المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (50) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (50) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا

‌الآية (50)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50].

* * *

ثُمَّ قال اللَّه عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [مُهورَهُن].

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} مِثْل: هذه الصِّيغة تَدُلُّ على تَعظيم المُخاطَب حيثُ وُجِّه إليه الخِطاب بالنِّداء؛ هذا من وجهٍ. ومن وجهٍ آخَرَ أنه وُصِف بالنُّبوَّة: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} ، ففي ذلك تَعظيم وتَفخيم لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} : {أَحْلَلْنَا} أي: جَعَلْناهن حِلًّا لك.

وهل المُرادُ أَزْواجك اللاتي تُريد أن تَتَزوَّج بهِنَّ؟ أو المُراد أزواجُك اللاتي تَزوَّجت بهن؟

ص: 366

الجَوابُ: في هذا قَوْلان لأَهْل العِلْم رحمه الله:

فمِنهم مَن قال: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} يَعنِي: أزواجَك اللَّاتِي تُريد أن تَتَزوَّج بهِنَّ وتُؤتِيَهنَّ أُجُورهَن.

وحُجَّةُ هَؤلاءِ: أننا لو حَمَلْناها على مَن تَزوَّج بهن لكان ذلك من باب تَحصيل الحاصِل؛ لأنه إذا كانَتِ الزوجة معَه وقد أقرَّه اللَّه تعالى عليه فلا حاجةَ إلى أن يَقول: إنا أَحْلَلْنا لك؛ لأنهن عِنده مُتزَوَّج بهِنَّ.

والقول الثاني: أن المُراد أَحْلَلْنا لك أزواجك اللاتي تَزوَّجْت بهِنَّ؛ بدليل قوله تعالى: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} ، وهذا القولُ الثاني هو المُوافِق لظاهِر الآية؛ لأن قوله تعالى:{آتَيْتَ} فِعْلٌ ماضٍ؛ وعلى القول الأوَّل يَجِب أن نُؤوِّل الفِعْل الماضِي بالفِعْل المُضارع، يَعنِي: اللاتي تُؤتِي أُجورَهُن وهذا خِلاف ظاهِر الآية.

ويجاب عمَّا أُيَّد به أولئِكَ قولهم: أنه إذا كان المُرادُ الزوجاتِ اللاتِي في حِبالِه، فإن ذِكْر الإحلال من باب تَحصيل الحاصِل.

ويُجاب على هذا: بأن ذِكْر الإحلال من باب التَّوْكيد، ومَعناهُ: أن هؤلاءِ حلالٌ لك ليس فِيهنَّ شُبْهة، وليس فِيهنَّ مُعارضةٌ.

ويُمكِن أن يَكون للامتِنان، لكن الظُّهور دَفْع ما يُمكِن أن يُوجَّه إليه من لَوْمٍ.

قوله تبارك وتعالى: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} : {آتَيْتَ} بمَعنَى: أَعطَيْت، وأمَّا (أَتيتَ) بغير مَا فهي بمَعنى: جِئْت، يَقول المُفَسِّر رحمه الله: أي: [مُهورَهُن]، وسُمِّيَ المَهرُ أجرًا؛ لأنه عِوَضٌ عن الانتِفاع بالزوجة والاستِمْتاع بها، وليس عِوَضًا عن ذاتها، ولو كان عِوَضًا عن ذاتها لسُمِّيَ ثمنًا، لكنه عِوَضُ الاستِمْتاع بها والانتِفاع بها؛ ولهذا سُمِّيَ أُجْرة.

ص: 367

وقوله تعالى: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إذا كانت (آتَيْتَ) بمَعنَى: أَعطَيْت، فهي تَنصِب مَفعولَيْن، المَفعول الأوَّل محَذوف، والتَّقدير: آتَيْتَهنَّ، و {أُجُورَهُنَّ} هو المَفعول الثاني، وجائِزٌ حَذْف المَفعول مع العِلْم به.

وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} الواو حَرْف عَطْف، و (ما) مَعطوفة على قوله تعالى:{أَزْوَاجَكَ} : وأَحْلَلْنا لك ما مَلَكَتْ يَمينُك، أي: ملَكْتَ ذاتَه أو الانتِفاع به؛ ومَلْك الذات يَستَلزِم مَلْك المَنافِع؛ لأنَّ مَن مَلَك شيئًا ملَكَ مَنافِعَه، ومَن مَلَك المَنافِع لم يَلزَم أن يَملِك الأعيان أو الذات.

وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} يَمينك ويَداك وما أَشبَه ذلك يُعبَّر بها عن الذاتِ؛ لأنها غالِبًا وَسيلة الأَخْذ والإعطاء، فقوله تعالى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} يَعنِي: بما كَسَبْتم، وقوله تعالى:{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي: ممَّا ملَكْتَ، لكنَّه عبَّر باليمين عن الذات؛ لأن الغالِب أن الأَخْذ والإعطاء هنا باليَد، واليَمين أَشرَفُ من اليَسار، فهي الَّتي يُؤخَذ ويُعْطَى بها.

وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} : (مِنْ) هذه بَيانِيَّةٌ وما هو المُبَيَّن؟ المُبيَّن اسمُ المَوْصول -واسمُ الشَّرْط واسمُ الاستِفْهام كلُّها من الأشياءِ المُبهَمة فيَأتي البَيان بعدَها-؛ فقوله: (مِن) بيان (ما) في قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [مِن الكُفَّار بالسَّبْي](أَفاءَ) بمَعنَى: رَدَّ، ومنه الفَيْءُ، وهو الظِّلُّ بعد الشَّمْس؛ لأنه رجَع بعد أن نَسَخْته الشمس، فصار ظِلًّا كما هو الحالُ قبل أن تَأتِيَه الشمس.

