الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (37)
* * *
قوله تعالى: {وَإِذْ} يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [إنه مَنصوب باذْكُرْ] و (اذْكُرْ) مَحذوف، أي: اذكُرْ يا محُمَّدُ إذ تَقول للذي أَنعَم اللَّه تعالى عليه. . . إلى آخره، اذْكُرْ هذا القَوْلَ حتى تَكون مُستَعِدًّا لمِا يُلقَى إليك من المَوعِظة؛ لأنَّ اللَّه تعالى وعَظَه في هذه الآيةِ مَوْعِظة عظيمة، حتى قالت عائِشةُ رضي الله عنها:"لَوْ كان محُمَّدٌ كاتِمًا ما أُنزِل إليه لكَتَمَ هذه الآيةَ"
(1)
.
وقوله رحمه الله: [{لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالإِعْتاق] بيَّن اللَّه عز وجل أنَّ هذا الرجُلَ الذي أَبهَم اسمَهُ هنا، ثُم أَوضَحَه فيما بعد أنَّ عليه نِعمَتَيْن؛ النِّعْمة الأُولى: للَّه تعالى، والثانية: للرسول عليه الصلاة والسلام، وهنا قال تعالى:{لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ} ، فأتَى بالواو الدالَّة على الاشتِراك، مع أن هذا ليس من باب التَّشريكِ، حتى نَقول: إنه يَجوز إشراك اللَّه تعالى مع الرسول عليه الصلاة والسلام،
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قول اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، رقم (177/ 288).
بل هو من بابِ النِّعْمة والعَطاء والفَضْل، فكيف جَمَع بين إِنْعام الرسول صلى الله عليه وسلم وإنعام اللَّه تعالى بالواو الدالَّة على التَّشريك؟
فالجَوابُ أن نَقول: جمَع بينهما بالواو الدالَّة على التَّشرِيك، لأنَّ النِّعْمَتَيْن مخُتَلِفَتان، فالنِّعمة الأُولى من اللَّه تعالى بالإسلام، والثانية: النِّعْمة من الرسول صلى الله عليه وسلم بالعِتْق، فلمَّا اختَلَفَتِ النِّعْمتان صارتِ الواو لا تَدُلُّ على الاشتِراك، لامتِناع الاشتِراك بين شَيْئَيْن مخُتَلِفَين.
قال رحمه الله: [{وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالإعتاق وهو زيدُ بنُ حارِثةَ كان مِن سَبْي الجاهِلية اشتَراه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وأَعتَقَه وتَبنَّاه، المَشهور أنَّ زيدَ بنَ حارثةَ رضي الله عنه كان مَملوكًا لجديجةَ رضي الله عنها، فوهَبَتْه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، هذا هو المَعروف في السِّيَر
(1)
، وأيًّا كان فإنَّ زيدَ بنَ حارِثةَ رضي الله عنه كان مَملوكًا للرسول صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَعتَقَه وتَبنَّاه أيضًا، فرَفَع مَعنَويَّاتِه بكونه أَضافَه إليه ابنًا له، وكان يُدعَى زَيدَ بنَ محُمَّدٍ
(2)
، حتى أَبطَل اللَّه تعالى ذلك في قوله:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وبقوله سبحانه وتعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4].
وقوله رحمه الله: [{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} في أَمْر طلاقِها: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ} هُنا عَدَّى {أَمْسِكْ} بـ (عَلَى)، لأنَّها بمَعنى: اضمُمْ عليك زوجَك، يَعنِي: اجعَلْها مُنضمَّة عليك ولا تُفارِقْها.
(1)
انظر: الاستيعاب (2/ 543)، والإصابة (2/ 495).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ، رقم (4782)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد رضي الله عنهما، رقم (2425)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله تعالى: {زَوْجَكَ} المُراد بها: زينبُ بنتُ جَحْشٍ رضي الله عنها، وكان زَيدٌ رضي الله عنه قد تَزوَّجها بمَشورة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاء يَستَشيره في طلاقِها، فقال له النبيُّ عليه الصلاة والسلام:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} ؛ يَعنِي: لا تُطلِّقْها، وأَمَره بأَنْ يَتَّقيَ اللَّه تعالى:{وَاتَّقِ اللَّهَ} ، إغراءً له على إِمْساكها، وإن كان الرجُل لم يَفعَل خَطيئةً، لأنَّ الطلاق ممَّا يُباح للرِّجال، لكن من باب الإِغْراء على إِمْساكها.
