المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (66) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (66) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي

‌الآية (66)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66].

* * *

قال اللَّه تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} : {يَوْمَ} ظَرْف، والظَّرْف والجارُّ والمَجرور لا بُدَّ له من عامِل الذي يُسمَّى المُتعَلِّق؛ ويُحتَمَل أن العامِل قوله تعالى:{وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} ، ويُحتَمَل أنها {خَالِدِينَ} ، ويُحتَمَل أنها {يَجِدُونَ} ، فتكون تَنازَعت فيها العوامِل الثلاثة، ويُحتَمَل أن العامِل محَذوف أي: اذْكُرْ يومَ تُقلَّب وجوهُهم، وكلُّ هذا محُتَمَل، وكلُّ هذا هو الواقِعُ.

وقوله تعالى: {تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ} أي: تُصرَف من جِهة إلى جِهة كما يُقلَّب اللَّحْم على النار ليَنضَج، والعِياذ باللَّه.

وفي قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ} ولم يَقُل: يوم يُقلَّبُون؛ أن هذا الأمرَ يَقَع مِنهم على سَبيل الكُرْه -والعِياذُ باللَّه- وأنه ليس باختِيارهم، تُقلَّب وُجوهُهم في النار.

وقوله تعالى: {يَقُولُونَ} يُحتَمَل أنها حالٌ وهو الأَقرَب من الهاء في {وُجُوهُهُمْ} يَعنِي: تُقلَّب وهُمْ يَتَحسَّرون هذا التَّحسُّرَ {يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا} ، ويُحتَمَل أن تَكون استِئْنافية، أي: حِكاية اللَّه سبحانه وتعالى لهم عنهم ما يَقولون {يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} .

ص: 515

قال المُفَسِّر رحمه الله: [(يا) للتَّنبيهِ] وليسَتْ للنِّداء، لأن ياءَ النِّداء لا تَدخُل إلَّا على مَن يَصِحُّ نِداؤُه حَقيقةً أو حُكْمًا، و (لَيْتَ) لا يَصِحُّ نِداؤُها، لأنها حَرْف، لأن:(لَيْتَ) للتَّمنِّي.

يَقول المُفَسِّر رحمه الله: إنها [للتَّنبيه]، وقِيل: إنها نِداء لمُنادًى محَذوفٍ يُناسِب المَقامَ: {يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ} المُنادَى المَحذوف تَقديرُه: يا ربَّنا لَيْتَنا أَطَعْنا اللَّه تعالى وأَطَعْنا الرسول صلى الله عليه وسلم، فعَلى الأوَّل يَكون التَّنبيهُ هنا يُراد به زيادة التَّحسُّر، كأنهم يُنبِّهون أَنْفُسهم لهذا التَّمنِّي ألَّا يَتمَنَّوْه، وعلى الثاني يَكون المُنادَى مَحذوفًا للمُبادرة بذِكْر التَّمنِّي دون ذِكْر مَن وَجَّهوا الخِطاب إليه، وأيًّا كان فإنه يَدُلُّ على شِدَّة تَحسُّرهم.

وقوله تعالى: {يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} هذا تمَنِّي ما يَتَعذَّر حُصوله في ذلك الوقتِ، وهذا أشدُّ تَعذُّرًا من قول الشاعِر:

أَلا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا

فَأُخْبِرُهُ بِمَا فَعَلَ المَشِيبُ

(1)

وقوله تعالى: {يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} : {أَطَعْنَا} هي أَصْلًا بلا أَلِف فنَقول: أَطَعْن اللَّه وأَطَعْن الرسولَ، ولا تَقُلْ: إنه يَجِب أن أُشير إلى الأَلِف؛ لئَلَّا تَشتَبِه النون، وأما قوله تعالى:{وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 15]، فليس فيها شيء، تُحذَف الألف لالْتِقاء الساكِنَيْن.

