الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (12)
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
* * *
يَقول رحمه الله: [{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ضَعْف اعتِقاد {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} بالنَّصْر {إِلَّا غُرُورًا}] أَعوذُ باللَّهِ تعالى، كيف يَنطِق البشَر بمِثْل هذا الكلامِ؟ ! لكن -والعِياذُ باللَّهِ- ما دامَت قُلُوبهم مُنطَوِيةً على الكُفْر أو الشَّكِّ؛ لأن الذين في قُلوبهم مرَضٌ عندهم شَكٌّ ضَعْفُ اعتِقاد، والمُنافِقون عندهم كُفْر قالوا:{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} ، سُبحان اللَّه العَظيمِ! اللَّهُ ورسولُه يَعِدكم غُرورًا ويَكذِب عليكم ويَخدَعُكم، هذا لا يُمكِن، بل ما وعَدَ اللَّهُ ورسولُه إلَّا حَقًّا، ولكن لا يُمكِن أن تَجْنِيَ العَسَل إلَّا بعد ذَوْق شَوْك النَّحْل، لا بُدَّ من تعَب، ولا بُدَّ من مُثابَرةٍ؛ لأنه لولا هذا ما عُرِف الصادِقُ من الكاذِب ولا عُرِف المُؤمِن من الكافِر، فلا بُدَّ من الابتِلاء.
وبالمُناسَبة فطلَبةُ العِلْم قد يُوَاجِهون بعضَ المَصاعِبِ في الدَّعوة إلى اللَّه عز وجل قد يُواجِهون ذلك حتى في أَنفُسهم، ولكن عليهم أن يَصبِروا، وأن يَتحَمَّلوا في الدَّعوة إلى اللَّه عز وجل؛ لأنهم ليس يَدْعون إلى سَبيل فُلان وفُلان من سُبُل الطاغوت، لكن يَدْعون إلى سبيل اللَّه تعالى التي تُوصِلهم وتُوصِل عِباد اللَّه تعالى إلى اللَّه عز وجل،
فعَلَيْهم أن يَصبِروا، ليس بمُجرَّد أن يُقال لهم: أنت مطوّع، أنت مُتَشدِّد، أنت فيك كذا وكذا. يَنحَسِر ويَدَع، هذا ليس بصحيح، لا بُدَّ أن يَصبِر ويُصابِر ويَعمَل بالحِكْمة، وليس بالعُنْف، ولكل شيء من الحالات مَنزِلته.
والحاصِلُ: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وعَدَ أصحابه بالنَّصْر، فآمَن بذلك المُؤمِنون، وتَكلَّم المُنافِقون والذين في قُلوبهم مَرَض بهذا الكلامِ، {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} وكذَبوا، واللَّهِ ما وعَدَهم اللَّهُ ورسولُه إلَّا الحقَّ والصِّدْق.
وقد حصَل -والحَمْد للَّه تعالى- فإن هذه الأُمَّة -وللَّه الحَمدُ- بما خلَّفه لها رسولُه صلى الله عليه وسلم من العِلْم والهُدَى وبما قام به خُلَفاؤه رضي الله عنهم فتَحوا قُصور قَيْصرَ وكِسرى واليَمَن، وأُنفِقت كُنوزُ كِسرى وقَيْصرَ في سبيل اللَّه سبحانه وتعالى، وجِيء بتاج كِسرى من المدائن إلى المدينة في خِلافة عُمرَ رضي الله عنه
(1)
فتَحقَّق ما وعَد اللَّهُ ورسولُه، وإن كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام تُوُفِّيَ قبل أن يَحصُل ذلك، لكنه في الحقيقة هو الذي فتَح هذا؛ لأن الصحابة ما فتَحوها إلَّا بشريعة اللَّه سبحانه وتعالى، فصار ذلك نَصرًا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن النَّصْر -كما نَقول كثيرًا- ليس انتِصار الإنسان بشَخْصه، بلِ انتِصاره بما جاء به ودعا إليه، ولو كان على أَيْدي أَتْباعه، ولو كان ذلك من بعد موته، واللَّه أَعلَمُ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: بَيانُ أن المُنافِقين يَنْتهِزون الفُرَص، ووجهُه أنهم في هذه الفُرصةِ وهذه الحالِ الضَّيِّقة الحالِكة، بدَؤُوا نشاطَهم وانتَهَزوا الفُرصةَ وقالوا: أين الوعدُ؟
(1)
انظر: البداية والنهاية (10/ 18).
ففيه دليل على أن المُنافِق على اسمه مُنافِق، إن لم يَجِد فُرْصةً سكَت وصانَع وداهَن، وإن وجَد فُرْصةً نطَق وتَكلَّم، وهذا دأَبُهم، قال تعالى:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14].
