ، لكن لا تأكُلْ أَموال الناس بالكذِب، ولكنَّ هذا خِلافُ تَحذير النبيِّ عليه الصلاة والسلام حين قال:"إيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ".

وهل رُخِّص في شيء من الكَذِب؟

الجَوابُ: في الإصلاح بين الناس والحرْب وحديث الرجُلِ مع امرأته والمَرأةِ مع زَوجها

(1)

.

لكن بعضَ أهلِ العِلْم يَقول: لم يُرخَّص في شيء من الكذِب إطلاقًا، وقال: إنَّ المُراد بالكذِب في هذا الحديثِ التَّوْريةُ، فالتَّوْريةُ كما هو مَعلوم كذِب من وجهٍ، وصِدْق من وَجْهٍ آخَرَ، فهي باعتِبار نِيَّة الفاعِل القائِل صِدْق، وباعتِبار ما فهِمَه المُخاطَب كذِب، فيَقولون: إنَّ عُموماتِ الحديث تَدُلُّ على الكذِب، ويُجمَع بينه وبين الحديث الذي فيه الاستِثْناء بأن هذا من باب التَّوْرية، وقالوا: إنَّ الإصلاح بين الناس إذا بُنِيَ على الكذِب فقد تَكون النَّتيجةُ فيما بعد عَكسيةً، إذا علِمَ المُتصالحِان فيما بعدُ أنَّ الأمرَ ليس على ما ذُكِر، فيُمكِن أن يَزيدَ الشَّقُّ، ويَنتَقِضَ

(1)

أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، رقم (2605)، عن ابن شهاب الزهري قال: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.

وأخرج البخاري: كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، رقم (2629)، ومسلم: رقم (2605)، من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها:"ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا".

ص: 279

الصُّلْحُ، وقالوا أيضًا: إن الكذِب في الحرْب رُبَّما يُنتِج نَتيجةً سيِّئةً، حيث يَتبيَّن للعَدوِّ أنَّ الأمر ليس على ما قيل، مثل أن يُقال له: إن عندنا جَمْعًا كثيرًا، وما أَشبَهَ ذلك، بدون تَوْرية، فهذا خطَأ.

قالوا: وأيضًا حديثُ المَرأة، حديثُ الرجُل زوجتَه، وحديثُ المرأة زوجَها، هذا أيضًا لو أَجَزْنا الكذِبَ صارت مَشاكِلُ عظيمة، فيَجيءُ الرَّجُل يَقول: أنا عِنْدي مِليون ريالٍ، وعِندي مِئة سيَّارةٍ، وعِندي ثَلاثون بيتًا، وما أَشبَه ذلك، وما عنده إلَّا ثِيابُه، فتَقول المرأة: أنت كذَّاب، ولا تَصلُح زوجًا لي. وكذلك بالعكسِ فالمَرأةُ تُحدِّث زَوْجها يَقول: لم تَذهَبِين إلى السُّوق؟ فتَقول: أبدًا، ما عُمْري طَلَعْت للسُّوق، ولا أَعرِف السُّوق، ولا أَعرِف الرِّجال! فإذا الأَمْر بالعكسِ، ففيه خُطورة، ولهذا قال بعضُ أهلِ العِلْم رحمهم الله: إن المُراد بذلك التَّورِية، والتَّوريةُ لا تَجوز إلَّا في حالين وهُما: الحاجةُ أو المَصلَحة.

فظاهِرُ الحديث الاستِثْناءُ: إن هذا من الكذِب الصَّريح، وأنه لا بأسَ به، ولكن حتى على القَوْل بأن الاستِثْناء يَعود على الكذِب الصَّريح دون التَّوْريةِ، يَجِب أن يُقال: هذا من المُباحِ، والمُباح إذا تَضمَّن ضرَرًا كان حرامًا، لأن القاعِدة عِندنا: كلُّ المُباحات يُمكِن أن تَجرِيَ فيها الأحكام الخَمسةُ، كلُّ ما كان مُباحًا فإنه يُمكِن أن تَجرِيَ فيها الأحكامُ الخمسةُ؛ ولهذا ذهَب بعض الأصولِيِّين إلى أنه ليس في الشريعة شيءٌ اسمُه مُباحٌ، يَعنِي: مُستَوِي الطَّرفَيْن، بل لا بُدَّ من تَرجيح، لكن جُمهور العُلَماء على أن المُباح ثابِت في الشَّريعة.

الحاصِلُ: أنه إذا كان الحديث صَريحًا في جواز الكذِب في هذه الأُمورِ الثَّلاثةِ فيَجِب أن يُقيَّد بما إذا لم يَتضَمَّن ضرَرًا، فإن تَضمَّن ضرَرًا مُنِع منه.

ص: 280

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: فضيلة الصَّبْر؛ لقوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} وقد سبَق لنا بيانُ أقسام الصَّبْر.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: فضيلة الخُشوع في العِبادات؛ لقوله تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} ، ولا سِيَّما في الصلاة التي نَصَّ اللَّه تعالى على الخُشوع فيها، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2].