وقال بعضُ المُفسِّرين: إنه -أَي: زَيدُ بنُ حارِثةَ رضي الله عنه ذكر زَينبَ رضي الله عنها بعَيْبٍ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:{وَاتَّقِ اللَّهَ} يَعنِي: لا تَصِفْها بالعَيْب، وليس المَعنَى: اتَّقِ اللَّه لا تُطلِّقْها؛ لأنَّ الأصل في الطلاق أنه مُباح.
قال اللَّه تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، الواو حَرْف عَطْف، {وَتُخْفِي} مَعطوفة على قوله تعالى:{تَقُولُ} ، يَعني: واذْكُرْ أيضًا إذ تُخفِي في نَفْسِك ما اللَّه تعالى مُبديه، وأَبهَمَ اللَّه تعالى ما أَخفاه، لكنه بيَّن أنه سيُبدِيه، ونَنظُر ماذا أَبدَى اللَّه عز وجل:
قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا} : {مَا} هذه اسْمٌ مَوصولٌ في محَلِّ نَصْب مَفعول لـ {وَتُخْفِي} ، و {اللَّهُ} مُبتَدَأ، و {مُبْدِيهِ} خبَرُه، والجُملةُ صِلة المَوْصول لا محَلَّ لها من الإعراب، يَعنِي: تُخفِي في نفسك الذي اللَّه تعالى مُبدِيه، وهنا لم يَقُلْ: وتُخفِي في نَفْسك ما يُبديه اللَّه تعالى، بل قال تعالى:{مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، فأَتَى بالجُمْلة الاسمِيَّة الدالَّة على الثُّبوت كأن هذا أَمْر لا بُدَّ منه، أي: لا بُدَّ أن يُبديَه اللَّه عز وجل، وهذا هو الذي وقَعَ.
ومَعنَى: {مُبْدِيهِ} ، أي: مُظهِره، وهو مُقابِل لِقَوْله:{وَتُخْفِي} ، قال تعالى:{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} إلَّا أنَّ المُقابَلة اختَلَفَت من حيث الصِّيغة،
فالصِّيغةُ في الإِخْفاء جاءت بالمُضارع، وأمَّا الصِّيغةُ بالإِبْداء فجاءَتْ بالجُمْلة الاسمِيَّة.
وقوله رحمه الله: [{وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} مُظهِرُه من مَحبَّتها، وأن لو فارَقَها زيدٌ تَزوَّجْتَها] هذا ما زعَمَ المُفَسِّر رحمه الله تبَعًا لكثير من المُفسِّرين: أنَّ الذي أَخفاه النبيُّ عليه الصلاة والسلام هو مَحبّتُه لهذه المرأةِ، فأَبدَى اللَّه تعالى ذلك، ولكنَّك إذا تَأمَّلْتَ الآياتِ وجَدْتَ أنَّ الذي أَخفاه هو (نِيَّة الزَّواج بها بأَمْر اللَّه عز وجل، فإنَّ اللَّه تعالى أمَرَه أن يَتزَوَّجها بعد زيدِ بنِ حارِثةَ رضي الله عنه، وكأن هذا -واللَّهُ تعالى أَعلَمُ- من أَجْل جَبْر قَلْبها حيث تَزوَّجَتْ زَيدَ بنَ حارِثةَ رضي الله عنه وهو مَوْلًى، وهي من صميم العرَب، فأَراد اللَّه عز وجل أن يُكافِئَها على خُضوعها لمَشورة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يَتزَوَّجها الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه من جِهةٍ.
ومن جِهة أُخرى: أمَرَه اللَّه تعالى أن يَتزَوَّجها لأَجْل أن يَزول ما كان مَشهورًا عِندهم في الجاهِلية؛ من أنَّ ابن التَّبنِّي لا يَجوز لمَن تَبنَّاه أن يَتزوَّج بامرأته، فيَكون هذا من باب البَيان بالفِعْل الذي هو أَقوَى من البَيان بالقَوْل.
وإذا نظَرْنا إلى الذي أَبداه اللَّه تعالى وجَدْنا أنه زواجُه، لا أنه يُحِبُّها، فلم يَقُلِ اللَّه تعالى في القُرآن: إنك تُحِبُّها، أبَدًا! ولا تَعرَّض للحُبِّ.
وقوله تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ} أي: تَخاف من قولهم، ومن كلامِهم، بأن يَقولوا: تَزوَّج زوجةَ ابنِهِ، وهذا عِند العَرَب عَيْب، فهُمْ يَرَوْنه من المُنكَرات.
قال اللَّه تعالى: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [في كُلِّ شيء وتَزوَّجها، ولا عليك من قول الناس، ثُمَّ طلَّقها زيدٌ وانقَضَت عِدَّتها]، قال اللَّه تعالى:{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} من الناس، ولكنه هنا أَطلَق، فقال تعالى:
{وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ، ولم يَذكُرِ المُفضَّل عليه من أَجْل العُموم؛ لأنَّه دائِمًا يَكون الحذفُ مُفيدًا للعُموم، يَعنِي: أَحَقُّ أن تَخشاه من كل أحَد من النَّاس، ومن الجِنِّ، ومن غيرهم.
وقوله تعالى: {أَنْ تَخْشَاهُ} ، يَعنِي: أن تَخافَه، ولكن الخَشْية خَوْف مع عِلْم؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، والخَشْية أيضًا خَوْف مع قُوَّة المَخشِيِّ وعظَمَته، فالجوْف دون الخَشْية؛ لأنَّ الخَوْف يَقَعُ بدون عِلْم؛ ولأنَّ الخَوْف يَقَع من ضَعْف الخائِف، لا من قُوَّة المَخُوف؛ ولهذا كانتِ الخَشْية أَرفَعَ مَرتَبة وأَقوَى، {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} .
وقوله رحمه الله: [{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}، حاجةً، {زَوَّجْنَاكَهَا} فدخَل عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بدون إِذْنٍ وأَشبَع المُسلِمين خُبْزًا ولَحْمًا].
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} ؛ أي: حاجة، وهذا دليلٌ على أنَّ زيدًا رضي الله عنه طلَّقَها عن رَغْبة، وأنها انقَضَتْ حاجته منها، ولم يُطلِّقها عن ضَغْط أو إِكْراهٍ.
وقوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} شَرْعًا وقدَرًا، لكِنَّ المُهِمَّ: شَرْعًا؛ لأنه لو كان المُراد قدَرًا فقط لم يَكُن بينها وبين أُمَّهات المُؤمِنين فَرْق؛ لأنَّ اُمَّهات المُؤمِنين أيضًا ممَّا زَوَّجهن اللَّه تعالى قدَرًا، وكانت هي -أي: زَينبُ رضي الله عنها تَفتَخِر على نِساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتَقول:"زَوَّجَكن أَهالِيكُنَّ، وزَوَّجَني اللَّه من فوقِ سَبْع سَمَواتٍ"
(1)
، وهذا دليل على أنه تَزويج شَرْعيٌّ، ولكنَّه قدَريٌّ أيضًا في نَفْس الوقت.
وقوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} في هذا ضَميران مَفْعولان؛ الضَّمير الأَوَّل: الكافُ،
(1)
أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، رقم (7420)، من حديث أنس رضي الله عنه.
والثاني: (ها)، وهو مُتمَشٍّ على القاعِدة، وابنُ مالِك رحمه الله يَقول:
وَقَدِّمِ الْأَخَصَّ فِي اتِّصَالِ
…
وَقَدِّمَنْ مَا شِئْتَ فِي انْفِصَالِ
(1)
وضَميرُ المُخاطَب أَخصُّ من ضمير الغائِب؛ ولهذا قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} .
والحِكْمة من ذلك: قال تبارك وتعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} .
قوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ} اللَّام هنا للتَّعليل، و (كَيْ) حَرْف مَصدَر؛ لأنها بعد اللَّام مَصدَرية مَحضَة؛ أي:(لأن)، و (لا) نافِية.
وقوله تعالى: {حَرَجٌ} ؛ أي: ضِيق ومَشقَّة.
وقوله تعالى: {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أَدعياؤُهم: أَبناؤُهم الذين تَبنَّوْهم، هؤلاءِ همُ الأَدْعياءُ، وهؤلاءِ الأدعياءُ ليسوا بأبناءٍ، كما قال اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، وتَأمَّلْ قوله تعالى:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} ، ولم يَقُلْ:(أَبنائِهم الذين تَبنَّوْهم)؛ لأنَّ هذه البُنوَّةَ مُنتَفية شَرْعًا وباطِلة شَرْعًا؛ ولهذا قال تعالى: {أَدْعِيَائِكُمْ} .
وبهذا نَعرِف أنَّ قول مَن قال في قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} : (إن قولَه: {أَصْلَابِكُمْ} احتِرازٌ مِن ابنِ التَّبنّي) يَتبيَّن لنا أنَّ هذا القولَ لا وَجهَ له؛ لأنَّ ابنَ التَبنِّي لم يُسمِّه اللَّه تعالى ابنًا أبَدًا، بل نفَى عنه البُنوَّة، فقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ، وقال هنا:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} ، وإذا كان ابنُ التَّبنِّي لا يُسمَّى ابنًا شَرْعًا، فإنه لا حاجةَ إلى
(1)
الألفية (ص: 13).
أن نَأتِيَ بصِفة تُخرِجه؛ لأنَّه ليس بداخِل أصلًا حتى يَخرُج بهذه الصِّفةِ الذين من أَصلابِكم؛ ولكنها احتِراز من ابنِ الرَّضاعة، كما هو اختيار شيخِ الإسلام ابنِ تَيميَّةَ رحمه الله.
وقوله تعالى: {إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} : {إِذَا قَضَوْا} الفاعِل يَعود على الأَدْعياء، وقوله تعالى:{إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} فيه إشارة إلى أنَّه لو كان ذلك بضَغْط من الأبِ المُدَّعي لكان ذلك فيه حرَج، بل لا بُدَّ أن يَكونوا قد قضَوْا مِنهُنَّ وطَرًا وأنْهَوْا رَغْبَتَهُن فيهِنَّ.
وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ} ، قال المُفَسِّر رحمه الله:[مَقضِيُّه {مَفْعُولًا}]، {أَمْرُ اللَّهِ} أي: الكَوْني؛ لأنَّ الشَّرعيَّ قد يُفعَل وقد لا يُفعَل، ولكن الأمر الذي لا بُدَّ أن يُفعَل هو أمر اللَّه تعالى الكَوْنيُّ، فإذا أمَرَ اللَّه تعالى بشيء كونًا فلا بُدَّ أن يَقَعَ.
