المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (6) قَالَ اللَّهُ عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (6) قَالَ اللَّهُ عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ

‌الآية (6)

قَالَ اللَّهُ عز وجل: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6].

* * *

ثم قال اللَّه سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} : {النَّبِيُّ} مُبتدَأ، و {أَوْلَى} خبَرٌ، وهي اسمُ تَفضيل من الولاية، أَوْلى بهم.

قال: [{أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فيما دعاهم إليه ودَعَتْهم أنفسُهم إلى خِلافه] فحوَّل المَعنى، يَعنِي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعاك إلى شيء ودَعَتْك نفسُك إلى خِلاف هذا الشيءِ، فإن النبيَّ أَوْلى بك من نَفْسك، فأَطِعِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وخالِفْ نَفْسك، وهذا لا شكَّ أنَّه داخِل في الآية، لكن الآية أعمُّ وأشمَلُ وأدَقُّ، يَعنِي: إذا كان الإنسان يَسعَى لنَفْسه بي فيه الخير، فإنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام أَوْلى به من نَفْسه، ويَشمَل عِدَّة وُجوهٍ:

أوَّلًا: أن الرسول عليه الصلاة والسلام بالنِّسْبة للمُؤمِنين أبلَغُ من أنفُسِهم في مُراعاة مَصالحِهم وما يَنفَعهم، وفي دَفْع الضرَر عنهم؛ ولهذا قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:"أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ، مَنْ ترَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ ترَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ"

(1)

، هذه داخِلة

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"من ترك مالًا فلأهله"، رقم (6731)، ومسلم: كتاب الفرائض، باب من ترك مالا فلورثته، رقم (1619)، من حديث أبي هريرة.

ص: 61

في جُملة: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .

ثانيًا: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} في تَقديمه على أَنفُسِهم؛ ولهذا لا يُمكِن لا يَتِمُّ الإيمان؛ حتَّى يَكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليك من نَفْسك، كما قال عمرُ رضي الله عنه: واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ إنَّكَ لأَحَبُّ إليَّ مِن كلِّ شيءٍ إلَّا مِن نَفْسي. فقال صلى الله عليه وسلم: "وَمِنْ نَفْسِكَ يَا عُمَرُ"، فقال: وَمن نَفْسي. قال صلى الله عليه وسلم: "الْآنَ يَا عُمَرُ"

(1)

، فيَجِب على كل مُؤمِن أن يُحِبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكثَرَ من مَحبَّته لنَفْسه.

ثالثًا: ما أَشار إليه المُفَسِّر رحمه الله من أن الرسول عليه الصلاة والسلام أَوْلى بك من نَفْسك فيما يَدعوك إليه، وتَدْعوك نَفْسك إليه، فإذا دَعَتْك نَفْسُك إلى شيءٍ يُخالِفُ ما دعاك إليه النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْلى بك من نَفْسك.

فإِذَنِ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} كلِمة عامَّة تَشمَل كلَّ ما فيه ولاية وتَولٍّ، فالرَّسول عليه الصلاة والسلام أَوْلَى بالمُؤمِنين من أنفسهم، أمَّا غير المُؤمِنين فإن هذا الوَصْفَ لا يَنطَبِق عليهم بالنِّسبة للرسول صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّهات المُؤمِنين، فانظُرْ إلى التَّعبير فهنا ما قال: النبيُّ أبٌ للمُؤمِنين وأزواجهم أُمَّهاتُهُم. بل قال سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، فأَبوك ليس أَوْلى بك من نَفْسك، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أَوْلى بك من نَفْسك، فهذا أعظَمُ من قوله سبحانه وتعالى:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ، ومن أَجْل هذه الولايةِ كانت أزواجُه أُمَّهاتٍ لنا من قَبْلهن ومن قَبْلنا، يَعنِي: هُنَّ يَنظُرن إلينا كالنظَر إلى الأبناء، ونحن نَنظُر إليهن كنظَر الأُمَّهات.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم رقم (6632)، من حديث عبد اللَّه بن هشام رضي الله عنه.

