المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (10) * قالَ اللَّه عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (10) * قالَ اللَّه عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ

‌الآية (10)

* قالَ اللَّه عز وجل: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب: 10].

* * *

قال اللَّه سبحانه وتعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [مِن أَعْلى الوادِي وأَسفَلِه من المَشرِق والمَغرِب]، جاؤُوا من المَشْرق ومن المَغرِب، فجاءت قُرَيْش من الناحية الشَّمالية الشرقية، وجاءت غَطَفانُ ويَهودُ بني قُرَيْظةَ من الناحية الجنوبية الغربية، فجاؤُوا من فوق المُسلِمين ومن أسفَلَ منهم.

وكما قُلْت قبلَ قليل: إن الخَنْدق من الحرَّة الشرقية إلى الحَرَّة الغربية، كل الشَّمال الآنَ محَفوظ بالخَنْدق، هم جاؤُوا من فَوْقهم ومن أَسفَلَ منهم؛ ليَكونوا كفَكَّي الأسَد حتَّى يُطبِقوا على المدينة، هذا تَخطيطهم، ولكن اللَّه تعالى بما يَعمَلون محُيط.

يَقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ} زاغَتِ الأبصار، زَاغ الشيء بمَعنَى: مال، ومنه: زاغَتِ الشمس إذا مالَت بالزوال، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، أي: ما مال، والأبصار (أل) هنا للعَهْد الذِّهنِيِّ، يَعنِي: زاغَتِ الأبصار منكم، يَقول المُفَسِّر رحمه الله في تَفسيرها:[مالت عن كُلِّ شَيءٍ إلى عدوها من كل جانِب] يَعنِي: أن الأبصار ما صار لها نظَر إلَّا هذا العدو، وكل شَيءٍ

ص: 100

غفَلَت عنه، النظَر إليه إلَّا هذا العدو، وقد فسَّرها بعض المُفسِّرين: زاغَتْ بمَعنَى: مالت عن استِقْرارها، أي: شَخَصت من قوَّة الرُّعْب.

صار الإنسان لا يَنظُر إلَّا إلى هذا الذي أمامه يُراقِبه ويَخشَى منه، وهذا شيء مُشاهَد في طبيعة البشَر أن الإنسان إذا خاف من شيء يَتَّجِه بصَرُه إلى أيِّ شَيْء إلى هذا الشيءِ إلى ناحيته، وتَجِد البصَر -كما يَقول العامَّة: - لا يُغضِي أَبَدًا، مُنفَتِح يَخشَى من مُباغَتَته، فالأَبْصار زاغَتْ {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} القُلوب، يَعنِي: منكم قُلوبكم بلَغَتِ الحناجِر جَمْع حَنْجرة، وهى مُنتَهى الحُلقوم.

وقوله رحمه الله: [مِن شِدَّة الخَوْف] تعليل لقَوْله عز وجل: {زَاغَتِ} وبلَغَت {الْحَنَاجِرَ} [جَمْع حَنْجرة، وهي مُنتَهى الحُلقوم] وهل حقيقةً بلَغَتِ القُلوب الحناجِر؟ قال بعضُهم: إنها حقيقة، وأنَّ الخائِف إذا اشتَدَّ خوفُه انتَفَخَت رِئَته فإذا انتَفَخَت ضَيَّقت على القَلْب وخرَج ارتَفَع؛ ولهذا يُقال في الجَبان أو في الخائِف: انتَفَخ سَحره. يَعنِي: رِئَته، والأصل حَمْل الشيء على حقيقته، ويَجوز أن يَكون هذا تصويرًا عن شِدَّة الرُّعْب، يَعنِي: حتَّى إنها من شِدَّة الرُّعْب زالتِ القُلوب عن أماكنها، فلا تَتَنفَّس طبيعيًّا، ولا تَنبُض طبيعيًّا؛ لأنها زالَت عن أماكنها.

ثُم قال: [{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} المُختَلِفةَ بالنَّصْر واليَأْس] هذا الاختِلافُ {وَتَظُنُّونَ} أي: أنتم باللَّه سبحانه وتعالى {الظُّنُوَناْ} الأَلِف للإِطْلاق، والظُّنون هذه جمع ظَنٍّ، والمَصدر لا يُجْمَع إلَّا إذا كان أنواعًا، أمَّا إذا كان نَوعًا واحِدًا لا يُمْكِن جَمعه وإن كثُرَ، أمَّا إذا كان أنواعًا صحَّ جَمْعه، فهنا جُمِعت (ظن) وهو مَصدر؛ لتَنوُّعه، يَعنِي: الظُّنون تَدور في أذهانهم أو في أفكارهم مخُتَلِفةً طولًا وعَرْضًا، يَعنِي: هل سيَزول هؤلاء الأحزابُ؟ هل سَيَقْضون علينا؟ هل سنَنْتَصِر؟

ص: 101

ومعروف في مَكان الخوف ماذا يَحدُث للإنسان من الظُّنون والتَّفكيرات القريبة والبَعيدة.

فمِنهم مَن أَيِسَ وقال: ما بَعْد هذا شيءٌ. ومنهم مَن ظَنَّ النَّصْر، مع أن المَقام حالِك جدًّا؛ لأنه يُؤمِن بأنَّ النَّصْر مع الصَّبْر، وأن الفرَج مع الكَرْب، وأن مع العُسْر يُسْرًا، ويقول: نَحن على حَقٍّ، فإِنْ كنَّا على حقٍّ وصَبَرْنا فإنَّ النَّصْر مَضمونٌ؛ فلذلك يَظُنُّ النَّصْر.