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: فضيلة الصدَقة؛ لقوله تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} ، وهو شامِل للواجِب والمُستَحَبِّ، والواجِب أَفضَلُ بالنصِّ والنظَر -أي: بدَلالة الأثَر والنظَر-؛ أمَّا الأثَر فقَدْ قال اللَّه عز وجل في الحديث القُدسيِّ: "مَا تَقَرَّبَ إِليّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِليّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ"

(1)

، وهذا صريح، وأمَّا النظَر فنَقول: لولا أن الواجِب أحَبُّ إلى اللَّه تعالى ما فرَضَه اللَّه تعالى على العِباد، لجَعَله تَطوُّعًا، لك الخِيارُ فيه، فإيجاب اللَّه تعالى له دليلٌ على محَبَّته له.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: فضيلة الصَّوْم؛ لقوله تعالى {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} فَرْضه ونَفْله، وأفضَلُ النَّفْل في الصوم صومُ يَوْمٍ وفِطْر يَوْمٍ، وهو صِيام داوُدَ عليه الصلاة والسلام

(2)

.

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: فضيلة حِفْظ الفَرْج؛ لقوله تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} ، ويُسْتَثْنَى من ذلك حِفْظ الفَرْج عن الزوجة، وما ملَكَتِ اليَمينُ،

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الجمعة، باب من نام عند السحر، رقم (1131)، ومسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، رقم (1159)، من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 281

فإن الإنسان لا يُلام عليه.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنه يَنبَغي اتِّخاذُ الوسائِل التي يَنبَغي بها حِفْظ الفَرْج؛ لأن الثَّناء على شيء ثَناء عليه وعلى وَسائِله، فكل ما يَحصُل به حِفْظ الفَرْج فإنه مَطلوب ومَشروع؛ ولهذا حرُم النَّظَر إلى الأجنبِيَّة، وحرُم التَّلذُّذ بمُخاطَبَتها، والاستِماع إلى صَوْتها، وحرُم أيضًا مُصافَحة المَرأة الأَجنَبِيَّة، وحرُمَت الخَلْوةُ بها، وحرُم سَفَرُها بلا محَرَم، وما أَشبَه ذلك، مِمَّا يَكون سببًا في حِفْظ الفُروج، فإذا كان اللَّه سبحانه وتعالى أَثنَى على الحافِظين فُروجَهم فإن الوسائِلَ التي تُؤدِّي إلى حِفْظ الفَرْج من الأُمور المَطلوبة.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: فضيلة كثرة ذِكْر اللَّه سبحانه وتعالى؛ لقول اللَّه سبحانه وتعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} وجَدير بالمَرْء أن يَكون دائِمًا ذاكِرًا لربه عز وجل؛ لأنه ما من نِعْمة هو فيها إلَّا وهي من اللَّه تعالى، فإذا كان اللَّه تعالى قَدْ أَدام عليك النِّعَم وأكثَرَ عليك النِّعَم، فلماذا لا تُديم ذِكْره؟ ! حقيقةُ الأمر أنَّ الإنسان لو فكَّر لوجَد أنه لو يَستَوْعِب ليلَه ونَهارَه في ذِكْر اللَّه تعالى ما كَفَى؛ ولهذا قال النبى عليه الصلاة والسلام:"سُبْحَانَكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَما أثنيتَ عَلَى نَفْسِكَ"

(1)

، فالإنسان لا يُمكِن أن يُحصِيَ الثناءَ على اللَّه تعالى أبَدًا مَهما كانَ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أن اللَّه سبحانه وتعالى أَعَدَّ لهؤلاء المُتَّصِفين بهذه الصِّفاتِ المَغفِرةَ من الذنوب والأَجرَ العظيمَ على الطاعات؛ لقوله سبحانه وتعالى: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} ، والأوصافُ التي ذُكِرت عَشَرة: (المُسلِمين، والمُؤمِنين،

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (486)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 282

والقانِتين، والصادِقين، والصابِرين، والخاشِعين، والمُتصدِّقين، والصائِمين، والحافِظين فُروجَهم، والذاكِرين اللَّهَ كثيرًا) مع المَعطوف عليها تَكون عِشرين، هذه العِشرون كفَى عنها ضميرٌ واحِد، وهو قوله تعالى:{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ} لو جاء يُعدِّد هؤلاء كان يَقول: (أعَدَّ اللَّه للمُسلِمين والمُسلِمات والمُؤمِنين والمُؤمِنات)، ولكن هذا من فوائِد الضمائِر، وهو أنها تَختَصِر الكلام الكثير بضَمير واحِد.

فائِدةٌ: لا شَكَّ أن هناك تَفاضُلًا، فكُلٌّ يُعطَى بحَسَبه، يَعنِي: إذا أَعَدَّ اللَّه تعالى للجَميع فمثَلًا: للذين يَتَّصِفون بهذه الصِّفاتِ العشَرةِ كلِّها أَكمَلُ ممَّن يَتَّصِفون ببَعْضها.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: تَفضيل الرِّجال على النِّساء؛ لأنه قدَّم في الذِّكْر الرِّجال، لقوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ} إلى قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} .