ص: 62

ونحن نَعلَم أن أُمَّهات المُؤمِنين رضي الله عنهن بالنسبة لأُمَّة محُمَّد عليه الصلاة والسلام أُمَّة الإجابة، يَنظُرنَ إلى هذه الأُمَّةِ كما تَنظُر المرأة الأُمُّ إلى أولادها، ونحن يَجِب أن نَنظُر إليهنَّ كما نَنظُرُ إلى الأُمَّهات، لأنهن زوجاتُ مَن هو أَوْلى بنا من أَنفُسِنا، النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فلا جَرَمَ أن يَكُنَّ بمَنزِلة الأُمَّهات في الاحتِرام والتَّقدير والدِّفاع عنهنَّ، وعدَم التَّعرُّض لما وقَع في مخُالَفَتهن، بغَيْرةٍ وغيرها؛ لأن النِّساء الزوجاتِ -كما تَعرِفون- يَكون بينَهُن غَيْرةٌ، فقد تُخطِئ المرأة خطَأً يَحمِلها عليه الغَيْرةُ، والغَيْرة أَمْر يَملِك الإنسانَ ولا يَملِكه، كما أن الغضَب يَملِك الإنسان ولا يَملِكه.

فما وقع في مثل قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] مِثل هذا يَجِب علينا أن نُدافِع بقَدْر ما نَستَطيع، فمَنِ اتَّخذوا من مثل هذه القَضيَّةِ، اتَّخَذوا مَنفَذًا للطعن في زوجات النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا رَيْبَ أن مَن طعَنَ في زوجَات النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنه لا يَقتَصِر طَعنُه عَليهنَّ، بل يَشمَل الرسول صلى الله عليه وسلم، أَسألُك: لو أن رجُلًا اتَّخَذ من فواسِقِ النساء زَوْجاتٍ له، هل هذا مَدْح له أو قَدْح؟

قَدْحٌ بلا شكٍّ، فمَن قَدَح في واحِدةٍ من أُمَّهات المُؤمِنين فإن قَدْحه يَتعَدَّى إلى النبيِّ عليه الصلاة والسلام بلا شَكٍّ، ولا سيَّما إذا كان القَدْح فيما يَتعَلَّق بالشَّرَف والنزاهة؛ ولهذا الصحيحُ من أقوال أهل العِلْم رحمه الله أن مَن رمَى بالزِّنا واحِدةً من أُمَّهات المُؤمِنين، فإنَّه يَكون كافِرًا كُفْرًا مُخْرِجًا عنِ المِلَّة.

أمَّا عائِشةُ رضي الله عنها إذا رمَاها بما برَّأَها اللَّه تعالى به فلا شكَّ في كُفْره؛ لأنَّه مُكذِّب للقُرآن، وأمَّا غيرُها فإنه إذا قذَف واحِدةً بالزِّنا فإنه مُكذِّب للقُرآن أيضًا من جهة أُخرى يَقول اللَّه سبحانه وتعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ

ص: 63

وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] ولا شكَّ أن الزِّنا -والعِياذُ باللَّه- خُبْث، فأنت إذا وصَفْت واحِدة من أُمَّهات المُؤمِنين بالزّنا وإن لم تَكُن عائِشةَ رضي الله عنها؛ فقد وصَفْت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالخُبْث، نَسأَل اللَّه تعالى العافِية، وحينئذٍ يَكون الإنسان كافِرًا لا شكَّ.

والصوابُ -الذي عليه المُحقِّقون من أهل العِلْم رحمهم الله: أنَّ مَن قَذَف واحِدةً من أُمَّهات المُؤمِنين فإنه يَكون كافِرًا كُفْرًا مخُرِجًا عن المِلَّة، وكذلك من قذَف غيرَهن من زوجات الأنبياء يَكون كافِرًا؛ للآية التي ذُكِرت:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ. . .} [النور: 26] إلى آخِرها.

