الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (62)
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62].
* * *
قوله تعالى: {سُنَّةَ} السُّنَّة بمَعنَى: الطَّريقة، وسُنَّة اللَّه عز وجل نَوْعان سُنَّة كونية وسُنَّة شَرْعية:
أمَّا السُّنَّة الشَّرْعية فإنها تَكون بحَسَب مَصالِح العِباد وتَختَلِف باختِلاف الأُمَم كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وإن كانت هذه الشَّرائِعُ كلُّها تَتَّفِق في أصول التَّوْحيد فيما يَتَعلَّق بآيات اللَّه تعالى وأَسْمائه وصِفاته، وكذلك في القَواعِد العامة في الشَّريعة، وقد أَشار اللَّه تعالى إليها في قوله:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] هذه الفَواحِشَ: ما ظهَرَ منها وما بطَنَ والإِثْمَ والبَغيَ بغير الحَقِّ، وأن تُشرِكوا باللَّه ما لم يُنزِّل به سُلْطانًا، وأن تَقولوا على اللَّه تعالى ما لا تَعلَمون.
وهذه الأُصولُ الخَمْسُ ذكَرَ أهلُ العِلْم رحمهم الله أن جميع الشَّرائِع مُتَّفِقة عليها، لكن من الشَّرائِع التي تَختَلِف مَصالحِها باختِلاف الزَّمان والمَكان والأُمَم، وهذه -أي: السُّنَّة الشَّرْعية- لا بُدَّ أن تَختَلِف أَحكامها بحسَب ما تَقتَضيه حِكْمة اللَّه تعالى.
أمَّا السُّنَّة الكَوْنية فهي ما يُجرِيه اللَّه تبارك وتعالى قدَرًا من العُقوبات وغيرها، وهذه السُّنَة لا تَتَبدَّل ولا تَتَغيَّر، وإن كان اللَّه عز وجل قد يُضاعِف العُقوبة على بعض الناس دون بعض كما سبَق لنا في نِساء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]، وقد يَجْزِي اللَّه تعالى بعض العامِلين على العمَل أَكثَرَ من البَعْض الآخَر، كما في هذه الأُمَّةِ، فإنها أُعطِيَت كِفْلَيْن من الأَجْر على مَن سبَقَها من الأُمَم، وكما في أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ"
(1)
.
لكن في العُقوبات يَقول اللَّه تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ} يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [أي: سَنَّ اللَّهُ ذلك]، وأَفادَنا المُفَسِّر رحمه الله في هذا التَّقديرِ أن {سُنَّةَ} مَنصوب على المَصدَر المَحذوف عامِلُه أي: سَنَنَّا بهم سُنَّة اللَّه، أي: سَنَنَّا بهؤلاءِ المُنافِقين والذين في قُلوبهم مرَض والمُرجِفين في المدينة سَنَنَّا بهم سُنَّة اللَّه تعالى فيمَن سَبَق، فإن كلَّ مَن نابَذ عِباد اللَّه تعالى وأَوْلياءَه سلَّط اللَّه عليهم.
وقوله تبارك وتعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} و {خَلَوْا} بمَعنَى: مضَوْا، ولهذا قال المُفَسِّر رحمه الله:[مِن الأُمَم الماضِية في مُنافِقيهم المُرجِفين المُؤمِنين]{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} مِنه ولا من غَيْره، هذا في السُّنَن الكَوْنية.
أمَّا الشَّرْعية فيَمحو اللَّه تعالى ما يَشاء ويُثبِت، وربما تُبدَّل، لكن سُنَّة اللَّه تعالى
(1)
أخرجه البخاري: كتاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كنت متخذًا خليلًا"، رقم (3673)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم رقم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
الكَوْنية لن تَجِد لها تَبديلًا، لا منه ولا من غيره في إِنْزال العُقوبة بمَن يَستَحِقُها، وإن كانت هذه العُقوبةُ قد تَختَلِف، لكن لا بُدَّ للمُخالِفين من عُقوبة، واللَّه تعالى أَعلَمُ.
* * *