المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (49) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (49) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

‌الآية (49)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 49].

* * *

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تَقدَّم لنا الكَلام على تَصْدير الخِطاب بمِثْل هذا النِّداءِ، وأنه يَدُلُّ على أهمِّيَّة المَوْضوع، وأنه يَدُلُّ على أن امتِثال ما سيَأتي من مُقتَضيات الإيمان وأن مخُالَفَته من نَواقِص الإيمان.

وقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} المُراد بالنِّكاح هنا العَقْد، والنِّكاح يُطلَق على العَقْد وعلى الجِماع؛ وذلك لأن أَصْله في اللغة العربية الضَّمُّ والجَمْع؛ لأن العَقْد يَضُمُّ الزوجَ إلى زَوْجته والزَّوْجة إلى زَوْجها، وهو يُطلَق بمَعنَى هذا وهذا، ولكنه إذا أُضِيف إلى أَجْنَبية فهو بمَعنَى العَقْد، وإذا أُضيف إلى زوجة فهو بمَعنَى الجِماع، فإذا قِيل: نكَحَ الرجُلُ زوجَتَه. أي: جامَعَها، وإذا قيل: نَكَحَ فُلَانة بنتَ فُلانٍ. المَعنَى: عَقَد عليها.

وهي في القُرآن بمَعنَى العَقْد، كلَّما جاءَتْ فهي بمَعنَى العَقْد، والغريب أن بعضَ أهلِ العِلْم رحمهم الله يَقول: لم تَأتِ بمَعنَى العَقْد إلَّا في هذه الآيةِ، وأنها في القُرآن جاءت بمَعنَى الجِماعِ.

ص: 355

ولكنَّ هذا ليس بصَواب، فالصَّواب العَكسُ وهو: أنها ما جاءَتْ في القُرآن إلَّا بمَعنَى العَقْد.

ونَستَعرِض الآياتِ الوارِدةَ في هذا؛ قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] المَعنَى: العَقْد، وفي قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] العَقْد، وفي قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] العَقْد.

وفي قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور: 3] العَقْد، فالزاني لا يَنكِح أَيْ: لا يَعقِد إلَّا على زانِية أو مُشرِكة، والزانية لا يَتزَوَّجها إلَّا زانٍ أو مُشرِكٌ، فقوله تبارك وتعالى:{لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال في آخِر الآية: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3]، فإذا كان نِكاح الزانية حَرامًا ونِكاح الزانِي حَرامًا، فإذا عَقَد على زانِية وهو حَرام: فإمَّا أن يَعتَقِد التحريم فيَكون زانِيًا؛ لأنه جامَعها وهو يَعتَقِد أنه حرام، وإمَّا ألَّا يَعتَقِد التَّحريم، ويَقول: هذا حَلال. فتَحليل ما حرَّم اللَّه تعالى شِرْك، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31]، هذا هو مَعنَى الآية التي لا تَحتَمِل سِواهُ، وهو الذي قرَّره شيخُ الإسلامِ

(1)

وابنُ القيِّم

(2)

رَحَمَهُمَا اللَّهُ.

مَسأَلة: إذا تَزوَّج الإنسانُ امرأةً ووجَد أنها قد جُومِعت من قبلُ فلا يَجِب عليه أن يُفارِقها إلَّا إذا عَلِم أنها لا تَزال على إِصْرارها، أمَّا إذا تابَت فَيَجوز أن يَتزَوَّجها.

وفي قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

(1)

انظر: مجموع الفتاوى (32/ 113)، والفتاوى الكبرى (3/ 178).

(2)

انظر: الصواعق المرسلة (2/ 572).

ص: 356

[البقرة: 230] العَقْد، لكن السُّنَّة بيَّنَت أَضافَت إلى هذا شَرْطًا آخَرَ وهو "أن يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا وتَذُوقَ عُسَيْلَتَهُ"

(1)

، وإلَّا فهو العَقْد، وهذا واضِح.

وفي قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَي مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] اعقدوا لهم.