فهنا أيضًا نَحذِف الألِف لالتِقاء الساكِنين، ولا نَقول: إن بحَذْفنا إيَّاها يَشتَبِه ضمير المُتكَلِّم بضمير النِّسوة، لأن السِّياق يَدُلُّ على المَعنَى، فالأَلِف مَوْجودة خطًّا، لكن لا يُنطَق بها لَفْظًا، وكذلك في قوله تعالى:{أَطَعْنَا اللَّهَ} مَوْجودة خطًّا، لكن في اللَّفْظ لا تُنطَق بها، وجمثلُه:{دَعَوَا اللَّهَ} [الأعراف: 189]، تُحذَف الأَلِف.

(1)

البيت لأبي العتاهية، انظر: ديوانه (ص: 46).

ص: 516

فقوله تعالى: {يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} : {الرَّسُولَا} بالأَلِف، والأَلِف هنا للإِطْلاق، وتَقدَّم في هذه السُّورةِ نَظيرُها:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10]، وسيَأتي بعدها أيضًا كلِمة أُخرى {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} ، فهذه ثَلاث كلِمات فيها ألِفٌ تُسمَّى ألفَ الإطلاق، وهي ثلاث ألِفات فيها ثلاث قِراءات: قِراءةٌ بإثْبات الألِف وَصْلًا ووَقْفًا، وقِراءةٌ بحَذْفها وَصْلًا ووَقْفًا، وقِراءةٌ بحَذْفها وَصْلًا وإبقائِها وَقْفًا.

ففي قوله تعالى: {يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا} ، يَجوز أن نَقرَأَها على الثلاث -وكلُّها سَبْعية- على النَّشْر:(يا لَيْتنا أَطَعْنا اللَّه وأَطَعْنا الرَّسولا)، (يا لَيْتنا أَطَعْنا اللَّه وأَطَعْنا الرَّسولا وقالوا)، هذه قِراءة، أي: أنَّنا أَثْبَتنا الألِف وَصْلًا ووَقْفًا.

والقِراءة الثانية: (يا لَيْتنا أَطَعْنا اللَّه وأَطَعْنا الرسولَ وقالوا)، (يا لَيْتَنا أَطَعْنا اللَّه وأَطَعْنا الرسولْ * وقالوا)، بحَذْف الألِف وَصْلًا ووَقْفًا.

القِراءة الثالِثة: (يا لَيْتنا أَطَعْنا اللَّه وأَطَعْنا الرسولَ * وقالوا)، (يا لَيْتنا أَطَعْنا اللَّه وأَطَعْنا الرسولَا وقالوا)، وهذه التي تُثْبِتها وَقْفًا لا وَصْلًا.

وقوله تعالى: {أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} : (الرسول) هنا اسمُ جِنْس، يَشمَل كلَّ رسولٍ أُرْسِل إلى هؤلاء، لأن أهل النار ليسوا مخُتَصِّين بأُمَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، بل بجَميع الأُمَم، فتقصِدون بالرَّسول الجِنْس، وباللَّه تعالى واحِدًا.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: شِدَّة عَذاب الكافِرين -والعِياذُ باللَّه- في النار، حيث إنه ذكَر التَّعذيب على الوجه الذي يَكون تعذيبه أعظَمَ إهانةً من بَقيَّة البدَن، ولأن الوجهَ

ص: 517

يُحِسُّ بالألَم أكثَرَ ممَّا يُحِسُّ غيره من الأعضاء الظاهِرة، ولأن الوجهَ هو شرَف الإنسان وظاهِرته، فإذا وقَع التَّعذيب عليه صار هذا أشَدَّ في الألَم النَّفْسيِّ؛ لقوله تعالى:{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن هذا التَّقليبَ بغير اختِيار منهم؛ لقوله تعالى: {تُقَلَّبُ} ، فهُمْ يُقلَّبون فيها -والعِياذُ باللَّه- كما تُقلَّب اللَّحْم على النار لشَيِّها.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: ظُهور التَّحسُّر من أُولئِك الكافِرين حين عذابهم؛ لقوله تعالى: {يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} ، ولكن هذا أَمْر فات أَوانُه.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سبَب للنَّجاة من النار؛ لأنهم لم يَتمَنَّوْا شيئًا سِوى طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم التي يَنجون بها من هذا العَذابِ.

* * *

ص: 518