فما مِن شَكٍّ أن مَن يُكفِّر واحِدة من أُمَّهات المُؤمِنين فهو كافِر؛ لأنه يَلزَم من تكفِيره واحِدةً من أُمَّهات المُؤمِنين أن يَكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد استَباح امرأةً كافِرةً، وهذا قَذْفٌ في الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذَنْ: أزواجه أُمَّهاتهم من الناحِيَتين، يَعنِي: أننا لزَوْجات الرسول صلى الله عليه وسلم بمَثابةِ الأبناء، وأنهنَّ لنا بمَنزِلة الأُمَّهات، لكن هل هُو في المَحرَميَّة والنظَر والخَلْوة أو في الاحتِرام فقَطْ؟

يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [في حُرْمة نِكاحِهنَّ عليهم] ولا يَكفِي هذا في حُرْمة نكاحِهن عليهم، لا شكَّ أنَّه لا يَحِلُّ لأحَد أن يَتزَوَّج امرأةً بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم من زَوْجاته، ولكِنَّ هذا الاحتِرامَ ليس لهُنَّ فحَسْب، بل حتَّى للرسول صلى الله عليه وسلم إكرامًا له؛ ولذلك إذا تُوفِّيَ الرجُل عن المرأة ولو كانت لا تَحيض تَعتَدُّ بأربعة أشهر وعَشْرٍ؛ احتِرامًا للنِّكَاح الأَوَّل إلَّا إذا كانت حامِلًا فعِدَّتُها بالحَمْل.

أَقول: إنهن أُمَّهات المُؤمِنين في حُرْمة النِّكَاح وفي وُجوب احتِرامِهن.

ص: 64

وفيها قراءَة لبَعض السلَف: "وأَزواجُه أُمَّهاتُهم وهو أَبٌ لَهم"، ولكنها قِراءة لا تُعتَبَر من القِراءات السَّبْعية، إلَّا أن بعضَهم قَرَأ بها، ولكنك إذا تَأمَّلت:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وجَدْتَ أنَّه أعظَمُ من الأبِ.

قال سبحانه وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} سيَأتينا -إن شاءَ اللَّه تعالى- في الفوائِد: هل أولادُهنَّ إِخوةٌ للمُؤمِنين وهل إخوانُهنَّ أخوالٌ للمُؤمِنات وهل آباؤُهنَّ آباءٌ للمُؤمِنين؟ وما أَشبَهَ ذلك، يَأتينا هذا -إِن شاءَ اللَّه تعالى- في الفوائِد.

قال رحمه الله: [{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ} ذَوُو القَرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} في الإِرْث {فِي كِتَابِ اللَّهِ} من المُؤمِنين والمُهاجِرين، أي: من الإرث بالإيمان والهِجْرة الذي كان أوَّل الإسلام فَنُسِخ].

قال سبحانه وتعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، قوله عز وجل:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} مُتَعلِّق بـ {أَوْلَى} ، أَوْلى من المُؤمِنين والمُهاجِرين، وعلى هذا فإن (مِن) هي الدالَّة على المُفضَّل عليه، فإذا قلت: فُلان أَفضَلُ من فلان، فإن (مِن) هذه لتَعيين المُفضَّل عَليه، وهنا أُولو الأرحام بعضهم أَوْلى ببعض من المُؤمِنين والمُهاجِرين.

وقيل: إن (مِنْ)، بَيانيَّة يَعنِي: وأُولو الأرحام من المُؤمِنين والمُهاجِرين بعضُهم أَوْلى ببعض، يَعنِي: أُولو الأرحام سَواءٌ كانوا مُؤمِنينَ فقَطْ أو مُؤْمنينَ مُهاجِرينَ فإن بعضَهم أَوْلى بِبَعض، فإذا قُلْنا: أُولو الأَرْحام بعضُهم أَوْلى ببعض في الإِرْث مِن المُؤمِنين والمُهاجِرين. أو قُلْنا: أُولو الأرحام بعضُهم أَوْلى ببعض من المُؤمِنين. صار المَعنى الأَخير أعمَّ وأشمَلَ.

