المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (57) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (57) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ

‌الآية (57)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب: 57].

* * *

ثُمَّ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهُمُ الكُفَّار يَصِفون اللَّه تعالى بما هو مُنزَّهٌ عنه من الولَد والشَّريك، ويُكذِّبون رسولَه]، هذا من الإِيذاء {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ} جُمْلة خبَرية مُؤكَّدة بـ (إِنَّ)، وخبَر (إِنَّ) قولُه تعالى:{لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} .

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} يُؤذون اللَّه تعالى بوَصْفه بالعُيوب التي لا تَليق به، مثل قول بعضهم عن اللَّه تعالى: فَقير. ومِثْل: سَبِّ الدَّهْر؛ واللَّه تعالى يَقول: "يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ؛ يَسُبُّ الدَّهْرَ"

(1)

، ومِثْل أن يَقولوا: إن اللَّه تعالى اتَّخَذ صاحِبة أو ولَدًا، أو إن اللَّه تَعالى لمَّا خلَق السَّمواتِ والأرضَ تَعِب واستَراح يومَ السَّبْت. وما أَشبَه ذلك، فإيذاء اللَّه تعالى يَكون بأن يُوصَف بما لا يَليق به.

ومنه إِنْكار أسمائه وصِفاته؛ لأن هذا -لا شَكَّ- سَلْب للكمال عنه فيَتضَمَّن

(1)

أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} ، رقم (4826)، ومسلم: كتاب الأدب، باب النهي عن سب الدهر، رقم (2246)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 473

النَّقْص؛ لأن الكَمال والنَّقْص مُتضادَّان، فما من شيء إلَّا مَوصوف بالكَمال أو بالنَّقْص، فإذا سُلِبَت عنه صِفات الكَمال لزِمَ ذلك اتِّصافه بالنَّقْص وهو نَوْع من الإيذاء.

وأَمَّا إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيَكون بالقَوْل وبالفِعْل؛ فبالقول: أن يُوصَف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ساحِر أو شاعِر أو كاهِن أو مجَنون، والغريب أن الساحِر والمَجنون، وُصِف به جميع الأَنبياء عليهم السلام، فكُلُّ الأنبياء السابِقين المُرسَلين إلى قَوْمهم وُصِفوا بهذا، قال سبحانه وتعالى:{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52]، فهذه الأَوْصافُ -لا شَكَّ- أنها تُؤذِي الرسول عليه الصلاة والسلام، وتُؤذِي كلَّ وَليٍّ للَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوصَف النبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذه الأَوْصافِ الكاذِبة.

وكذلك إيذاء الرسول بالفِعْل ما صنَعت قُريشٌ به صلى الله عليه وسلم حين أَتَوْا بسَلى الناقة وهو ساجِد في المسجد الحرام أمام بيت اللَّه عز وجل، فوَضَعوا سَلى الناقة على ظَهْره وهو ساجِد

(1)

، وأيُّ أذيَّة أَبلَغُ من هذا؟ ! رجُل لم يَتَعرَّض لهم فإنما يَعبُد اللَّه عز وجل في آمَنِ مَكانٍ على وجهِ الأرض؛ أمام بيت اللَّه سبحانه وتعالى! وأَقرَبُ ما يَكون من ربه! ثُمَّ يَأتي هؤلاءِ الظلَمةُ المُعتَدون فيَضَعون عليه هذه القاذُوراتِ؛ أَعتَقِد أن هذا من أَبلَغِ ما يَكون من الأذِيَّة حتى جاءتِ ابنَتُه الطِّفلة الصغيرة فأَزالَتْه عنه.

وكذلك من الأذية ما ذكَروا أنهم كانوا يُلقون الأَنْتانَ والقاذوراتِ على عَتَبة بابه صلى الله عليه وسلم في مَكَّة حتى إنه كان يَخرُج ويَقول: "أيُّ جِوَارٍ هَذَا؟ ! "

(2)

يَعنِي: لو كنت

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذرًا أو جيفة، رقم (240)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين، رقم (1794)، من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 201)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وانظر سيرة ابن هشام (1/ 416).

ص: 474

جارًا لكم ولَسْت مِنْكم لم تَفعَلوا بي هذا الفِعْلَ! فهؤلاء الذين يُؤذون اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لعَنَهم اللَّه تعالى في الدنيا والآخِرة -والعِياذُ باللَّه- يَعنِي: أَبعَدَهم اللَّه عن رحمته في الدُّنيا وفي الآخِرة؛ لأن اللَّعْن بمَعنَى: الطَّرْد والإبعاد عن رحمة اللَّه.

وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} ولم يَقُلْ: (آذَوْا اللَّه)؛ لأنهم مُستَمِرُّون في الأذية، وما داموا مُستَمِرِّين في الأذية فإن لهم اللَّعْن في الدنيا والآخِرة، أمَّا إذا منَّ اللَّه تعالى عليهم بالهِداية ورجَعوا إلى اللَّه تعالى وتابوا من شِرْكهم؛ فإن اللَّعْنة تَرتَفِع عنهم؛ لأن الحُكْم يَدور مع عِلَّتِه.

