المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (44) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (44) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ

‌الآية (44)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44].

* * *

قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ} الضَّمير يَعود على المُؤمِنين، والتَّحيَّة مَعناها: الدعاءُ بالبَقاء، فإذا قال: حيَّاكَ؛ أي: دعا لكَ بالبَقاء، ثُم صارت اسْمًا لما يُستَقبَل به الضَّيْف، أو الداخِل، أو ما أَشبَه ذلك ممَّا يَدُلُّ على الإكرام، فالتَّحيَّة إذَنْ في الأصل: الدُّعاء بالبَقاء والحَياة، ثُمَّ نُقِلت في العُرْف إلى كل ما يحيَّا به المَرْء، ويُستَقبَل به من عِبارات التَّكريم، فتَحيَّتُهم؛ أي: تَحيَّة المُؤمِنين.

{يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} يَلقَوْن اللَّه تعالى، يَوْم يَلقَوْن اللَّه تعالى، وذلك يَوْم القِيامة، سواءٌ كان في عرَصات القِيامة، أو كان بعد دُخولهم الجنَّة، فتَحيَّتُهم حينئذٍ {سَلَامٌ} .

قال المُفَسِّر رحمه الله: [بلِسان المَلائِكة] يَعنِي: أنَّ المَلائِكة همُ الذين يُسلِّمون على هؤلاء بأَمْر اللَّه تعالى، فإذا سلَّموا على هَؤلاء بأَمْر اللَّه تعالى صار كأن المُسلِّم هو اللَّه تعالى، ولكن هذا صَرْف للآية عن ظاهِرها، فإن ظاهِر الآية أن الذي يُسلِّم هو اللَّه عز وجل، وإذا كان السَّلام من اللَّه تعالى فهو خبَرٌ مَحْضٌ، وليس دُعاءً؛ لأن اللَّه تعالى لا يَدعو أحَدًا، ولكن يُخبِر بالسَّلام الدائِم الذي لا يَعترِيه أيُّ نَقْص أو أي خَوْف.

أمَّا إذا كان مِن الملائِكة فإنه يَحتَمِل الخبَر، ويَحتَمِل الدُّعاء، {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ

ص: 332

عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23 - 24].

إنَّما الصَّواب -بلا شَكٍّ- أنَّ هذا السلامَ من اللَّه تعالى؛ لأَنَّه يَقول: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ، المُلاقَى هو الذي يُسلِّم، وهو الذي يُحيِّي هؤلاءِ، ولا شَكَّ أنَّ الربَّ عز وجل إذا قال لهم: سَلام عليكم. سيَنزِل عنهم كلُّ خَوْف؛ ولهذا تُسمَّى الجَنَّة دارَ السَّلام، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]؛ لأنها دار سالمِة من كُلِّ آفَةٍ، لا فيها مرَضٌ، ولا فيها مَوْتٌ، ولا فيها هرمٌ، ولا فيها نَقْصٌ في الرِّزْق، بل فيها ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أذُنٌ سَمِعتْ، ولا خطَرَ على قَلْب بشَرٍ، كما قال عز وجل:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} .

إِذَنْ: لمَّا قال تعالى: {سَلَامٌ} أي: من الآفات ذكَرَ بعد ذلك: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} ، وهذا تَحْلية بعد تَخْلية، حين أَخبَرَهم أنهم سالمِون من كُلِّ آفَةٍ بيَّن أنه أَعَدَّ لهم أَجْرًا كريمًا، قال المُفَسِّر رحمه الله:[هو الجنَّة] والأَجْر بمَعنَى: الثَّواب، وهو ما يُعطَى الأجيرَ في مُقابَلة عمَله، ويُسمَّى أجرًا، ويُسمَّى أُجْرةً، ولكن سَبَق لنا مَرَّاتٍ كثيرةً: أنَّ أَجْر العامِلين على عمَلهم ليس من باب المُعاوَضة؛ لأنه لو كان من باب المُعاوَضة لكان نِعْمة واحِدة من نِعَم اللَّه تعالى على العَبْد تَستَوعِب جميع عمَله، بل لو كان على سبيل المُعاوَضة لكان تُوفيقُك للعمَل نِعْمة يَحتاج إلى أَجْر؛ ولهذا قال بعضُهم:

إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَةً

عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْرُ

فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِهِ

وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَ الْعُمْرُ

(1)

(1)

الأبيات لمحمود الوراق، انظر: الشكر لابن أبي الدنيا رقم (83)، والصناعتين لأبي هلال العسكري (ص: 232)، وشعب الإيمان للبيهقي رقم (4099).