وعلى كلِّ حال: الآيةُ فيها قولان للمُفسِّرين:

ص: 65

القولُ الأوَّلُ: إن هذه ناسِخة للإِرْث الثابِت في أوَّل الإسلام بين المُؤمِنين من الأنصار والمُهاجِرين من المُسلِمين، فكان في الأوَّل جَعَل الرسول بَينهم عليه الصلاة والسلام أُخوَّةً، رتَّب أُخوَّةً يَتو ارَثون بها، حتَّى أَنزل اللَّه سبحانه وتعالى آيةَ الإِرْث، وجعَل ذَوي الأَرْحام بعضُهم أَوْلى بِبَعض.

القول الثاني: يَقول: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} مِن المُؤمِنين والمُهاجِرين بعضُهم أَوْلى ببعض، وعلى هذا فتكون الآية مُحْكَمة، ليس فيها نَسْخٌ، وتَكون أَعمَّ من الإِرْث أَوْلى ببعضِهم في كل شيءٍ حتَّى في ولاية النكاح وغير ذلك، فهُمْ بعضُهم أَوْلى ببعض.

و(أُولُو) بمَعنى: أصحاب، و (الأَرْحام) جَمع رحِمٍ وهو القَرَابة يَعنِي: ولهذا قال المُفَسِّر: [ذَوِي القَرابات] وأن ما اشتَهَر عندنا في عُرْفنا أن الأَرْحام أقَارِبُ الزوجة فهذا غيرُ صحيح، أقارِبُ الزوجة يُسمَّوْن أصهارًا، ومن أَجْل هذا الخطَأِ في المَعنَى صار بعض الناس يَقول: أنتم تَقولون: إن أسباب الإرث ثلاثة: رحِم ونِكاح وولَد، فأينَ الثالِثُ؟ ! فالرحِم والنِّكاحُ واحِد عند هؤلاء.

ونَقول: إن فَهْمكم للرحِم فهم خاطِئ، وهذا ما يَرمِي إليه الشَّرْعُ من تَسمية الأشياء بأسمائِها الشرعية حتَّى لا يَحصُل الخطَأ.

فالآنَ عندنا كلِمة العَمِّ تُطْلَق على زَوج الأُمِّ، فلو سألَك سائلٌ فإنك تَبنِي أَنت على أنَّه عَمُّه أَخو أبيه! ثُمَّ تَجِد أنَّه أَراد بالعَمِّ زَوجَ أُمِّه، فكلُّ هذه الأشياءِ يَنبَغي لنا أن نُصحِّح كلامنا فيها؛ حتَّى لا يَقَع الخطَأ.

وقوله تعالى: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي: مَكتوبه، فهو فِعَال بمَعنَى: مَفعول، وهل المُراد في كِتاب اللَّه تعالى، أي: في الوَحْي أو في كِتاب اللَّه أي: في فَرْض اللَّه تعالى؛

ص: 66

لأن الكَتْب يُطلق بمَعْنى الفَرْض، كما في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، يُحتَمَل هذا وهذا.

ولكن الأقرَب أنَّ {فِي كِتَابِ اللَّهِ} أَيْ: في مَكتوبه، أي: فيما كتَبه اللَّه عز وجل، ونَقول: إن كان المُراد بكِتاب اللَّه تعالى اللوحَ المَحفوظَ فالأَمْر ظَاهِر؛ لأن اللَّه تعالى كتَب فِي اللَّوْح المَحفوظ مَقاديرَ كلِّ شيءٍ، وإن كان المُرَاد بكِتاب اللَّه هذا القُرآنَ، فإنه مَكتوبٌ بأَيْدي الملائِكة ومَكتوب بأَيْدي المُؤمِنين من بني آدَمَ.

قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا} يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [{لكنْ {إِلَّا}] تَقدير (إلَّا) بـ (لكِن)؛ لأن الاستِثْناء هنا مُنقَطِع، وإذا كان الاستِثْناء مُنقَطِعًا فإنه تُقدَّر (إلَّا) بـ (لكِن)، والانقِطاع كما يَكون في الذوات يَكون في المَعاني أيضًا، فقول النَّحوِيِّين: جاء القَوْمُ إلَّا حِمارًا. هذا استِثْناء مُنقَطِع باعتِبار الذوات، القوم يَعنِي: ذواتَهم إلَّا حِمارًا، ومثل هذه الآيةِ:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا} استِثناء مُنقَطِع بالمعاني، فالاستِثْنَاء المُنقَطِع يَكون في المَعاني، ويَكون أيضًا في الذوات:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} هذا مُتَّصِل؛ لأن {الَّذِينَ آمَنُوا} من {الْإِنْسَانَ} لكن {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ} هذا لا يَدخُل في قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} ؛ لأن أَوْلياءَنا هؤلاء ليسوا من ذَوي الأرحام، بل بيننا وبينهم مُوالاة، ولهذا قال تعالى:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} بوَصية فجائِز.

قوله تعالى: {إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ} جَمْع وَليٍّ، والمُراد بالوَليِّ هنا مَن كان بينك وبينه مُوالاة ومُناصَرة كالذي حصَل بين المُهاجِرين والأَنْصار في أوَّل الهِجرة، فإذا كان بينك وبينه مَعروف، تَفعَل فيه مَعروفًا فإن هذا جائِز.

ص: 67

قال المُفَسِّر رحمه الله: [بوَصيَّة] وخَصَّ المَعروف بالوَصِيَّة، لأن الكلام الآنَ في التَّوارُث، والتَّوارُث ما يَكون إلَّا بعد الموت، كذلك الوَصيَّةُ ما تَكون إلَّا بعد الموت.

قال اللَّه سبحانه وتعالى: {كَانَ ذَلِكَ} أي: نَسْخ الإِرْث بالإيمان والهِجْرة بإِرْث ذَوِي الأرحام، قال رحمه الله:[{فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} وأُريد بالكِتاب في المَوْضِعين: اللوحُ المَحفوظ].

قوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ} المُشار إليه كون أُولي الأرحام بعضُهم أَوْلى ببعض من المُؤمِنين والمُهاجِرين.

قوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ} أي: في اللَّوْح المَحفوظ على كلام المُفَسّر رحمه الله، وهو ظاهِر في المَسأَلة الأَخيرة، لأن (كان) تَدُلّ على الماضي، وهذا يَدُلُّ على أن الذي في الكِتاب المَحفوظ أن الإِرْث يَكون لذَوِي الأرحام، لكنه كان بالمُوالاة في زمَنٍ غير طويل، أوَّل ما قدِم المُهاجِرون إلى المدينة صاروا يَتَعاقَدون أُخوَّةً بينهم يَثبُت بها الإِرْث، لكنَّ هذا ليس هو الذي كتبَه اللَّه تعالى مُستَقرًّا على عِباده، وإنَّما حصَل ذلك لعارِض وهو ثُبوت الأُخوَّة التامة بين المُهاجِرين والأنصار، وإلَّا فإن الفَرْض المُستَقِرَّ هو ما في الكِتاب المَحفوظ من أن الإِرْث إنما يَكون بالرَّحِم.

وقوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} : (ذا) اسمُ إشارةٍ هو الاسم، {مَسْطُوَرًا} خبَرُ {كَانَ ذَلِكَ} و {فِى الْكِتَابِ} جارٌّ ومَجرورٍ مُتعلِّق بمَسطور على أنَّه اسمُ مَفعول، واسمُ المَفعول يَعمَل عمَل فِعْله بالشُّروط السابِقة وهي تامَّة هنا.

