الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (18)
* قالَ اللَّه عز وجل: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18].
* * *
ثُمَّ قال رحمه الله: [{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ} المُثبِّطين منكم {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا}](قد) هنا للتَّحقيق، والأصل أنها إذا دَخَلت على المُضارع تَكون للتَّقليل، كما يُقال: قد يَجود البَخيل. لكن هنا للتَّحقيق، لأن عِلْم اللَّه سبحانه وتعالى محُقَّق، وليس للتَّقليل، وإنما جاءَت:{قَدْ يَعْلَمُ} دونَ: قد عَلِم، ليُفيد أن عِلْم اللَّه عز وجل مُستَمِرٌّ بهم من ذلك الوقتِ إلى اليَوْم، فإن اللَّه تعالى عالِمٌ بهم وبأحوالهم وتَقلُّباتهم.
وقوله عز وجل: {الْمُعَوِّقِينَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [المُثبَطين]، لأن المُثَبِّط يَعوق الإنسان المُثبَّط أَيْ: يَحول دونه ودون مُراده، وهو ما يُسَمَّى عند الفُقَهاء رحمهم الله بـ (المُخَذِّل) فالفُقَهاء رحمهم الله يَقولون في باب الجِهاد:"يَجِب على الإمام أن يَمنَع المُخَذِّل والمُرْجِف"، فالمُخذِّل الذي يُثبِّط العَزائِم يَقول: لا داعِيَ للجِهاد، وليس عندنا استِعدادٌ. وما أَشبَهَ ذلك، والمُرْجِف هو الذي يُرْهِب مِن الأعداء ويُخَوِّف مِنْهم، فيَقول: أَعداؤُكم كثيرون، وأسلِحَتُهم قويَّةٌ. وما أَشبَهَ ذلك.
يَقول تعالى: {الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} الخِطاب للنبيِّ عليه الصلاة والسلام والصَّحابة.
وقوله رحمه الله: [{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ} تَعالَوْا {إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} القتال
{إِلَّا قَلِيلًا} رِياءً وسُمْعةً] {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} : {وَالْقَائِلِينَ} مَعطوفةٌ على {الْمُعَوِّقِينَ} يَعنِي: يَعلَم القائِلين لإخوانهم: هلُمَّ إلينا. وهذا غيرُ التَّعويق؛ لأن المُعَوِّق هو الذي يَعرِض الشيء الذي يُعوّق الإنسان، لكن لا يَدْعوه، ولكن هؤلاءِ يَقولون لإخوانهم، فهو أَبلَغُ من التَّعويق.
وقوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} هذه غَير المُعوِّقين، فليس عَطْفَ صفةٍ، ولكنه عَطْف ذاتٍ، والأصلُ في التَّعاطُف أن يَكونَ لتَغَيُّر الذوات، وقد يَكون لِتَغيُّر الصِّفات، وقد يَكون لِتَغيُّر اللَّفظ، ومنه قولُه:
. . . . . . . . . . . . . . .
…
وَأَلْفَى قَوْلهَا كَذِبًا وَمَيْنًا
(1)
فمَا تَغيَّر المَعنَى، لكن تَغيَّر اللفظ.
وقوله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} هذا في المُنافِقين وسُمُّوا إخوانَهم في النَّسَب، وليسوا إخوانَهم في الدِّين اللهُمَّ إلَّا أن يُرَاد الأُخوَّة الظَّاهِرة، فإن هؤلاء يَتَظاهَرون بأنهم مُؤمِنون.
وقوله سبحانه وتعالى: [{هَلُمَّ} تَعالَوْا {إِلَيْنَا}] هَلُمَّ، هل هي فِعْل أَمْر أو اسْمُ فِعْل أمرٍ؛ اسمُ فعلِ أمير، لأن ليس كلُّ ما دل على الطلَب فهو فِعْل أَمْر، فالمَصدَر قد يَدُلُّ على الطلَب كما قُلت: ضَرْبًا زيدًا. لكن ما يَدُلُّ على الطلَب بذاته -يَعنِي: بغير أداة خارِجية- فإمَّا أن يَقبَل علامة فِعْلِ الأمر أو لا، فإن قبِلها فهو فِعْل أَمْر وإن لم يَقبَل فهو اسمُ فِعْل أمرٍ، أو قد يَكون مَصدَرًا نائِبًا عن الأمر، وقولنا:(بغَيْر أداةٍ خارجيةٍ) احتِرازًا من المُضارع المَقرونِ بلَام الأَمْر، فالمُضارع المَقرون بلام الأَمْر
(1)
البيت لعدي بن زيد العُبادي، انظر: طبقات فحول الشعراء لابن سلام (ص: 140)، الصحاح (6/ 2210).
يَدُلُّ على الأمر، لكن لا بذاته، بل بأداةٍ أُخرى خارِجية، وهي لام الأَمْر.
(هَلُمَّ) هنا اسمُ فِعْل أَمْر، فمثَلًا: عيسى نَقول له: هلمَّ إلينا! هلمَّ إلى الدَّرْس! وأَحمدُ وعِيسى جميعًا نَقول لهُما: هلُمَّ إلينا جميعًا. ونَضُمُّ إليهما زيدًا ونَقول: هلمَّ إلى الدَّرْس. فما تَغيَّر، مُفرَد ومُثنًّى وجَمْع.
أمَّا لو كنَّا نُخاطِب واحِدًا ونَقول: هلُمَّ إلينا. ونُخاطِب اثنين فَنَقول: هَلُمَّا إلينا. ونُخاطِب ثلاثة ونَقول: هَلُمُّوا هَلُمُّوا إلينا. لكان فِعْلَ أَمْر؛ ولهذا نَقول: قُمْ وقوموا، فهي إِذَنِ اسمُ فِعْل أَمْر تُخاطِب بها الواحِد والاثنين والجماعة ولا تَتَغيَّر، هذا على لُغةِ أهل الحِجاز.
أمَّا بنو تمَيمٍ فإنها عندهم فِعْلُ أمرٍ، ولهذا يَقولون للواحِد: هَلُمَّ إلينا. وللاثنين: هَلُمَّا إلينا. وللجماعة: هلُمُّوا إلينا. فالأَمْر هنا يَدُلُّنا على الاثنَيْن اسم فِعْل أمر، لأنها لو كانت فِعْلَ أمر لقال: هلُمُّوا إلينا.
قوله تعالى: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} يَعنِي: تعَالَوْا، هذا بالنِّسْبة لغيرهم، يَدْعون غيرَهم إلى تَرْك القِتال.
قال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} والقَليل هنا قد يَكون المُرَادُ به العدَمَ، وقد يَكون المُرادُ به الشيءَ اليَسيرَ القِلَّة، ويُمكِن أن يُراد به العدَمُ بالنسبة لقَوْم، والقِلَّة بالنِّسبة لآخَرين من المُنافِقين، لأن من المُنافِقين مَن لا يَحضُر القِتال أصلًا ومنهم مَن يَحضُر قليلًا للرِّياءِ والسُّمْعة، ومَعلوم أن مَن يُلاحِظ الرِّياء والسُّمعة فإنه إذا كان في محَلٍّ يَجِد الرِّياءَ والسُّمعة حضَر، وإذا كان في محَل لا يَجِد الرِّياء ولا السُّمْعة لم يَحضُر.
وما الفَرْق بين الرِّياء والسُّمْعة؟
الرِّياء يَعود إلى الأفعال، والسُّمْعة تَعود إلى الأقوال؛ لأن الأفعال تُرَى والأقوال تُسمَع؛ ولهذا جاء في الحديث:"مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ"
(1)
، فإذا تَكلَّم شَخْص بذِكْر ورفَع صَوْته، ليُسمَع ويُثْنَى عليه به، فنَصِفُ فِعْله بأنه سُمْعة، وإذا قام يُصلِّي؛ ليَراه الناس فهو رِياءٌ، وقد يُطلَق الرِّياء عليهما جميعًا، لكن عندما يَجتَمِعان يَكون الرِّياء يَتعلَّق بالأَفْعال والسُّمْعة بالأَقْوال، يَقول رحمه الله:[رِيِاءً وسُمْعةً].
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: إحاطة عِلْم اللَّه سبحانه وتعالى بكُلِّ شيء؛ لأن هذه مَسأَلة جُزئيَّة من العالَم فقَولُ هؤلاءِ: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} وتَعويقهم فَرْد من أفراد العالَم، جُزءٌ بَسيط لا يُنْسَب إلى العالَم، ومع ذلك يَعلَمه اللَّه سبحانه وتعالى، والعالِم بالدَّقيق عالِم بالجَليل من بابِ أَوْلى؛ ففيها إثبات إحاطة عِلْم اللَّه تعالى بكُلِّ شيء جُملةً وتَفصيلًا.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: ثُبُوت عِلْم اللَّه تعالى بالمُستَقبَل؛ لأنه جاءَت بصيغة المُضارع، ومنها التهديد والتَّحذير من التَّعويق عن القِتال، وجهُه قد يَعلَم اللَّه تعالى، وهذا من أَجْل تَهديدهم حتى لا يَفعَلوا ذلك.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: تَعاوُن المُنافِقين بعضِهم مع بعض، لقوله:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} ، وإذا كان كذلك فإن القائِلين تَكون عَطْفًا على المُعوِّقين من باب عَطْف الصِّفات،
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة، رقم (6499)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير اللَّه، رقم (2987)، من حديث جندب بن عبد اللَّه رضي الله عنه.
وذكَرْنا في التفسير أنه مُحْتَمَل أن تَكون عطفَ الصِّفات أو عطفَ الذوات، فإن كانت عطفَ الصِّفات صار المُعوِّقون هُمُ القائِلين، وإن كان عطفَ ذَوات صاروا قِسْمين؛ مُعَوِّق وقائِل، فالمُعوِّق قد يَدْعو وقد لا يَدْعو، ولكن على كل حال: هي في المُنافِقين؛ لأن آخِر الآية يُبطِل الاحتِمال الذي ذكَرْناه بأن تَكون في أَحَدٍ من المُؤمِنين.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن أُولئِك المُعوِّقين لغير هم هم بأنفسهم جُبَناءُ؛ لقوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} فهم جُبَناءُ ومخدَّرون مُرْجِفون.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن كلَّ إنسانٍ يُصَاحِب غيره ويَمتَزِج به؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} ، فإن هذه أُخوَّة في الشَّرِّ والنِّفاق، وليسَت في الإيمان.
* * *