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أنَّ التَّغليب في جانِب المُذكَّر، لقوله تعالى:{لَهُمْ} ولم يَقُل: (لَهُم ولَهُنَّ).

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أنه يَنبَغي عند ذِكْر الرِّجال والنِّساء أن يُقدَّم الرِّجال، كما في هذه الآيةِ وغيرها من الآيات، وأمَّا مَن تَغرَّبوا فصاروا يُقدِّمون النِّساء على الرِّجال، فأُولئك يُولهِّمُ اللَّه سبحانه وتعالى ما تَولَّوْا من مُشابَهة الكُفَّار، وقَلْب الفِطْرة، وانتِكاس الحال، أن يُقدِّموا النِّساء على الرِّجال، عندما يَقول مثَلًا:(سَيِّداتِه وساداتِه) سَيِّداته! يُقدِّم النِّساء على الرِّجال، بل الأَعجَب من ذلك أنَّهم يُسمُّون النِّساء سَيِّدات، السيِّدة فُلانة، والرَّجُل لا يُقال له: السيِّد فُلان. أخَذوا ذلك من الغَرْب والكُفَّار، لأنَّ الرجُلَ في الحقيقة هو السيِّد على المرأة، قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25]، أمَّا المَرأةُ فليست سيِّدةً على الرَّجُل أبَدًا، لكن هؤلاء

ص: 283

كما قُلتُ: قلَبَ اللَّهُ تعالى فِطْرتهم بسبب أنهم تابَعوا أعداءَ اللَّه سبحانه وتعالى، وكثير من المُسلِمين -مع الأَسَف- الآنَ لا يُحِسُّون بهذه المَسائِلِ، ولا يَرَوْنها شيئًا، فهُمْ ماشُون مع العالَم حتى الأَلفاظ التي قد تَكون محُرَّمة يَمشون فيها! .

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أن جَزاء اللَّه سبحانه وتعالى أَعظَمُ من عمَل المَرء؛ لأنَّ هذه الأعمالَ التي ذكَرها اللَّه عز وجل جعَل الثَّواب عليها أَمْرَيْن: مَغفِرة الذُّنوب، والأَجْر العَظيم، وهذا الأَجرُ العَظيمُ المُبهَمُ هنا قد بُيِّن في نُصوص من الكِتاب والسُّنَّة: الحسَنة بعَشْر أَمثالها، إلى سَبْع مِئة ضِعْف، إلى أضعاف كثيرة

(1)

، وهذا مِمَّا يَدُلُّ على فَضْل اللَّه سبحانه وتعالى.

ومن العجَب: أنَّ فضلَ اللَّه تعالى عليك بالثَّواب كفَضْله عليك بالعمَل، فإنَّ فَضْل اللَّه على الإنسان بالعمَل فَضْل لا يَعدِله شيء، ولهذا جعَل اللَّه تعالى ذلك من إتمام النِّعْمة، فقال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وجعَل ذلك من مِنَّتِه حيث قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا} [آل عمران: 164]، وقال تعالى:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} [الحجرات: 17]، وانظُرِ الآنَ إلى أن اللَّه تعالى هو الذي مَنَّ عليك بالعمَل، ثُمَّ مَنَّ عليك بالثواب، ثُم قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، مع أنه هو الذي أَحسَنَ إليك، وإحسان اللَّه تعالى عليك بالعمَل مَسبوق بإِحْسانه عليك بشَيءٍ آخَرَ وهو الهِداية والعِلْم؛

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، رقم (6491)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، وإذا هم بسيئة لم تكتب، رقم (131)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 284

لأنه لا عمَلَ إلَّا بعِلْم، فيَكون عمَل الإنسان مَسبوقَا بنِعْمة اللَّه تعالى عليه بالعِلْم، ثُمَّ بنِعْمة اللَّه تعالى عليه بالتَّوْفيق، ومَلحوق بنِعْمة اللَّه تعالى عليه بالقَبول والجزاء، فتَأمَّل مثل هذه الأُمورِ حتى يَتَّضِح لك فَضْلُ اللَّه تعالى عليك.

مَسأَلة: هل يَلزَم شَرْط مُطلَق الإيمان للدُّخول للجَنَّة؟

الجَوابُ: مُطلَق الإيمان يَستَوْجِب أن يَكون في الجَنَّة ولو مآلًا، يَعنِي: قد يُعذَّب بذُنوبه لكن قد يَدخُل الجنَّة، فكلُّ مَن في قَلْبه أدنى مِثقاِل حَبَّة من خَرْدَل من إيمان فإنه من أهل الجنَّة.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنهَ عَشْرَةَ: أنَّ الجَنَّة مَوجودة الآنَ؛ لقوله تعالى: {أَعَدَّ} لأنَّ الإعداد بمَعنَى التَّهيِئة، وأَعَدَّ: فِعْل ماضٍ، فيَكون لازِمُ ذلك: أن تَكون الجنَّة مَوْجودة، وهذا أَمْر مَعلوم عند أهل السُّنَّة والجماعة، ومَدعوم بنُصوص الكِتاب والسُّنَّة، أنَّ الجنَّة والنار مَوْجودتان الآنَ.

* * *

ص: 285