المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (14) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (14) * قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ

‌الآية (14)

* قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} [الأحزاب: 14].

* * *

قال اللَّه تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} : {وَلَوْ دُخِلَتْ} : (لو) هذه شَرْطية، وفِعْل الشَّرْط فيها {دُخِلَتْ} ، وجوابُ الشَّرْط:{لَآتَوْهَا} ، {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} نائِب الفاعِل فسَّره المُفَسِّر رحمه الله [بالمَدينة]، يَعنِي: لو دُخِلَتِ المدينة عليهم من أَقْطارها، وتَفسيره إيَّاها بالمدينة يُؤيِّده قوله تعالى في أول الآية:{يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ} .

وفسَّره بعضُهُم بالبُيوت أي: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} البُيوت {مِنْ أَقْطَارِهَا} ، ويُؤَيِّد هذا التَّفسيرَ قوله تعالى:{إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} ، لكن يُرجّح الأوَّل أنها المدينة قوله تعالى:{مِنْ أَقْطَارِهَا} ؛ لأن الغالِب أن كلِمة {مِنْ أَقْطَارِهَا} لا تَأتِي للبُيوت؛ لأن البُيوت صَغيرة، فجِهاتُها لا يُطْلَق عليها قُطْر، وإنما الأقطار تَكون في الشيء الكبير؛ ولهذا قال رحمه الله:[{مِنْ أَقْطَارِهَا} أي: نَواحيها]، يَعنِي: لو دخَل العَدوُّ المدينةَ من نواحيها كلِّها، أو مِن أيِّ ناحيةٍ منها [{ثُمَّ سُئِلُوا} أي: سأَلهم الداخِلون الفِتْنة، {لَآتَوْهَا} بالمَدِّ والقَصْر أي: أَعطوها].

وقوله تعالى: {سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} نائِب الفاعِل المُنافِقون، والسائِل -الفاعِل

ص: 123

في المَعنَى- الذي دخَل المدينة من أَقطارها.

فلو سأَلَهم هذا الداخِلُ الفِتْنة يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [الشِّرْكَ]، والدليل على أن الفِتْنة بمَعنى الشِّرْك قوله تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193]، هذا يَكون شِرْكًا؛ وقال الإمامُ أحمَدُ رحمه الله في قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63]، قال:"أَتَدْرِي ما الفِتْنة؟ الفِتْنة: الشِّرْك"

(1)

.

فهؤلاء لو دُخِلت عليهم المدينة لَمْ يَكُن عندهم إخلاصٌ في الإسلام وبَقاءٌ علَيه فبمُجرَّد ما يَسأَلهُم الداخِلون الكُفْر يُوَافِقون عليه؛ لأنهم قَوْلم لا يُريدون إلَّا الدنيا فقط، يُريدون أن يَعيشوا في الدنيا ولو عِيشةَ الحِمار! أمَّا أن يَعيشوا عِيشة المُؤمِنين فإنهم لا يُريدون هذا.

ولذلك يَقول: "لَآتَوْهَا" هذا المَدُّ، والفَرْق بينهما أن (أتَى) بمعنى: جاء، و (آتَى) بمعنى: أَعطَى، وتفسيرُ القِراءَتَيْن أو مجموع التَّفسير يَدُلُّ على أنَّهم يُعطُون ما سُئِلوا، ويَأتون إليه بانقِياد، يَعنِي: أتَى الشيءَ يَعنِي: جاءَهُ باختياره، وآتاه بمَعنى: أَعطاه ولو عن كُرهٍ، ولكن مع ذلك هَؤلاء قَوْم يُعطُون ما سُئِلوا عن اختيار؛ ولهذا في القِراءة الثانية:{لَآتَوْهَا} لجاؤُوها.

فصار هَؤلاء القومُ الذين يَستَأْذِنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم بحُجَّة أن بُيوتَهم عَورةٌ صار الأَمْر خِلافَ ما قالوا؛ لأن اللَّه تعالى أَخبَر عنهم، وهو عز وجل أَعلَمُ بما في قُلُوبهم، وهذا مِنِ اطِّلاع اللَّه تعالى على ما في القُلوب، أَخبَر عن أَمْر مُستَقبَل لم يَقَع، يَصدُر من قَوْم لا نَعلَم نحن ما في قُلوبهم ولكن اللَّه تعالى يَعلَم؛ واللَّهُ سبحانه وتعالى يَعلَم

(1)

أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى رقم (97)، وذكره ابن تيمية في الصارم المسلول (ص: 56).

ص: 124

ماذا يَحدُث من عَبدِه، لو حصَل لهم ما يَحصُل به هذا القَصدُ، بل إنه سبحانه وتعالى يَعلَم أَبْلَغَ من ذلك، قال عن الذين يَقولون: إنهم لو رُدُّوا إلى الدُّنْيا لعمِلوا صالِحًا، قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، لأنه سبحانه وتعالى يَعلَم ما في قَلْب الإنسان.