وخُلاصَةُ تفسير هذه الآيةِ أن نَقول: إن اللَّه عز وجل ذكَّر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بهذا الأَمرِ العَظيمِ، وهو قولُه لزَيدِ بنِ حارِثةَ رضي الله عنه حين جاء يَستَشيره في طلاق زَوجَتِه:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} ، مع عِلْم النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن اللَّه تعالى سَوْف يُزوِّجه إيَّاها، وكان على النبيِّ عليه الصلاة والسلام أن يَسكُت على الأقَلِّ، ويَقول: انظُرْ ما يَبدو لك في هذا الأَمرِ، لكنه أَشار عليه أن يُمسِكَ؛ لأنَّه يَخشَى أن يَقول الناس: تَزوَّج امرأةَ ابنِه الذي تَبنَّاه. فكان النبيُّ عليه الصلاة والسلام يَخاف من هذا الأَمرِ، ولكن اللَّه تعالى وجَّهَه هذا التوجيهَ السليمَ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: تَذكير النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالأُمور التي يَحسُن أن يُوعَظ فيها؛ لقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ} حيثُ قُلْنا: إنَّها مَنصوبة بفِعْل مَحذوف تَقديرُه: اذكُرْ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيانُ مِنَّة اللَّه تعالى على زَيدِ بنِ حارِثةَ بالإسلام، والتَّمسُّك به، حتى إن أباه وأَعمامه لمَّا جاؤُوا يَطلُبونه، وخيَّرهُ النبيُّ عليه الصلاة والسلام بينَهُم وبينَهُ، اختار أن يَكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ الإِعْتاق نِعْمة من المُعتِق على عَتيقه، وهو كذلك، والفَرضِيُّون يُعبِّرون بـ (النِّعمة) عن الإِعْتاق.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّه يَجوز عَطْف الأمور غير الشَّرْعية بالواو إذا اختَلَف المَعنَى، وقُلْنا: لا يُسوَّى بين اللَّه تعالى وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بالواو في غير الأُمور الشَّرْعية، وهنا عَطَف نِعْمة الرسول عليه الصلاة والسلام على نِعْمة اللَّه تعالى بالواو، مع أنَّها ليست من الأُمور الشَّرْعية، لكنَّ الذي سَوَّغ ذلك اختِلافُ النِّعْمَتَيْن؛ فالنِّعْمة الأُولى: الإسلامُ، والنِّعْمة الثانية: العِتْقُ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ الزوجة تابِعة للزَّوْج؛ لقوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ} فكأنَّه يَضُمُّها ويَحرُسُها ويَصونها، وكأنَّها تابِعة له، كما في قوله تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4].
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: استِشارة ذَوِي الرَّأْيِ؛ لأنَّ زيدًا رضي الله عنه استَشار النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّه يَجِب على المُستَشار أن يَبذُل ما يَراه الأَوْلى -ولو باجتِهاده؛ لأنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام أَشار على زَيْد بإِمْساكها اجتِهادًا منه خَوْفًا من إثارة
المُنافِقين والمُشرِكين عليه، ولكن لا يَعنِي ذلك أن يَكون المُشير مُصيبًا فيما يَتَصرَّف فيه، قد يُخطِئ فيما يَتَصرَّف فيه، لكن هو في حال إشارته يَرَى أنَّ ذلك هو الصَّوابُ.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ الأفضل للزَّوْج ألَّا يَتعجَّل بالطلاق، وأَنْ يُمسِك عليه زَوْجَته؛ لقوله تعالى:{أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} ، فأَشار عليه بعدَم الطلاق، وإن كان للرسول عليه الصلاة والسلام أَغراضٌ أُخرى، لكن لا يَمنَع أن تَتَعدَّد الأسباب في الأَمْر بإِمْساكها، ومَعلوم أنَّ اللَّه عز وجل قال في كِتابه المُبين:{فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: ثُبوت رِسالة النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنَّها رِسالة حَقٍّ؛ لقوله تعالى:{وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ، فلو كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام كاذِبًا -وحاشاهُ من ذلك- لكان يَكتُم مثل هذه الأَشياءِ؛ لأنَّها صَعْبة في حَقِّه.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ اللَّه عز وجل قد يَفعَل خِلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بمَعنَى أنَّ اجتِهاد النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد يَكون مخُالِفًا لما يُريده اللَّه سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى:{وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} ، فالرسول صلى الله عليه وسلم أَخفَى في نَفْسه هذا الأَمرَ، لكنَّ اللَّه تعالى خالَفَه في ذلك فأَبْداه.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ خوف النَّاس قد يَقَع من الأنبياء عليهم السلام، ولكنهم لا يُقَرُّون عليه؛ لقوله تعالى:{وَتَخْشَى النَّاسَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: وُجوبُ تَقديم خَشْية اللَّه عز وجل على خَشْية كل أحَدٍ؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ، فالواجِبُ على المَرْء ألَّا يَخاف في اللَّه تعالى لَوْمةَ لائِمٍ، وأن يَتَّقِ اللَّه عز وجل في بَيان الحقِّ والعمَل به، لا يَقُل: إنَّ الناس يَشمَتون بي،
إنَّ الناس يَسخَرون مِنِّي، إنَّ الناس يَستَهْزِئون بي. وليكن ذلك! فإنه لا يَزداد بهذه السُّخريةِ والاستِهْزاءِ إلَّا رِفعةً عند اللَّه سبحانه وتعالى.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّه لا يَصِحُّ التزويج حتى يَنتَهِيَ حقُّ الزَّوْج الأوَّل من الزوجة بالكُلِّية؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} ، فكان التزويجُ بعد انتِهاء زَيدٍ رضي الله عنه منها بالكُلِّية، ولا يَرِد على ذلك أن يُقال: إنَّ ظاهِر الآية جَواز التزويجِ بعد الطلاق مُباشَرة، لأنَّا نَقول: إن الوَطَر والحاجة ما تَنتَهي إلَّا بانتِهاء العِدَّة، إذ إنَّ الإنسان لو أَراد أن يَرجِع إلى زَوْجته في العِدَّة وهي رَجْعية لحصَل له ذلك.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إثبات العَظَمة للَّه عز وجل والسُّلْطان، لقوله تعالى:{وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} لمِا له من العظَمة والسُّلْطان.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: فَضيلة زينبَ بنتِ جَحْشٍ رضي الله عنها، حيث زوَّجها اللَّه سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وجهُهُ: أنَّ غيرها يُزوِّجه أولياؤُها وأهلُها، وأمَّا هي فقَدْ تَولَّى اللَّه عز وجل تَزويجها، وهذه مَنْقَبة عظيمة لها.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى يُثيب عبدَه أكثَرَ من عمَله؛ لأنَّ هذه المرأةَ -كما سبَقَ- تَزوَّجت زيدَ بنَ حارِثةَ رضي الله عنه، مع أنَّ زيدًا رضي الله عنه من المَوالي، وهي من صميم العرَب، وقد يَكون في ذلك غضٌّ من حَقِّها ومَرتبَتها، فرفَعَ اللَّه تعالى من شَأْنها، حيث زوَّجها رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم هو بنَفْسه تبارك وتعالى، ولا شَكَّ أنَّ هذا رِفعة من شَأْنها، فهي بعد أن كانت تَحتَ هذا المَولَى وهي من صميم العرب، وكان في ذلك شيء من الغَضاضة عليها، رفَعَ اللَّه تعالى من شأنها بهذا الأَمرِ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ ما ثبَتَ في حقِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من أحكام فهو ثابِت في حقِّ الأُمَّة؛ لأنَّه هذا الحُكمَ خُوطِب به الرسول عليه الصلاة والسلام، ثُمَّ {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} ، فدَلَّ ذلك على أن ما ثبَتَ للرسول عليه الصلاة والسلام من الأحكام فأُمَّتُه تَبَع له، إلَّا ما قام الدليل على تَخصيصه.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: جَواز تَزوُّج الرجُل بزَوْجة مَن تَبنَّاه، تُؤخَذ من قوله تعالى:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أنَّ ابنَ التَّبنِّي لا يُسمَّى شَرْعًا ابنًا، ولم يُسمِّه اللَّه تعالى ابنًا؛ لقوله تعالى:{أَدْعِيَائِهِمْ} ، وقوله في أوَّلِ السُّورة:{وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} .
ويَتفَرَّع على هذه الفائِدةِ: أنَّ قوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} : فهذا القيدُ ليس لإخراج ابنِ التَّبنِّي؛ لأنَّه ما دخَل في الأبناء حتى يَحتاج إلى إخراجِه.
الْفَائِدَةُ العِشْرُون: أنَّ أَمْرَ اللَّه عز وجل الأَمْرَ الكونيَّ لا بُدَّ أن يَقَعَ؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} .
ولو قال قائِل: {أَمْرُ اللَّهِ} مُفرَد مُضاف فيَعُمُّ الأَمْرَ الكونيَّ والشرعيَّ، فنُجيبه: بأن الأَمْر الشرعيَّ ليس مَفعولًا لكُلِّ أحَدٍ، بل فيمَن لا يَفعَله.
* * *