المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (64، 65) - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الآيتان (64، 65)

‌الآيتان (64، 65)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64، 65].

* * *

يَقول اللَّه عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} اللَّعْن قال أهل العِلْم رحمهم الله: مَعناهُ: الطَّرْد والإِبْعاد عن رحمة اللَّه، وهذه جُمْلة مُؤكَّدة بـ (إنَّ)، وقوله تعالى:{الْكَافِرِينَ} أي: الكافِرين باللَّه تعالى، وبما يَجِب الإيمان به.

وقوله تعالى: {لَعَنَ الْكَافِرِينَ} أَبعَدَهم عن الرحمة.

ثُمَّ قال سبحانه وتعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} يَعنِي: ليسوا مُبعَدين عن الرحمة فقَطْ، وسالِمين من الإِثْم، بل إنهم جُمِع لهم بين الإِبْعاد عن رحمة اللَّه وبين العُقوبة، {وَأَعَدَّ لَهُمْ} أي: هيَّأ لهم {سَعِيرًا} ، يَقول: نارًا شديدة يَدخُلونها، نارًا يُسعَرون بها -والعِياذُ باللَّه- فهُمْ وَقودُها والحِجارة، نارًا تَطَّلِع على الأَفئِدة، تَصِل إلى قلوبهم التي في أَجوافهم -والعِيَاذ باللَّه- وهذه النارُ ليسوا باقين فيها يومًا أو يومين أو سَنَة أو سَنَتَيْن.

يَقول اللَّه تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} قال المُفَسِّر رحمه الله: [مُقدِّرًا خُلودَهم] أَشار المُفَسِّر رحمه الله إلى أن الحال هنا حالٌ مُقدَّرة؛ لأن الخُلود ليس حال كُفْرهم، ولكن حال مجُازاتهم يوم القِيامة، والحال هذه حالٌ مُقدَّرة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} .

ص: 511

و {أَبَدًا} هذه تُفيد استِمْرار الزمَن في المُستَقبَل استِمرار الزمَن في المُستَقبَل، وأزَلًا تُفيد استِمْراره في الماضِي؛ ولهذا نَقول: إن عِلْم اللَّه تعالى عِلْم ثابِت للَّه تعالى أزَلًا وأبَدًا.

وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} هذه إحدى آيات ثلاث صرَّح اللَّه تعالى فيها بأبَديَّة خُلُود أَهْل النار، والآية الثانية في سُورة النِّساء:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 168 - 169]، والآية الثالِثة في سورة الجِنِّ:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

وفي بعض هذه الآياتِ -بل في واحِدة منها- ردٌّ واضِحٌ على قول مَن قال: إن النار غير مُؤبَّدة؛ ولهذا كان عَقيدة أهل السُّنَّة والجماعة أن النار مُؤبَّدة كالجنَّة، وليس في هذا مُنَافاة لرَحْمة اللَّه عز وجل وحِكْمته، ولا فيها إبطال لقوله تبارك وتعالى في الحديث القُدسيِّ:"إِنَّ رَحْمَتِي سبَقَتْ غَضَبِي"

(1)

؛ لأن هذه العُقوبةَ قد أُنذِر بها أُولَئِك الذين فعَلوا ما يَستَحِقُّونها، وقامَت عليهم الحُجَّة بها، فليس لهم عُذْرٌ، فيَكونون قد عُومِلوا بمُقتَضى العَدْل فعُقوبتهم هذه عَدْلٌ من اللَّه عز وجل، وليس فيها ظُلْمٌ، ومَن أُنذِر بشَيْء ففعَل السبَب المُوصِّل إليه باختِياره فهو الذي جَنَى على نَفْسه.

فائِدةٌ: قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} كيف قال تعالى: {فِيهَا} و {سَعِيرًا} مُذكَّر؟

الجَوابُ: لأن المُراد بالسَّعير هنا سَعير النار، وهي مُؤنَّثة.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ، رقم (7422)، ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة اللَّه تعالى، رقم (2751)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 512

يَقول اللَّه عز وجل: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ، قال المُفَسِّر رحمه الله:[{لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يَحفَظُهم عنها، {وَلَا نَصِيرًا} يَدفَعها عنهم]{لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا} يَتَولَّاهم بحُصول المَطلوب، {وَلَا نَصِيرًا} يَنصُرُهم بدَفْع المَكروه فهُمْ لا يَجِدون أحَدًا يوم القِيامة يَتَولَّاهم، ويَحصُل لهم مَطلوبُهم بحِمايتهم من النار وإدخالهم الجنَّة، ولا يَجِدون أحَدًا يَنصُرُهم من هذه النارِ ويَدفَعُهم عنها ويُخرِجهم منها بعد الدُّخول؛ لأن هؤلاءِ الكُفَّارَ لا تَنفَعُهُم شَفاعة الشافِعين، أمَّا العُصاة من المُؤمِنين فإنهم قد يَجِدون شُفعاءَ في ذلك اليومِ يَشفَعون فيمَنِ استَحَقَّ النار ألَّا يَدخُلها، وفيمَن دخَلها أن يُخرَج منها.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أن اللَّه تعالى لعَن الكافِرين وأَبعَدهم وطَرَدهم عن رَحْمته.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: التَّحذير من الكُفْر، لأنه سبَبٌ للَّعْنة.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثبات العِلَل والأسباب، ويُؤخَذ من قوله تعالى:{الْكَافِرِينَ} فـ {الْكَافِرِينَ} وَصْفٌ عُلِّق به اللَّعن، فهو رَبْطٌ للَّعْن بالكُفْر، فيَكون في هذا إثباتُ العِلَل والأسبابِ، وهذا كثيرٌ.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: الرَّدُّ على الجَهْمية الذين يَقولون: إن اللَّه عز وجل يَفعَل الأشياء لا لحِكْمة، بل لمُجرَّد المَشيئة.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثبات وُجود النار، لقوله تعالى:{وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: عِظَمُ النار، لأن السَّعير إنما يُقال للنار العَظيمة المُسعَّرة، وهذا أَمْرٌ ثبَتَ في عِدَّة آيات وأَحادِيثَ.

ص: 513

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: تَأبيدُ خُلود الكافِرين في النار؛ لقوله تبارك وتعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، وفيها ردٌّ على مَن قال بفَناء النار، والذين قالوا بفَناء النار طائِفة من السلَف والخَلَف، لكن قولهم ضعيف، أمَّا أبَديَّة النار فقد أَجمَع عليها السلَف وأهل السُّنَّة، ولم يُخالِف في ذلك إلَّا طائِفة من المُعتَزِلة الذين يَمنَعون تأبيد أَفعال اللَّه تبارك وتعالى، ويَقولون: إن التَّسلسُل في الأبَد مُمتَنِعٌ، كما يَرَوْن أن التَّسلسُل في الأزَل أيضًا مُمتَنِع.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أن هؤلاءِ المُعذَّبين في النار لن يَجِدوا أحَدًا يَتَولَّاهم بدَفْع العَذاب عنهم، ولا بمَنْعه قبل أن يَنزِل بهم؛ لقوله تعالى:{لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ، فالوليُّ هو الذي يَتَولَّاهم ويَحميهم ويَحفَظهم من أن يَنالَهم سُوء، والنَّصير هو الذي يَدفَع عنهم البلاء بعد نُزوله.

* * *

ص: 514