ومنهم أصحاب المادَّة أو الظواهِر الحِسِّيَّة، فيَظنون الهلاك ويَيَأْسون من النَّصْر؛ لأنه ليس لديهم رَصيدٌ من الإيمان يَعتَمِدون عليه، ولا شكَّ أن في الذين خرَجوا لهذا أن فيهم مُنَافِقينَ كما يُذكَر في القِصَّة.

المُهِمُّ: أنَّ اللَّه تعالى قال: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، وأَطلَق ذلك وأتَى به بالجَمْع؛ لأَجْل أن يَذهَب الإنسان في تَصوُّر هذا الظَّنِّ كلَّ مَذهَب، ظُنُون كثيرةٌ مُختَلِفة مُتضارِبة؛ ولهذا جاءَتِ الظُّنون بالجَمْع.

قوله تعالى: {الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ} وإن وقَفْتَ قُلتَ: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، والثالثة:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ} يَعنِي: وَصْلًا ووَقفًا، ومثل ذلك قوله عز وجل في سورة الأحزاب:{أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66]، {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67]، فيها هذه القِراءاتُ الثلاثة.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أنه يَنبَغِي لمَن ذُكِّر أن يُذكَر له وجهُ ما ذُكِّر به، الإجمال ليس كالتَّفْصيل. إذَنْ نَأخُذ من هذا فائِدة: أنه يَنبَغي للمُذكِّر أن يُفصِّل فيما ذكَّر به؛ ليَكون ذلك أبلغَ في تَذكُّر المُخاطَب.

ص: 102

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن الحالَ الَّتي وقَع في المسلمين حالٌ عظيمةٌ رهيبةٌ، وأنَّهم لا يَستَطيعون أن يَدفَعوا بأنفسهم، وبهذا يَتبَيَّن وجه نِعْمة اللَّه سبحانه وتعالى عليهم؛ لأن الأعداءَ مُحيطونَ بهم؛ ولأن أَبْصارهم زَاغَت وقُلُوبهم بَلَغتِ الحَناجِر، والأوهام والأفكار التي عِنْدهم قد تَكون دوَّخَتْهم من هنا ومن هناك؛ لقوله سبحانه وتعالى:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} .

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ المَخاوِف تُرْبِك الإنسان حتى في تَصوُّراته؛ لقوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، فإن الإنسانَ المُستَقِرَّ لا تَكون عنده ظُنونٌ مُتبايِنة مُتعارِضة؛ لأنه مُستَقِرٌّ، لكن عندما يَحصُل الفزَع، وعندما يَحصُل الخوف تَأتِي الظُّنون من كل وجهٍ.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن خَوف الإنسانِ الخوفَ الطَّبيعيَّ منَ المخلوقِ لا يُعَدُّ شِرْكًا، تُؤخَذ من قوله تعالى:{زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِر} ؛ لأن هذا من شِدَّة الخَوْف، وهو خوفٌ من مَخلوقٍ، لكن الباعِث عليه الأمرُ الطبيعيُّ، وإذا كان الأمر طَبيعيًّا فإنه لا يُؤخَذ به الإنسان؛ ولهذا وُصِفَ به أُولو العَزْم من الرُّسُل، قال اللَّه سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام:{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21]، ولمَّا كلَّفه اللَّه سبحانه وتعالى بالرِّسالة قال:{فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33]، فهذا خَوْف طبيعيٌّ لا يُلام عليه الإنسان،

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم على ما هُم علَيْه من المَرتَبة العالية قد تَعتَرِضهم الظُّنون بسبب الضِّيق؛ لقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} ، وهو يُخاطِب المُؤمِنين:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، فهُمْ لِشِدَّة ضِيق قد تَعتَريهم مثلُ هذه الوَساوِسِ، لكنها في الحقيقة سَحابة صَيْف عندما يَرجع الإنسان إلى وَعْد اللَّه عز وجل يَزول عنه هذا كلُّه ويَتبَدَّد؛ ولهذا سيَأتينا في سياق الآيات قوله عز وجل:

ص: 103

{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب: 22] سُبحانَ اللَّهِ! يَرَوْن هذه الأحزابَ العَظيمةَ، ثُم يُطَمْئِنون أنفسهم بأن هذا ما وعَد اللَّه ورسولُه، وصَدَق اللَّهُ ورسولُه؛ لأن النَصْر مع الصَّبْر، والفرَج مع الكَرْب، فهُمْ لمَّا رأَوْا هذه الأحزابَ العَظيمة، وما يَتَرتَّب عليها على وُجودهم من الشِّدَّة والضِّيق عرَفوا أن النَّصْر قريب، فإن اللَّه سبحانه وتعالى قال:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] فانظُرْ إلى نَصْر اللَّه تعالى فإنه قريب في مثل هذه الحالِ، قال تعالى:{مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} فإذا طبَّقتَ هذه على حالِ المُؤمِنين في وقت الأحزاب وجَدْتَ أنها تَنطَبِق؛ ثُم قال تعالى في آخِر الآية: {إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} إِذَنْ: صَدَق عليهم أن هذا ما وعَدَ اللَّه ورسوله، وصَدَق اللَّه ورسوله بقُرْب النَّصْر.

والحاصِلُ: أن مِثلَ هذه الأمورِ التي تَأتِي عارِضة لا تُؤثِّر على مَرتَبةِ الإنسان وعلى حاله؛ لأنها تَزولُ.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن الإنسان إذا غَلَبته الحالُ حتى ورَدَتْ عليه مثلُ هذه الظُّنونِ، فإنه لا يَحُطُّ من مَرتَبَته، لكن -كما قُلْت قبلَ قليل- إذا استَقَرَّتْ به الحال، وهدَأَت هذه الظُّنونُ عرَف الحَقَّ.

* * *

ص: 104