قوله رحمه الله: [{لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَبعَدَهم {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}]، {وَأَعَدَّ} بمَعنَى: هيَّأ، والعَذاب بمَعنَى: العُقوبة و {مُهِينًا} قال المُفَسِّر رحمه الله: [ذا إِهانةٍ وهو النار] عذاب النار -والعِياذُ باللَّه- إهانة بدَنية وإهانة نَفْسية؛ ولهذا يُقال لأصحاب النار: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان: 47]، {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} أي: ادْفَعوه بشِدَّة وعُنْف إلى سواء الجَحيم، يَعنِي: قَعْرها وأَصْلها، {ثُمَّ صُبُّوا} من {فَوْقَ رَأْسِهِ} الرَّأس الذي لم يَكُن يَنحَنِي لأَحَد ولا للَّه تعالى، {صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} الحَميم الماء الشديد الحَرارة؛ ثُمَّ يُقال له بعد الإِهانة بالفِعْل يُقال له:{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، هذا تَهَكُّم به، يَعنِي: إنك كنتَ في نَفْسك عزيزًا كريمًا؛ لكنك الآنَ ذَليل مَهين خِلاف المَجْد والكرَم، فهذا هو العَذاب الأليم الذي أُعِدَّ للكافِرين -عسَى اللَّه تعالى أن يُسلِّمَنا وإيَّاكم منه- فصارت عُقوبة هَؤلاء المُؤذِين للَّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم أَمْرين عَظيمين، أحَدُهما اللَّعْن وهو الطَّرْد والإِبْعاد من رحمة اللَّه تعالى، والثاني العَذاب المُهين الذي يُوقِعهم في الهَوان والذُّلِّ، المُؤمِنون والمُؤمِنات.

ص: 475

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أن أذِيَّة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من كَبائِر الذُّنوب، وجهُ ذلك أن اللَّه تعالى تَوعَّد عليها باللَّعْن والعَذاب، وكلُّ شيء تَوعَّد اللَّه تعالى علَّيْه باللَّعْن أو العَذاب فإنه من كبائر الذُّنوب.

وقدِ اختَلَف العُلَماء رحمهم الله في الكبائِر هل تُعَدُّ أو تُحَدُّ، فمِنهم مَن عدَّها عَدًّا، ومِنهم مَن حدَّها حَدًّا، وقالوا: إن الكبيرة كل ما رُتِّب عليه عُقوبة خاصَّة فهو كبيرة، وهذا حدٌّ لشَيْخ الإسلام ابنِ تَيميَّةَ

(1)

رحمه الله: كلُّ ذَنْب رُتِّب عليه عُقوبة خاصَّة دُنيوية أو أُخروية؛ فإنه من كبائر الذُّنوب، سواء كان لَعْنة أو غضَبًا أو نَفيَ إيمان أو تَبرُّؤًا منه أو عَذابًا، وما أَشبَه ذلك، فكلُّ شيء له عُقوبة خاصَّة فهو من كبائِر الذُّنوب.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وَصْف اللَّه سبحانه وتعالى بأنه يَتَأذَّى؛ لقوله تعالى: {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بَيان كَمال اللَّه عز وجل؛ لأنه إذا كان يَتأذَّى من الأَشياء المُنكَرة التي لا تَليق به دلَّ ذلك على كَماله؛ ولهذا عِند الناس من العَيْب أن الإنسان لا يَتَأذَّى بما يُوصَف به من عَيْب؛ ولهذا يُسمُّون مِثْل هذا الرَّجُل يُسمُّونه (الحِمار)؛ لبَلادته وعدَم أَهمِّيته، فهو لا يُفرِّق بين مَن يَمدَحه ومَن يَقدَح فيه؛ كلُّه سَواءٌ عنده، لكن الإنسان الذي يَتأذَّى للعَيْب هذا الذي له شُعور وعاطِفة، ثُمَّ إذا صبَر واحتَسَب واستَعمَل الحِكْمة في ذلك كان خيرًا.

(1)

مجموع الفتاوى (11/ 650).

ص: 476

المُهِمُّ: أن الأذِيَّة ممَّا ليس بمَحمود تُعتَبَر كمالًا.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن أذِيَّة الرسول صلى الله عليه وسلم كأَذِيَّة اللَّه لأن اللَّه جمَع بينهما بالواو {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فكما أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كطاعة اللَّه تعالى، ومَعصية الرسول صلى الله عليه وسلم كمَعصية اللَّه تعالى، فأَذِيَّة الرسول صلى الله عليه وسلم كأذِيَّة اللَّه تعالى، يَعنِي: من حيث التَّحريم، وأنها من الكبائِر، وإلَّا فإن أذِيَّة اللَّه تعالى أَعظَمُ من حيث الجِهة التي نُسِب إليها الذمُّ والعَيْب.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثبات اللَّعْنة، أي: لَعْنة اللَّه تعالى وهي طَرْده وإبعاده، وهي من الصِّفات الفِعْلية؛ لأن كل صِفة للَّه تعالى مُعلَّقة بسبَب فهي من الصِّفات الفِعْلية؛ لأن هذا السبَب يَتجَدَّد فتكون الصِّفة بعد وُجوده.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: العَذاب المُهين كُلُّنا يَعرِف أنه في النار؛ لأنها هي التي عَذابها مُهين.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن الجَزاء من جِنْس العمَل، فكما تَعالَى هَؤلاءِ وتَعاظَموا وأَهانوا الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأذِيَّته عاقَبَهم اللَّه تعالى بما يُهينهم ويُذِلِّهم من العَذاب.

* * *

ص: 477