ص: 68

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: وُجُوب تَقْديم مَحَبَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم على النَّفس؛ لِقَوله سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فهو أَوْلى بك من نَفْسك.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: عِظَم شَفَقة النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام على أُمَّته؛ لِكَونه أَوْلى بهم من أنفُسهم.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: وجوبُ طاعة النبيِّ سبحانه وتعالى وتَقديمها على طاعة النَّفْس؛ لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} يَدخُل فيه هذه المَسأَلةُ: أنَّه إذا أَمَرك بالشيء ودعَتْك نفسُك إلى ضِدِّه فقَدِّمْ ما أَمَر به النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

فصار النبيُّ أَوْلى بالمُؤمِنين من أنفُسهم بالنِّسبة لك وبالنِّسبة له، بالنِّسبة له يَجِب عليك أن تُقدِّم محَبَّته وطاعته على محَبَّة نَفْسك وطاعتها، وبالنِّسبة له هو أَوْلى بك وأَرفَقُ بك وأَشفَقُ عليك من نفسِك.

الْفَائِدَةُ الرَّابعَةُ: أن زَوْجاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّهاتُ المُؤمِنين؛ لِقَولِه تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ما قلنا: أُمَّهاتهم أُمَّة كلها، لأنه قال تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .

وقد استَدَلَّ بعضُ العُلَماء رحمهم الله على أن مَن أبْغَضَ عائِشةَ رضي الله عنها فليس بِمُؤمِن؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى ذكَر أنَّها أم المُؤمِنين، ولا يُمكِن أن يُبغِض الإنسان أُمَّه، فإذا أَبغَضها فليس بمُؤمِن؛ لأنه لو كان مُؤمِنًا كانت أُمًّا له، ولو كانت أُمًّا له لمَا أَبغَضَها، وهذا استِنْباط جيِّد.

واختَلَف العُلَماء رحمهم الله: هل يُسمَّى أقارِبُ زَوْجات الرسول عليه الصلاة والسلام بما يَقتَضيه النسَبُ؟ يُسمَّى إخوَةُ زَوجاتِ الرسول صلى الله عليه وسلم أَخوالًا للمُؤمِنين أو لا؟

ص: 69

وهل يُسَمَّى أيضًا آباؤُهنَّ آباءً للمُؤمِنين، وأَبناؤُهن إِخوةً للمُؤمِنين؟

في هذا خِلاف بين أهل العِلْم رحمهم الله، والصحيحُ أنَّه لا يُسمَّى هؤلاءِ بما يُسمَّى نَظِيرُه في النَّسَب؛ لأن هذه الأُمومة خاصَّة بعَلَاقتِهنَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأَقارِبُهن ليس لهم عَلاقة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلا يُسَمَّى أحَدٌ من إخوانهن بأَخوال المُؤمِنين، ولا أحَد من آبائِهن بأبِي المُؤمنين، ولا أَحَد من أبنائِهن بأخي المُؤمِنين.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن الرسول عليه الصلاة والسلام مَنزِلته بالنِّسْبة للمُؤمِنين أعلى من مَنْزِلة الأُبُوَّةِ؛ لأنه قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} ، وعلى هذا فلا حَاجةَ للقِراءةِ الَّتي قرَأ بها بعضُ السلَف، وهو قوله:"وهُوَ أَبٌ لَهُم"؛ لأن الأُبُوة بل أعلى من الأُبوَّة مُستَفاد من قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: تَحريم نِكاح زَوْجات النبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَهُ؛ لِكَونِهن أُمَّهات المُؤمِنين، وسيَأتِي في هذه السُّورةِ قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} [الأحزاب: 53] وهذا من حِماية اللَّه تعالى لفِراش النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه حتَّى بعد مَوْته لا أحَدَ يَتزَوَّج أحَدًا من نِسائه.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: نَسْخُ التَّوَارُثِ بِالمُوَالاة؛ لِقَوله عز وجل: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} على أحَد التَّفسيرين: على أَنَّ (مِنْ) دَاخِلةٌ على المُفضَّل عليه.

أمَّا إذا جعَلْنا (مِنْ) بَيانيَّة؛ لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} ، فإنها لا تَدُلُّ على ذلك، وقد تَدُلُّ عليه من باب اللُّزوم لا من باب الدَّلالة المُطابِقة اللَّفْظية.

ص: 70

فإذا لم يُوجَد أحَدٌ من ذَوِي الأرحام هَل يَعود الإِرْث بالمُوَالَاة والمُنَاصَرة؟

أَكثَرُ أهل العِلْم على أنَّه لا يَعود وأن أسباب الإِرْث تَنحَصِر في ثلاثة فقط وهي: النِّكاح، والنَّسَب، والولَد، ولكن شيخ الإسلام ابن تَيميَّةَ

(1)

رحمه الله يُجَوِّزُ إذا لم يُوجَد إذا لم تُوجَدِ الأسباب الثلاثة المُجمَع عليها يَجوز التَّوارُث بالمُوالاة والمُنَاصَرة، يَقول رحمه الله:"لأنه لمَّا عُدِم الأرحامُ زال السبَب المانِع من التَّوارُث بالمُوالاة والمُناصَرة"، لكن أكثَر أهل العِلْم رحمهم الله على خِلاف هذا.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أن صِلة الرحِم كما تَكُون في الحياة تَكُون بعد الموت، لأن هذه الأَوْلوية تَكُون في الحياة وفي الموت.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أن مَن كان أَقرَبَ من ذَوِي الأرحام فهو أحَقُّ بالإرث؛ وجهُه: أنَّه سبَق لنا قاعِدة في هذا البابِ وهو أنَّه إذا عُلِّق الحُكْم على وَصْف، فكلَّما كان الوصفُ في شيءٍ أقوى كان الحُكْم فيه أَوْلى، فما دام أُولو الأرحام أَوْلى؛ لأنهم ذَوِي أرحام، فمَن كانت رحِمه أَقوَى فهو أَوْلى، ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، كما بَقِيَ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"

(2)

.

فأنا لو قُلت لك: إذا رأَيْت فاسِقًا فاجْلِدْه. مثلًا، فهل هذا الأَمرُ بالجلْد هل يَختَلِف باختِلاف الفاسِقين أو أَفسَقِهم أو أَقَلِّهم على حدٍّ سَوَاء؟ يَختَلِف؛ لأن القاعِدة: أنَّه إذا عُلِّق الحُكْم بوَصْف فإنه متى كان الوَصْفُ ذا محَلٍّ أَقوى كان ذلك المَحلُّ في الحُكْم أَوْلى.

(1)

انظر: الاختيارات العلمية (5/ 445).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه وأمه، رقم (6732)، ومسلم: كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائض بأهلها، رقم (1615)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 71

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: فضيلة الهِجْرة؛ لقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} ؛ لأن المُهاجِرَ مُؤمِنٌ تَخْصيصهُ بالعَطْف يَدُلُّ على شَرَفه وفَضْله، كما في قوله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] الرُّوح هو جِبريلُ عليه السلام، وتَخصيصه بالعَطْف وهو من المَلائِكة دليل على شرَفه وتكريمه.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: ثُبُوت الإِرْثِ لِذَوِي الأَرْحام، وذَوُو الأرحام في اصطِلاح الفَرضيين: كُلُّ قَرِيب لَيْس بِذِي فَرْض ولا عَصَبة، والعُلَماء رحمهم الله قدِ اخْتَلفوا فيهم، فمِنهم مَن قال: إنهم لا يَرِثون.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: جواز الوَصية لمَن بيْنَك وبينَهُ مُوَالاة؛ لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا} وظاهِر الآية الإطلاق، لكنَّه مُقَيَّد بالنُّصوص الدالَّة على أنَّ الوصِية لا تَزيد على الثُّلُث، ومنه حديث سعد بنُ أبي وقَّاص رضي الله عنه حين عَاده النبيُّ عليه الصلاة والسلام مِن وجَعٍ كان به، فلما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم استَغَلَّ الفُرْصة، -أَعنِي: سَعْدًا- وقال: يا رسول اللَّه، إنِّي ذو مال ولا يَرِثُني إلَّا ابنةٌ لي -ومُرادُه: لا يَرِثُني من صُلْبي، وإلَّا فإنَّ له بَني عمٍّ وعصَبة- أَفَأَتَصدَّق بثُلُثَيْ مالي؟ قال:"لا" قال: فالشَّطْر؟ -يَعنِي: النِّصْف- قال: فالثُّلُث؟ قال: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كثِيرٌ"