ص: 333

وثَبَت عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ أَحَدٌ بعَمَلِهِ"، قالوا: ولا أَنْت يا رَسولَ اللَّه؟ قال: "وَلَا أَنا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ"

(1)

.

إِذَنْ: فالعمَل نَصِفُه إذا لم يَكُن عِوَضًا بأنه سبَب، وليس بعِوَض؛ ولهذا صرَّح اللَّه سبحانه وتعالى في عِدَّة آيات بأن الثَّواب هذا جَزاءً بما كانوا يَعمَلون؛ أي: بسبَب ما كانوا يَعمَلون، فالباء للسَّبَبيَّة في قوله تعالى:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، والباء للعِوَض في قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ"، وبهذا يُجمَع بين النَّصَّيْن.

وقوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} الأَجْر هو الكريمُ أَمِ الكريمُ هو المُتفَضِّلُ بالأَجْر؟

الجَوابُ: يَجِب أن نَعلَم أن الكريم يُطلَق على الجوَاد الباذِل للمال، ويُطلَق على الشيء الحسَن، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لمُعاذٍ رضي الله عنه:"إيَّاكَ وَكرائِمَ أَمْوَالهِمْ"

(2)

يَعنِي: الحسَنة، فقوله تعالى:{أَجْرًا كَرِيمًا} ، أي: حسَنًا، فما وجهُ كرَم هذا الثَّوابِ أو هذا الأَجْرِ؟

الجَوابُ: أنَّ اللَّه تعالى جعَل الحسَنة بعَشْر أمثالها إلى سَبعِ مِئة ضِعْف إلى أَضعاف كثيرة، هذا من وَجْه، ومن وَجْهٍ آخَرَ أنَّ مُدَّة بقاء الإنسان في الدنيا بالنِّسبة للآخِرة ليست بشَيْء إطلاقًا ولا يُنسَب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يَقول: "لمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب تمني المريض الموت، رقم (5673)، ومسلم: كتاب صفة القيامة، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة اللَّه تعالى، رقم (2816)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء، رقم (1496)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، رقم (19)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 334

خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"

(1)

، فـ "مَوْضِعُ السَّوْطِ" السَّوْط -كما يُعرَف- حوالي مِتر، خَيْر من الدُّنيا وما فيها، إذَنْ فكَرَم هذا الثوابِ يَعنِي: لا يُنسَب العمَل إليه؛ لأنه كَرَم واسِع لا نِهايةَ له {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، اللهُمَّ اجعَلْنا وإيَّاكم منهم.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: إثبات البَعْث؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إِثْبات كلام اللَّه تعالى، وأنه يَتكَلَّم؛ لقوله تبارك وتعالى:{سَلَامٌ} ، ويُؤيِّده قوله تعالى:{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]؛ لأنه يَتكَلَّم به تعالى، ويَقوله قولًا.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: البُشْرى العَظيمة للمُؤمِنين، وأنَّ اللَّه نفسه جَلَّ وَعَلَا يُحَيِّيهم بهذه التَّحيَّةِ؛ لقوله تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ، لو أنَّ مَلِكًا من مُلوك الدُّنيا وعَدَك بهذا، وقال: إنه سيُحَيِّيك بالسَّلام، ويُقدِّم لك القِرَى الكريم الحسَن كيف يَكون فرَحُك؟ ! فكيف إذا كان اللَّه عز وجل يُخبِر عن نفسه بأنه سيُحَيِّي المُؤمِنين بهذه التَّحيةِ مع تَقديم هذا الأَجْرِ العظيمِ؛ ولهذا تُعتبر هذه الآيةُ فيها بِشارة، وهي من فَوائِدها: البِشارة العُظمى للمُؤمِنين، بأن اللَّه تعالى يُحَيِّيهم، ويُعِدُّ لهم الأَجْر الكَريم.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ الآخِرة فيها آفاتٌ وأذًى يَسلَم منها مَن يَسلَم ويَعطَب فيها مَن يَعطَب؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} ، أمَّا غيرُهم فلا سَلامَ لهم؛ لأنهم يُعذَّبون في النار، والعِياذُ باللَّه.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل رباط يوم في سبيل اللَّه، رقم (2892)، من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه.

ص: 335

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثباتُ الجزاء؛ لقو له تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ الأَجْر الذي أَعَدَّه اللَّه تعالى للمُؤمِنين أَجْر حسَن، بل هو كما قال اللَّه تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} ، يَعنِي: أحسَن شيء، {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} .

* * *

ص: 336