الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (38)
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38].
* * *
قوله تعالى: {مَا كَانَ} : {مَا} نافِية، و {كَانَ} فِعْل ماضٍ ناقِص، واسمُها قوله تعالى:{حَرَجٍ} ، لكِنْ فيها {مِنْ} الزائِدةُ لإِثْبات النَّفي وتَوكِيده، وقوله تعالى:{عَلَى النَّبِيِّ} ، هذا خبَرُها مُقدَّم.
ومَعنَى {فِيمَا فَرَضَ} أي: فيما أَحَلَّ اللَّه تعالى له، أيًّا كان، فكُلُّ ما أَحَلَّ اللَّه تعالى، فإنه لا حرَجَ عليه عِند اللَّه تعالى، وإذا كان لا حرَجَ عليه عند اللَّه تعالى فإنه لا يَجوز لأحَدٍ أن يَتكلَّم في هذا الذي أحَلَّ اللَّه تعالى له، ويَقول: لِمَ فعَلَ؟ لِمَ صنَع؟ وسيَأتي -إن شاء اللَّه تعالى- في الفَوائِد: أنَّ هذا عامٌّ للرسول صلى الله عليه وسلم ولغَيْره.
وقوله تعالى: {فِيمَا فَرَضَ} الفَرْض تارةً يَتعدَّى باللَّام، وتارةً يَتعدَّى بـ (عَلى)، فيَتعدَّى باللَّام مثل هذه الآيةِ:{فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} ، ويَتعدَّى بـ (على) مِثْل: فرَض اللَّه علينا كذا وكذا. فإِنْ تَعدَّى بـ (على) فهو بمَعنَى: أَوْجَب، وإن تَعدَّى باللَّام فهو بمَعنَى: أحَلَّ؛ لأنَّ الفَرْض في الأصل بمَعنَى التَّقدير، والمُقدَّر قد يَكون واجِبًا، وقد يَكون محُلَّلًا.
وقوله رحمه الله: [{سُنَّةَ اللَّهِ} أي: كسُنَّة اللَّه تعالى، فنُصِب بنَزْع الخافِض]
يَعنِي: أنَّ اللَّه تعالى نَفَى عنه الحرَج فيما أَحَلَّ له؛ لأنَّ هذا هو سُنَّة اللَّه تعالى فيمَن سبَقَ، و {سُنَّةَ اللَّهِ}؛ أي: طَريقته، والمَعنَى: كطريقة اللَّه تعالى فيمَن سبَقَ من الأنبياء عليهم السلام.
وقوله رحمه الله: [{فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} من الأنبياءِ: أن لَا حَرَجَ عليهم في ذلك تَوسِعة لهم في النكاحِ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ}، فِعْلُه، {قَدَرًا مَقْدُورًا}؛ مَقضِيًّا].
يَقول اللَّه عز وجل: إنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام كغَيْره من الأنبياءِ السابقين، فما أحَلَّ اللَّه تعالى له فإنه لا حرَجَ عليه فيه، يَعنِي: لا تَضييق لا مِن قِبَل اللَّه تعالى ولا مِن قِبَل عِباد اللَّه تعالى، وهكذا الأنبياءُ السابِقون ليس عليهم حرَجٌ فيما فرَضَ اللَّه تعالى لهم يَفعَلون ما يَشاؤُون، ما دام الأمرُ محُلَّلًا لهم.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّه لا حرَجَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما أَحَلَّ اللَّه تعالى له، وإن كان مخُالِفًا لما يَعتاده الناس؛ لعُموم قوله تعالى:{مِنْ حَرَجٍ} و {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ} ؛ لأن (ما) اسمٌ مَوْصول، فكُلُّ ما أحَلَّ اللَّه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم فلا حَرَجَ عليه فيه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنه لا حرَجَ على الإنسان غير الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أَحَلَّ اللَّه تعالى له؛ لأنَّ ما ثبَتَ في حقِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثبَتَ في حَقِّ أُمَّته إلَّا بدليل، ولكن يَجِب على الإنسان أن يُراعِيَ أحوال الناس، وما يُستَنكَر عليه فيَهِم، حتى لا يُعرِّض نفْسَه للذَّمِّ والقَدْح، فمُراعاة أحوال الناس أَمْرٌ لا بُدَّ منه إلَّا في الأمور الشَّرْعية، فإنَّ الواجِب على المَرْء إبانتُها وإظهارُها.
ويُراعِي الشخصُ ذمَّ الناس له -وليس ذمَّ اللَّه تعالى فقَطْ- فبعض الأشياء
المُحلَّلة إذا فعَلها الإنسان صار خارِجًا عن المُروءة في عُرْف الناس، ومُراعاة هذا الأمرِ لا نَأخُذُه من هذه الآيةِ، فمُراعاة هذا الأمرِ أمرٌ لا بُدَّ منه، يَعنِي: افرِضْ أن هناك شَيئًا حلالًا، لكن النَّاس يَنتَقِدونه عليك، وليس هو من الأمور الشرعية التي لا بُدَّ من إبانتها، فالأفضَلُ أن الإنسان أن يَدَعَ هذا.
مَسأَلةٌ: ما الجوابُ عن حديثِ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ"
(1)
؟
الجَوابُ: هذا من مُراعاة دَفْع المَفاسِد؛ لأَنَّه إذا تَحقَّقتِ المَفسَدة فإن المَفسَدة لا يَجوز للإنسان أن يُمارِسَها يَجِب عليه الكَفُّ عنها، فلا تَكُون داخِلةً في ما أحَلَّ اللَّه تعالى له.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: تَكليف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأنه يَلحَقه الحرَجُ فيما لم يُحِلَّه اللَّه تعالى له؛ لقوله تعالى: {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} ، فيُستَفاد من هذا: أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عبدٌ من عِباد اللَّه تعالى، لا يَخرُج عن طاعته وشريعته، كما قال شيخُ الإسلام محمدُ بنُ عبد الوهَّاب:"إنَّ الرسول محُمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لا يُعبَد، ورسولٌ لا يُكَذَّب"
(2)
، وهو كذلك.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن البَيان بالفِعْل أبلَغُ وأَقوَى من البيان بالقَوْل؛ تُؤخَذ من كونِ اللَّهِ تعالى زوَّج زينبَ بنتَ جَحْش رضي الله عنها رسولَه صلى الله عليه وسلم، فإنَّ هذا أبلَغُ في الطُّمَأْنينة وثُبوت الحُكْم.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ ما شرَعَه اللَّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ فهو مَشروع لمَن كان قَبْله؛ لقوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} ؛ ورُبَّما يُؤخَذ منها
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، رقم (1586)، ومسلم: كتاب الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، رقم (1333)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
ثلاثة الأصول (ص: 38).
فائِدة أيضًا: وهي أن شَرْع من قَبْلنا شَرْع لنا؛ لأن اللَّه تعالى جعَل هذا سُنَّة الأَوَّلين، وقد يُنازَع في ذلك، فيُقال: إن اللَّه تعالى بيَّن أنما شَرَعه لنَبيِّه صلى الله عليه وسلم، أو ما نفاه عنه من الحرَج فيما فرَضَ له، هو سُنَّة مَن قَبْلَه، ولا يَعنِي ذلك أن يُوافِقه.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ أَمْر اللَّه تعالى قد كُتِب وقُدِّر؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} ، والمُراد بالأمر هنا الأمر الكَوْنيُّ.
* * *