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: الحذَرُ من المُنافِقينَ؛ لأنهم لا يَألون المُؤمِنين خَبالًا، كلَّما وجَدوا مَطعَنًا أو مَكانًا للطَّعْن هجَموا، نَسأَل اللَّه تعالى أن يُعيذَنا منهم.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن القُلوب تَنقَسِم إلى صحيحةٍ ومَريضةٍ؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ، وكذلك الأبدانُ تَنقَسِم إلى مَريضةٍ وصَحيحةٍ، وانظُرْ حال الناس اليومَ، هل هُمْ أشَدُّ على مُداواة القُلوب من مُداواة الأبدانِ أو على مُداواة الأبدان من مُداواة القُلوب؟
الجَوابُ: الأخير، إلَّا ما شاء اللَّه سبحانه وتعالى، فأكثَرُ الناس اليومَ حَريصون على مُداواة الأبدان التي مَآلها أن تَكون جيفةً يَأكُلها الدودُ، دون القلوب التي عليها مَدار السَّعادة في الدُّنيا والآخِرة، فتَجِد الإنسان يَمْرَض قلبُه، ورُبَّما يَصِل إلى درجة الاحتِضار، ولكنه لا يُبالي به، فإذا أُصِيب بشَوْكة في بدَنه هُرع إلى الأطبَّاء، ولو حصَل في ذلك مَشقَّةٌ وتدَب، ولكن العاقِل المُؤمِن هو الذي يَكون دائِمًا في نظَير إلى قَلْبه ومرَضه وصِحَّته وسلامته وعطَبِه، هذا هو المُؤمِن حَقًّا، ولا شكَّ أن القَلْب إذا صحَّ صحَّ البدَن، ولستُ أقولُ: صحَّ البدَن. يَعنِي: أن المُؤمِن لا يَمْرض، لكنَّ المُؤمِن لو مرِض يَرى أن في هذا المرَضِ مَنفَعةً له ومَصلَحةً، وبهذا يَكون مرَضُ بدَنه صِحَّةً لقَلْبه؛ لما يَحصُل عنده من الصَّبْر، والرِّضا باللَّه سبحانه وتعالى، وانتِظار الفَرَج، وفِعْل الأسباب التي جعَلها اللَّه أسبابًا، فيَعتَمِد على اللَّه سبحانه وتعالى بما جعَله سببًا.
فالحاصِل: أن مَرَض القَلْب أخطَرُ من مرَضِ البدَن بكثيرِ، والعاقل يَعتَني بهذا عِنايةً أشدَّ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن اللَّه تعالى ورسوله قد وعَد المُؤمِنين بالنَّصْر؛ لقوله تعالى: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ، والوَعْد مَذكور في القُرآن والسُّنَّة للمُؤمِنين، قال اللَّه تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال سبحانه وتعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، انظُرِ الوَعْد العظيم {حَقًّا عَلَيْنَا} مُؤكَّدًا {نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، والمُلتَزِم بهذا هو الرَّبُّ عز وجل الذي بيده مَلكوت السَّمَوات والأرض، لكن مع الأسف الشديد كثيرٌ من المُؤمِنين لا يَلحَظون هذه الأشياءَ، مع أن اللَّه سبحانه وتعالى تَكفَّل بها، وفي السُّنَّة قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:"نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"
(1)
، ونَصْر النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليس نَصْرًا لذاته، ولكنه نَصرٌ لما جاء به، فيَكون النَّصْر له ولأُمَّته من بعده أيضًا.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: بَيانُ أن المُنافِق نظر قاصِرٌ، وكذلك مَن في قَلْبه مرَضٌ نظَرهُ قاصِرٌ؛ وجهه أنه ما نظَروا إلَّا في الساعة الحاضِرة، ما فكَّروا في العاقِبة، ومثل هذه الأُمورِ التي تَرِد أمورٌ عوارضُ، لكن العاقِبة للمُتَّقين، فالأمور العَوارِضُ لا يَبنِي عليها أحَد إلَّا ضعيف البصيرة، حتى في أمور الدُّنيا أيضًا لا تَنظُر إلى الأمور العارِضة، فإنه كما قيل: دوام الحال من المُحال، ولكن ما دُمْت واثِقًا بوَعْد اللَّه عز وجل فَثِق أنَّ هذا الوَعْدَ سوف يَتحَقَّق، لكن تَعتَريه عوارِضُ، لحِكْمة من حِكَم اللَّه عز وجل يَبتَليه، ثُمَّ تَكون العاقِبة للمُتَّقين.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب التيمم، رقم (335)، أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، رقم (521)، من حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما.