الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (29)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 29].
* * *
قوله رحمه الله: [{وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: الجنَّة؛ {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ} بإرادة الآخرة {أَجْرًا عَظِيمًا} أي: الجَنَّة].
وإنما بدَأ بالدُّنيا {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ؛ لأنهن كُنَّ يُطالِبن بالنَّفقة، وهي ممَّا يَتعَلَّق بالدُّنيا.
قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} ، وهذه هي الحال الثانية لهُنَّ؛ فإنَّ اللَّه تعالى أعَدَّ للمُحسِنات مِنكُن، ولم يَقُل: لَكُنَّ. بل قال: {لِلْمُحْسِنَاتِ} فأَظهَر في مَوضِع الإِضمار ليَتبَيَّن أنَّ هذه الإرادة إحسان، وأنَّهنُّ إذا أَرَدْن اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخِرة؛ فإنَّ ذلك من الإحسان، وأنَّ اللَّه تعالى أَعدَّ للمُحسِنات مِنهن أجرًا عظيمًا.
و(من) هنا ليست للتَّبعيض، ولكنَّها للبَيان، فتَشمَل ما لو أَرَدْن كلهن اللَّه سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام والدار الآخِرة، فإن اللَّه تعالى يُعِدُّ لهن جميعًا أجرًا عظيمًا.
فبَدَأ عليه الصلاة والسلام أوَّلَ ما بدَأ بأَحَبِّ نِسائه إليه، وهي عائِشةُ رضي الله عنها وقال
لها: "لَا عَلَيْكَ ألَا تَسْتَعْجِلي، فتَستَأْمِري أبويك"
(1)
، خاف أنها شابَّة صغيرة أنها تَتَعجَّل وتَقول: أُريد الدُّنيا، فطلَب منها ألَّا تَتَعجَّل حتى تَستَأمِر أبوَيْها، يَعنِي: تَستَأْذِنهما، ومعلومٌ أنَّ أبوَيْها لا يُريدان لها أن تَختار الدنيا وزِينتها على اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخِرة، ولكنَّها رضي الله عنها كان لها على صِغَر سِنِّها نَظْرة بعيدة، فقالت: يا رسولَ اللَّه، أفِي هذا أَستَأْمِر أبويَّ! يَعنِي: هذا أُشاوِر فيه أَبويَّ؟ ! لا، إنما أُريد اللَّه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام والدارَ الآخِرة، ولكن لا تُخبِر نِساءَك بما قلت، قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام:"إِنَّما بُعِثْتُ مُيَسِّرًا لَا مُتَعَنِّتًا وَمُعَنِّتًا، وَأَيُّ امْرَأَةٍ تَسْأَلُني فسَأخْبِرُهَا"
(2)
، لكن كل نِسائه ما سألن، كل امرأة تَقول: إنها تُريد اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخِرة، فصِرْن على الحال الكامِلة رضي الله عنهن، على ما كان عليه الرَّسول عليه الصلاة والسلام مِن شَغَف العَيْش، وقِلَّة ذات اليَدِ، ومع هذا وفَّقَهن اللَّه تعالى ومَنَّ عليهن، وهذا بلا شَكٍّ من عِناية اللَّه تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، أن يَختار له مثل هؤلاءِ النِّساءِ فكان جَزاؤُهن أنَّ اللَّه تعالى قال له:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52].
فهؤلاءِ النِّسوةُ اللاتي اختَرْن اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدارَ الآخِرة، بعد أن خُيِّرن كان لهُنَّ -مع ما في ثواب الآخِرة- هذا الجزاءُ الدُّنيويُّ، أنَّ الرسول مُنِع مِن أن يَتزَوَّج بعد ذلك بواحدةٍ من النِّساء أو يُبدِّل واحِدةً بامرأة جديدة، {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} ، رقم (4785)، ومسلم: كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، رقم (1475)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه بنحوه مسلم: كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية، رقم (1475/ 35).
بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا}، واللَّهُ تعالى أَعلَمُ.
وقوله رحمه الله: [{بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} بفَتْح الياء وكَسْرها] مُبَيِّنَة مُبَيَّنة [أي: بُيِّنت أو هي بَيِّنة، {يُضَاعَفْ} وفي قِراءة بالتَّضعيف: "يُضَعَّف" بالتَّشديد، وفي أُخرى "نُضَعِّف" بالنون معه مع التَّشديد ونَصْب العَذاب]"نُضَعِّفْ لها العَذَابَ" ففيها إِذَن ثلاثُ قِراءات: يُضَاعَفْ، ويُضَعَّفْ، ونُضَعِّفْ، فعلى القِراءَتَين الأَولَيَيْن يَكون العذاب بالرَّفع يُضَاعَف أو يُضَعَّف العَذاب بالرفع نائِب فاعِل، وعلى القِراءة الثالثة:"نُضَعِّفْ" يَكون العَذاب بالنَّصْب على أنه مَفعول به، ثُمَّ قال رحمه الله:[{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ضِعْفَي عذاب غيرِهن، أَيْ: مِثْليه، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}].
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ إرادة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخِرة من الإحسان؛ لقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن النِّيَّة لها أثَر عظيم في زيادة الثَّواب، لأَنَّه رَتَّبَ هذا الثَّوابَ على هذه الإرادةِ والنِّيَّة الطَّيِّبة.
* * *