المُهِمُّ: كلَّما جاءت في القُرآن فهي بمَعنَى العَقْد حتى في هذه الآيةِ، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} يَعنِي: مِن قَبْلِ أن تُجامِعوهن.

قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أَيْ: عقَدْتُم علَيْهِن.

وقوله تعالى: {الْمُؤْمِنَاتِ} بِناءً على الأغلَبِ أن الأغلَبَ أن المُؤمِن لا يَتزَوَّج إلَّا مُؤمِنةً، ولكن لو كانت يَهوديَّةً أو نصرانِيةً فالحُكْم لا يَختَلِف، فعلي هذا يَكون من باب الاقتِصار، وليس من باب الاختِصار؛ من باب الاقتِصار على أَحَد الصِّنْفين، وأمَّا الصِّنْف الآخَرُ؛ فلأنه قَليل بالنِّسبة إلى نِكاح المُؤمِنات.

وقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ولم يَقُلْ: وطلَّقْتُموهن أو فطَلَّقْتُموهنَّ؛ ليَتبيَّن به أنه لو تَأخَّر الطلاق عن العَقْد مُدَّة طويلة فالحُكْم لا يَتغَيَّر كما أنه لو طلَّقَها مُباشَرةً، فالحُكْم لا يَتغَيَّر أيضًا، فقوله تعالى:{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} أي: بَعْد العَقْد.

والطلاق في اللُّغة حَلُّ قَيْد البَعير ونحوِهِ، يَعني: حَلُّ القَيْد يُسمَّى طلاقًا، وهو اسمُ مَصدَرِ (طلَّقَ)، والمَصدَر من (طلَّق) تَطليقًا، مثل: كَلَّم والمَصدَر تَكليمًا، واسْمُ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الشهادات، باب شهادة المختبي، رقم (2639)، ومسلم: كتاب النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، رقم (1433)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 357

المَصدَر كَلَام، (طلَّقَ) المَصدَر تَطْلِيق، واسْمُ المَصدَر طَلَاق؛ فالطَّلاق إِذَن: هو حَلُّ القَيْد.

أمَّا في الاصطِلاح أو في الشَّرْع فطَلاق المَرأة مَعناه: حَلُّ قَيْد النِّكاح أو بعضِه، فإن كان الطلاق بائِنًا لا تَحِلُّ به الزوجة، فهو حَلٌّ لقَيْد النِّكاح مُطلَقًا، وإن كان رَجعِيًّا فهو حلٌّ لبَعْضه، إذ إنه يَجُوز له أن يُراجِع.

وقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} : {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي: مِن قَبْل أن تِجَامِعوهن، وهذا من باب الكِناية عمَّا يُسْتَقْبَح ذِكْره بما يَدُلُّ عليه؛ ولهذا لم يَأتِ الجِماع بلَفْظٍ صريح في القُرآن الكَريم، وإنما كُنِّيَ عنه في كل مَوضِع بما يَتَناسَب والمَقامَ، فمَرَّةً يُعَبَّر عنه بالإِتْيان، ومرَّةً بالإِفْضاء، ومرَّةً بالمَسِّ، ومرَّة بالمُلامَسة، وما أَشبَه ذلك، كل هذا من باب استِعْمال ما لا تَمُجُّه الأَسْماع من الكلِمات.

وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قال رحمه الله: [وَفي قِراءَةٍ: "تُمَاسُّوهُنَّ" أي: تُجامِعوهُنَّ] يَقول تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فما لَكُم: (ما) هذه نافِية، و {لَكُمْ} جارٌّ ومجَرور خبَرٌ مُقدَّم و {مِنْ} حَرْفُ جرٍّ زائِدٌ لمَعنًى زائِدٍ، وقد قُلنا: إنه حَرْفٌ زائدٌ زائِدٌ. وكلِمة (زائِدٌ) الثانية تَأسيس لا تَوكِيد، فهو حَرْفُ جرٍّ زائِدٌ لفظًا، لكنه يَزيد المَعنَى، (زائِد) الأُولى من (زادَ) اللازِم، و (زائِدٌ) الثانية من (زادَ) المُتعَدِّي، فإذا قُلت: زاد إيمان الرجُلِ. هذا لازِم، وإذا قُلت: زادَهُم إيمانًا. هذا مُتَعدٍّ، فنَقول: هذا حَرْفُ جَرٍّ (زائِدٌ) من (زادَ) اللازِمة، أو:(زائِدٌ) من (زادَ) المُتعَدِّي، يَعنِي: زائِدٌ بنَفْسه، زائِدٌ مَعنًى في غيره.

المُهِمُّ: أن قوله تعالى: {مِنْ عِدَّةٍ} : {مِنْ} حَرْفُ جَرٍّ زائِدٌ لفظًا لا مَعْنًى.

ص: 358

وقوله تعالى: {عِدَّةٍ} مُبتَدَأ مُؤخَّر مَرفوع بضَمَّة مُقدَّرة على آخِره منَعَ ظُهورَها اشتِغالُ المَحلِّ بحرَكة حَرْف الجرِّ الزائِدِ. ولو قال لنا قائِل: هل يَجوز أن نَجعَل (ما) هنا حِجازيةً؟

الجَوابُ: لا يَجوز؛ لأن خبرها مُقدَّم، وابنُ مالِك رحمه الله يَقول:

. . . . . . . . . . .

مَعَ بَقَا النَّفْي وَتَرْتِيبٍ زُكِنْ

(1)

قوله تبارك وتعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، قال المُفَسِّر رحمه الله:[تُحصُونها].

والعِدَّة في اللُّغة: اسمٌ مَأخوذ من العَدَد، ولكنَّها في الاصطِلاح أو الشَّرْع: تَربُّص مُفارَقةٍ في الحياة أو في المَمات محُدودٌ شَرْعًا.

وقوله تعالى: {تَعْتَدُّونَهَا} قال رحمه الله: [تُحصُونها بالأَقْراء وغيرِها]: [بالأَقْراء] إن كانت من ذَوات الأَقْراء، وعددُها ثلاثة قُروء، [وغيرِها] إن لم تَكُن من ذوات الأَقْراء وهُنَّ الحوامِلُ ومَن لا تَحيض لصِغَرٍ أو إِياسٍ، فالحامِلُ عِدَّتها وَضْعُ الحَمْل، ومَن لا تَحيض عِدَّتُها ثلاثة أَشهُرٍ.

قوله رحمه الله: [{فَمَتِّعُوهُنَّ} أَعطوهُنَّ ما يَسْتَمتِعْن به، أي: إن لم يُسَمَّ لهُنَّ أَصدِقة، وإلَّا فلَهُنَّ نِصْف المُسمَّى فقَطْ، قاله ابنُ عبَّاسٍ وعليه الشافِعيُّ].

وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} الفاء حَرْف عَطْف، و (مَتِّعوهن) أي: أَعطُوهُن ما يَستَمْتِعْن به من الدراهِم، ومن الثِّياب، ومن المَتاع، ومن العَقار، ومن أيِّ شيءٍ، فاللَّه عز وجل أَطلَقها، ثُمَّ إنَّها مُطْلَقةٌ من جِهةِ الكِمِّيَّة كما أنَّها مُطلَقة من جِهة النَّوْعيَّة

(1)

الألفية (ص: 20).

ص: 359

الكِمِّية، فإذا أَرَدْت أن أُعطِيَها دراهِمَ، فكما قال تعالى:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَي الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَي الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] أي: حَسَب حال الزَّوْج.

وقوله تبارك وتعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} بعدَ قوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} يُستَثْنى من ذلك مَن سُمِّيَ لها مَهْرٌ، فإنَّ مَن سُمِّيَ لها مَهْرٌ لا يَجِب لها إلَّا نِصْفُه؛ لقوله تبارك وتعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فبَيَّن اللَّه عز وجل أن لَهُنَّ نِصْفَ ما فرَضْنا، وهذا إذا سُمِّيَ لها المَهْرُ سواءٌ قلَّ أو كثُرَ.

قال رحمه الله: [{فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} خَلُّوا سَبيلَهُنَّ من غير إضرارٍ]، فأَمَرَ اللَّه عز وجل بأَمْرين:

1 -

التَّمتيع وهو بَذْل المال.

2 -

والسَّراح الجميل وهو بَذْل الخُلُق.

وذلك بأن تَكون المُفارَقة عن رِضًا، وبالقول اللَّيِّن الذي يَجبُر الخاطِر؛ لأن المَرأة إذا طُلِّقت بعد أن عُقِد عليها ولم يَدخُل بها لا شَكَّ أنه يَنكَسِر خاطِرها، وأنها تَتَأثَّر، وأن الناس سوف يَتكلَّمون: لماذا طُلِّقت قبل أن يَدخُل بها؟ ما هو السبَب؟ هل رأى فيها عَيْبًا؟ هل سمِع عنها بشيء؟ ولا سيَّما إذا كانت هي راغِبة أيضًا بالزوج ثُمَّ طلَّقَها من قَبْلِ أن يَتَّصِل بها، فإنه لا بُدَّ أن يَكون هناك ردودُ فِعْل في نَفْسها، فأَرْحَم الراحِمين سبحانه وتعالى أَمَرَنا أن نُمتِّعَهنَّ بالمال، وأن نُسرِّحَهنَّ سَراحًا جميلًا بالقول والمُعامَلة الطَّيِّبة.

وذلك مثل أن نَقول لها: هذا أَمْر لم يُقدَّر، وهذا أَمْرٌ أَرادَه اللَّه عز وجل، وأنا ما

ص: 360

فارَقْتُك لسُوء خُلُقك؛ أو لأني سمِعْت عنك ما يَسوءُ، أو ما أَشبَهَ ذلك من الكلام حتى تَنفَصِل منه وهي طَيِّبة النَّفْس مُنشَرِحة الصَّدْر، ثُمَّ بعد ذلك لا يَحصُل منها أو من أهلها كَلام؛ لأنه ربما إذا طلَّقَها ولم يُمتِّعها، أو مَتَّعَها بما دون ما تَستَحِقُّه، أو سرَّحها سَراحًا غيرَ جميل، ربما يَحصُل منها أو من أهلها كلام في الرَّجُل يَتكلَّمون فيه وفي عِرْضه وفي أَهْله، وما أَشبَهَ ذلك.

فهذا من آداب اللَّه عز وجل التي أَدَّب بها عِبادَه إذا طلَّق المرأة قبل المَسيس، فإن الواجِب عليه أمران: التَّمتيع بالمال، والسَّراح الجميل بالقَوْل والفِعْل وطلاقةِ الوَجْه وانبِساط القَلْب، وما أَشبَه ذلك.

وقد يَقول قائِل: كيف يُمكِن هذا والرجُلُ لم يُطلِّقها في هذه الحالِ إلَّا وهو كارِةٌ لها بلا شَكٍّ؛ ولو كان عِنده أَدْني محَبَّةٍ لكان دخَل بها وجامَعها، ونظَرَ ربما تَتَغيَّر الأمور، يَعنِي: لو كان زَهِد فيها بعضَ الزُّهْد لكان في قَلْبه محَبَّة لها هل يُغَامِر ويُطلِّقها من قَبلِ أن يُجامِع، العَقْل لا يَقْتَضي ذلك، يَقتَضي أن تَنتَظِر وتُجامِعها لأنه رُبَّما تَغيَّرت الأمورُ.

ومِن ثَمَّ نُهِيَ عن الطلاق في الحَيْض؛ لأن الإنسان إذا كانت امرَأَتُه حائِضًا فإنه لا يُجامِعها، لكن فيَبقَى كارِهًا لها، ولا يُوجَد هناك سبَبٌ يَدعو إلى المَحبَّة وهو الجِماع؛ فلهذا نُهِيَ عنه.

فهذه من الحِكَم في النَّهي عن الطلاق في الحَيْض، وليسَتْ هي الحِكْمةَ الوحيدةَ {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .

ص: 361

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أَهمِّيَّة النِّكاح والطلاق؛ لأن اللَّه تعالى صَدَّره بالنِّداء الذي يُطلَب به تَنبُّه المُنادَى لمَا سيُلقَى عليه.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن التِزام أحكام الشريعة في النِّكاح والطلاق من مُقتَضيات الإيمان؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، فإن هذا من مُقتَضاه إِيمانُهم أن يَمتَثِلوا لمَا أُمِروا به.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنه لا طَلاقَ قبل النِّكاح؛ لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ} و (ثُمَّ) للتَّرْتيب، فلا طلاقَ قَبْل النِّكاح، ولا فَرْقَ في ذلك بين أن يَكون الطلاق لمُعيَّنةٍ أو على سبيل العُموم، فلو قال رجُل لامرأةٍ: إن تَزوَّجْتُكِ فأنتِ طالِقٌ. ثُمَّ تَزوَّجها فإنها لا تَطلُق؛ لأن الطلاق كان قبلَ النِّكاح، وكذلك لو قال: كلُّ امرأةٍ أَتزَوَّجها فهي طالِق. فإنه إذا تَزوَّج امرأةً لا تَطْلُق؛ لأنه لا طلاقَ إلَّا بعد النِّكاح.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنه لا إِيلاءَ ولا ظِهارَ ولا تَحريمَ على امرأة إلَّا بعد النِّكاح؛ لأنه إذا كان الطلاق وهو أَعظَمُ فُرْقةً من الظِّهار والإِيلاء وما أَشبَهَه لا يَكون إلَّا بعد النِّكاح، فكذلك ما دُونَه، إلَّا أنَّ التحريم إذا حرَّم الرجُل امرأةً مُعيَّنة ثُمَّ تَزوَّجها بعد ذلك، فإن عليه كفَّارة يَمين، وكذلك الظِّهار إذا قصَد به التَّحريم وظاهَرَ منِ امرأة قَبْل أن يَتزوَّجَها، فإن عليه كفارةَ يمينٍ، وليس عليه كفَّارةُ ظِهار؛ لأن الظَّهار لا يَصِحُّ إلَّا من زَوْجة.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: جَواز الطَّلاق؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ، وَلَمْ يَلُمِ اللَّه تعالى المُؤمِنين على الطلاق ولو كان حَرامًا لَلَامَهُم عليه.

ص: 362

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: جَوازُ الطَّلاق قبل المَسيس؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} وهذه فائِدة غير فائِدة: جَواز الطلاق مُطلَقًا؛ لأن الطلاق قبل المَسيس قد يَكون فيه شيءٌ من من غَضِّ حَقِّ المَرأة، فيُقال: هذا الرجُلُ لولا أنه عَلِم بأن فيها بَلاءً ما طلَّقَها قبل أن يَدخُل بها ويَمَسَّها، لأن العادة أنَّ الإنسان إذا تَزوَّج فإنما يَتزوَّج عن رَغبةٍ، فإذا طلَّقها قبل أن يَمَسَّها فهو دليلٌ على أن فيها شَيْئًا.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنه إذا طلَّقها قبل الجِماع فلا عِدَّةَ عليها، وهذا فيه خِلَافٌ؛ فإنَّ بعض أهل العِلْم رحمهم الله وهُمُ الجُمهور على أنه إذا خلا بها، فإن عَلَيْها العِدَّةَ فجعَلوا الخَلْوة بمَنزِلة الجِماع، وهذا هو الذي قضَى به الخُلَفاءُ الراشِدون

(1)

، وعليه جُمهور الصحابة رضي الله عنهم، بل جُمهور الأُمَّة، ولم يُخالِف في ذلك إلَّا نفَرٌ قليل منهم الإمامُ الشافِعيُّ

(2)

رحمه الله في قوله الجَديد، فإنه رأَى أنه إذا لم يُجَامِعْها فلا عِدَّةَ عليها، ولو خلا بها.

ولا شَكَّ أن هذا هو ظاهِر الآية، لكن الوارِد عن الصحابة رضي الله عنهم ولا سِيَّما الخُلَفاءُ الراشِدون يَثبُت بأن عليها العِدَّة إذا خلا بها.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: وُجُوب المُتْعة على مَن طلَّق قبل الدُّخول؛ تُؤْخَذ من قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} ، وهذا مُقَيَّد بالآية الأُخرى، وهي ما إذا فرَضَ لها فريضةً، فإنها إذا فرَضَ لها مَهرًا فليس عليه إلَّا نِصْف المَهْر؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237].

(1)

أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 288)، وسعيد بن منصور في سننه رقم (762)، وابن أبي شيبة (9/ 206)، والبيهقي (7/ 255).

(2)

الأم (6/ 545 - 546)، ونهاية المطلب (15/ 193).

ص: 363

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: التَّكْنية عمَّا يُسْتَحْيا من ذِكْره؛ لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} .

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أن المُعتَدَّةَ من وَفَاةٍ عليها العِدَّةُ مُطلَقة، وإن لم يَدخُل بها؛ تُؤخَذ من قوله تعالى:{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} ، فجعَل اللَّه تعالى هذا الحُكْمَ في الطلاق، فيَبقَى قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، يَبقَى على إطلاقه أن المُتوفَّى عنها تَجِب عليها العِدَّةُ وإن لم يَدخُل بها.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: رحمةُ اللَّه سبحانه وتعالى بعِباده وخَلْقه؛ حيثُ أَوْجَب المُتْعةَ على مَن طُلِّقَت قبلَ الدُّخول، وجهُ ذلك: أن فيه جَبْرًا لخاطِرها وإزالةً لِلْهَمِّ والغَمِّ الذي اعتَراها بعد الطلاق.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: وُجُوب التَّسريح الجميل في المُفارَقة؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} .

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أن العدَّة حَقٌّ للزوج وجهُهُ قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ} فهي حقٌّ للزَّوْج على المرأة.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: ممَّا يَنبَغِي أن يُحْصِيَ الإنسان عِدَّة زَوْجته، ويَعتَنيَ بها، ولا يَدَعها همَلًا لا يَدرِي عنها؛ لقوله تعالى:{تَعْتَدُّونَهَا} ، فإن هذا دليلٌ على أن مِن شأنِ الأزواج أن يَعتَدُّوا عِدَّةَ أزواجِهنَّ وأن يُحصوها ويُراقِبوها؛ لأنها فِراشٌ له ما دامت في العِدَّة إذا كانت رَجْعية.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: لا يُؤخَذ من مَفهوم قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} أنه إذا نَكَحوا الكِتابِيَّات تَغيَّر الحُكْم؛ لأن هذا قَيْدٌ أَغلَبيٌّ، وقد ذكَرَ

ص: 364

أهل العِلْم في الأُصول أن ما كان قَيْدًا أَغلَبيًّا فإنه لا مَفهومَ له، تُؤخَذ من قوله تعالى:{الْمُؤْمِنَاتِ} ؛ لأن هذا الحُكْمَ شامِل للمُؤمِنات ولغَيْرِهن.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أنه لا عِدَّةَ في الطلاق بعد الدُّخول ولو طالَتِ المُدَّةُ؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} .

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أن الطَّلاق بيَدِ الزوج؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} فلا يَملِك الأبُ ولا الجَدُّ ولا العَمُّ ولا الخالُ ولا غيرُهم أن يُطلِّقوا على الإنسان.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنةَ عَشْرَةَ: أنه لا عِدَّةَ لغَيْر المُطلَّقة كالمَفسوخة بِخُلْع أو غيره؛ وهذه الفائِدةُ قد لا تَكون إلى ذاك الظُّهورِ إلَّا أن القول الراجِح إلَّا أن المُفارَقة بغير الطلاق ليس عليها عِدَّة؛ ثم إن المُختَلِعة إنما تُسْتَبْرَأ بِحَيضة ثُم تَحِلُّ.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: الجَمْع بين الإحسان المالي والفِعْلي؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} هذا الإحسانُ الماليُّ، وقوله تعالى:{سَرَاحًا جَمِيلًا} وهذا الإحسان الفِعْليُّ.

الْفَائِدَةُ العِشْرُون: يُستَثْنى من الآية مَن فُرِض لها فَريضةٌ فلها نِصْف الفَريضة، وليس على الزَّوْج مُتْعة.

* * *

ص: 365