وقوله تعالى: {لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} : {تَلَبَّثُوا} بمَعنَى: تَريَّثوا، يَعنِي: لا يَترَّيثُون في إعطاءِ الفِتْنة وقَبُولها إلَّا يَسيرًا.

وقوله تعالى: {إِلَّا يَسِيرًا} قيل: إن هذا بمَعنَى: إلَّا عدَمًا؛ لأن اليَسير والقليل قد يُراد به العدَمُ، وقال بعضهم:{إِلَّا يَسِيرًا} أي: إلَّا قليلًا على وجه الحقيقةِ، وهذا الزمَنُ اليَسيرُ هو ما بين السُّؤال والجواب، يَعنِي: ما بين أن يُسأَل ثُمَّ يُجيب، هذه المَسافة من المُدَّة قَصيرة جِدًّا، وهي كالمَسافة التي بين قول القائِل: بِعْتُك هذا الشيءَ. فتقول المُشتَرِي: قبِلْتُ. يَعنِي: أنهم -والعِياذُ باللَّه- لا يَتَلبَّثون ولا يَتَريَّثون أبدًا، بل يَقبَلون فَوْرًا، فليس بين قَبولهم وسُؤال فِتْنة إلَّا ما بين مُدَّتَي السؤال والجواب.

وفي الحقيقة أنَّ هذه المُدَّةَ قصيرةٌ كالعدَمِ؛ ولهذا فُسِّر قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا يَسِيرًا} يَعنِي: إلَّا عدَمًا {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا} .

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أن المُنافِقين أشَدُّ الناس ذُعْرًا، لِقَوله تعالى:{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} ؛ لأنَّ عِندهم ذُعْرًا من هؤلاء الذين دخَلوا من أَقطارها.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قُرْب المُنافِقين من الكُفْر والشِّرْك، لقوله سبحانه وتعالى: {سُئِلُوا

ص: 125

الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} مُبَادِرين، لَا يَتلبَّثُون ويَقولون: نَنْظُر في الأمر! .

وهل يُسْتَفاد من هذه الآيةِ أنَّه لا حُكمَ للإِكْراه، وأن الإنسانَ إذا كفَر مُكرهًا، فإنه يَترتَّب على كُفْره حُكْم الكافِر؟ أَقول: هل يُستَفاد من الآية أنه لا حُكمَ للإكراه وأن مَن كَفر مُكرهًا فعليه الإِثْمُ؟

الجَوابُ: أن هَؤلاءِ سُئِلوا ما أُكرِهوا بمُجرَّد السؤال وافَقوا، فليس فيه مُعارَضةٌ لقوله سبحانه وتعالى:{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} [النحل: 106] لا يُعارِض هذه الآيةَ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بَيانُ أن المُنافِق حياتُه حياةٌ مادِّيةٌ يُريد أن يَعيش سَواءٌ كان كافِرًا أو غير كافِر؛ لأن هؤلاء إذا سُئِلوا الفِتْنةَ آتَوْها، إِذَنْ: فإيمانهم ليس إيمانًا حقيقيًّا، وإلَّا المُؤمِن الحَقيقيُّ لو سُئِل الشِّركَ ما أَشرَك.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن هَؤُلاءِ المُنافِقين أنَّ المُنافِقين أصحابُ غَدْرٍ وخِيَانة؛ لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} ، وهُمُ الآنَ يحاوِلون الإِدْبَار، لكنَّهم يُموِّهون بسؤال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم واستِئْذانه.

إِذَنْ يَتفرَّعُ على هذه الفائِدةِ: أن كلَّ مَن نقَض العهد ففيه شبَهٌ من المُنافِقين، ولهذا جاء الحديثُ عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام:"آيَةُ المنافِقِ ثَلَاثٌ: وَمنْهَا إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ"

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، رقم (33)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم (59)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"وإذا وعد أخلف"، وأخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، رقم (34)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم (58)، من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ:"أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا. . . وإذا عاهد غدر".

ص: 126

ويَتَفرَّع على ذلك: أنه إذا كان الغَدْر من صِفات المُنافِقين، فالواجِبُ على المُؤمِن البُعدُ عنه، ولو لم يَكُن من الغَدْر إلَّا أنه من صِفات المُنافِقين لكان ذلك كافِيًا في وُجُوب البُعْد والحَذَر منه.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: استِهانةُ المُنافِقِ بحقِّ اللَّه سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {عَاهَدُوا اللَّهَ} يَعنِي: نَقْض العَهْد مع إنسان مِثْلك قد يَكون أهونَ، لَكِن نَقْض العهد مع اللَّه عز وجل أشَدُّ وأعظَمُ.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: تحريم تَوْليةِ الأدبار عند مُلاقاة العَدوِّ؛ وجهُ ذلك أن اللَّه تعالى ذكَرَ هذا عن المُنافِقين تحذيرًا منه، وقد دلَّتِ الآية الكريمة في سورة الأنفال على أنهم من كبائر الذُّنوب؛ لقول اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 15 - 16]، وجاءَت في الأحاديث بِعَد ذلك من المُوبِقات، يَعنِي: من المُهلِكات؛ لأنه من الكبائِر.

* * *

ص: 127