(1)

.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الإحسَان من المعروف؛ لِقَوله تعالى: {مَعْرُوفًا} يَعنِي: إحسانًا بالوَصِية وعلى هذا فالمَعروف إذا قلت: مُرْ بالمَعروف يَشمَلُ الأمر بالإحسان، ولا شكَّ أن الإحسان مَعروفٌ عند اللَّه تعالى وعند الخَلْقِ.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: بلاغةُ القُرآن في الاحتِرازِ في مَوْضِع الإيهامِ؛ لأنه لما

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، رقم (2744)، ومسلم: كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، رقم (1628)، من حديث سعد بنُ أبي وقاص رضي الله عنه.

ص: 72

قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} قد يَتوَهَّم الإنسان أن مَن بينَه وبينَهم مُوَالاة لا يُمكِن أن يَنتَفِع بشيءٍ من ماله، فاحتَرَز عز وجل بقوله:{إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} ؛ ولهذا أمثِلة كثيرة مِثْل: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} [الحديد: 10].

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أن اللَّوح المَحفوظ قد كُتِبت فيه الأشياءُ مُستقِرَّة لقوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} وهو أَوْلويَّة ذَوِي الأرحام بعضِهم ببعْض، وقد اختَلَف أهل العِلْم رحمهم الله في الكُتُب التي بأَيْدي الملائِكة هل تُغَيَّر وتُبَدَّل بالزِّيادة والنَّقْص والتَّغيير؟

والصوابُ أن ذلك مُمْكِن، الصحُف التي بأَيْدي المَلائِكة، والدليل على ذلك قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، أَصْل الكِتاب عند اللَّه تعالى ليس فيه تَغيير ولا تَبديل، لكن الصُّحُف التي بأَيْدي الملائِكة يُمكِن أن يَقَعَ فيها التَّغيير والتَّبديل.

مثال ذلك: رجُل فعَل سَيِّئةً تُكتَب فإذا اسْتَغفر مُحِيَت أو إِنْسان فَعَل حسَنةً كصدَقة مثَلًا، ثُم مَنَّ بها إذا مَنَّ بها تُمْحَى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] وهذا ما قرَّره شيخُ الإسلام

(1)

وغيرُه من المُحقِّقين رحمهم الله مِن أن ما في أُمِّ الكِتاب ثابِت لا يَتغَيَّر؛ لأنه قد كُتِب فيه استِقرار الأشياء في الأزَل إلى الأَبَد، وأمَّا ما بأَيْدي الملائِكة فهُو الذي يُمكِن أن يَقَع فيه المَحوُ والإثبات.

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (14/ 492).

ص: 73

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: تَمامُ عِناية اللَّه عز وجل بشَرْعه وتَقدِيره؛ تُؤْخَذ من قوله تعالى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} يَعنِي: ليس الأَمْر أَمْرًا ارتِجاليًّا، بل كلُّه مَكتوبٌ محُكَمٌ عند اللَّه عز وجل لا الأمور الشَّرْعية ولا الأُمور القدَرية، وهذا من تَمام حِكْمته سبحانه وتعالى أنَّ كلَّ شيءٍ محُصَّنٌ عنده مُرتَّبٌ مُنظَّمٌ لا تَغييرَ فيه ولا تَبديلَ.

* * *

ص: 74