وقوله تعالى: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} المُراد به هنا الغَنيمة؛ لأن الغَنيمة في الحَقيقة

ص: 368

ردٌّ للمال من غير أهله إلى أهله، فإننا نحن -المُسلِمين- المُستَحِقُّون حَقًّا لمِا رزَقَ اللَّه تعالى الخَلْق، والكُفَّار يَستَمْتِعون به على وَجهِ الظُّلْم؛ ولهذا يُؤاخَذون به، وقد تَقَدَّم أن الكُفَّار يُحَاسَبون على الأكل والشُّرْب واللِّباس، وذكَرْنا في ذلك دليلًا من القرآن، قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32]، فهذه فيها اللِّباس، والأَكْل {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ، و {لِلَّذِينَ آمَنُوا} هذه اللَّامُ للإِباحة والاستِحْقاق {خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} للمُؤمِنين، أمَا أُولَئِك فلَيْست لهم ولَيْسَت خالِصةً لهم يوم القيامة، فهي في الدنيا حرامٌ عليهم، ويُحاسَبون عليها يوم القِيامة.

والآيةُ التي فيها الدَّليل على أن الأَكْل والشُّرْب حرامٌ على الكُفَّار هي قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} مَفهومُهُ: أن الذين لم يُؤمِنوا ولم يَعمَلوا الصالحِاتِ عليهم جُناحٌ فيما طعِموا.

إِذَنْ: بهذا يَتبيَّن وجهُ كون الغَنيمة فَيْئًا، والفَيْءُ بمَعنَى: الرجوع والردِّ؛ فلهذا يَكون المال الذي بأَيْدي الكُفَّار إذا غنِمَه المُسلِمون فقد عاد إلى أهله، كأنهم يَأخُذون المال بغير حَقٍّ، فإذا أَخَذْناه منهم عاد إلى مُستَحِقِّه.

وقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} قال رحمه الله: [مِن الكُفَّار بالسَّبْي كصَفِيَّةَ وجُوَيْريةَ]، وصَفيَّةُ من سَبايا خَيبرَ، وجُوَيْريةُ من سَبايا غزوةِ بَني المُصطَلِق، وهُما من أُمَّهات المُؤمِنين.

وقوله تعالى: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} ظاهِرُه أن ما ملَكَتْ يَمِينه من غير ذلك لا تَحِلُّ له، ولكنه غَيرُ مُراد، بدليل أن مارِيةَ القِبْطيةَ استَحَلَّها النبيُّ عليه الصلاة والسلام،

ص: 369

وأَتَتْ منه بولَدٍ

(1)

، وكانتا -صَفيةُ

(2)

وجُوَيْريةُ

(3)

- من مِلْك اليَمين أوَّلًا، ثُمَّ أَعتَقَهُنَّ وتَزَوَّجهن.

وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [بخِلاف مَن لَمْ يُهاجِرْن].

وهؤلاءِ الأَرْبعُ هُنَّ الحَلائِلُ من الأقارِب، وما عَداهُنَّ من الأقارِب فحَرام كما في سُورة النِّساء، فصار الأقارِبُ الآنَ محُلَّلاتٍ ومحُرَّماتٍ، أمَّا المُحرَّماتُ فما ذُكِرْن في سورة النِّساء في قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23]، وهُنَّ سَبعْ، والمُحلَّلات من الأقارِب أَربَعٌ: بناتُ العَمِّ يَعنِي: وإن نزَلْنَ، وبناتُ العَمَّة وإن نزَلْن، وبناتُ الخالِ وإن نزَلْن، وبناتُ الخالةِ وإن نزَلْن، هؤلاءِ كُلُّهن حلالٌ.

وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ} تَكلَّم المُفسِّرون على قوله: بنات عمِّك وعمَّاتك وخالِك وخالاتِك؛ فقالوا: لمَّا أَفرَد في الذُّكور وجَمَع في الإناث، فقال في الذُّكور: عَمِّك وخالِك. وفي الإناث قال: عمَّاتِك وخالاتِك. فقال بعضُهم: إن هذا من باب التَّشريف؛ الذكورة كأن الواحِدُ يُقابِله من النِّساء جَمعْ، وإلى هذا ذهَبَ ابنُ كثيرٍ

(4)

رحمه الله.

(1)

انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 212)، والمستدرك للحاكم (4/ 38).

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب ما يذكر في الفخذ، رقم (371)، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته، رقم (1365)، من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري: كتاب العتق، باب من ملك من العرب رقيقًا، رقم (2541)، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، رقم (1730)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(4)

تفسير ابن كثير (6/ 391).

ص: 370

وقال بعضُهم: أنه لمَّا كان لَفْظ العَمِّ والخالِ كلَفْظ المَصدَر صار الأنسَبُ ألَّا يُجمَع؛ لأن المَعروف أن المَصادِر لا تُجمَع ولا تُثنَّى، لكن هذا في النَّفْس منه شيء.

والأقرَبُ: ما ذكَرَه ابنُ كَثير رحمه الله أن قوة صِلة العَمِّ بالإنسان أَقوى من قُوَّة صِلة العَمَّة به؛ فلهذا جُمِع، وإلَّا فمِن المعلوم أن الإنسان له أعمام وليس له عَمٌّ واحِد فقَطْ، وبناتُ أَعْمامه كلُّهن حَلال.

وقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} فيه زِيادة قَيْد بالنِّسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله تعالى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} يَعنِي: هاجَرْن من مكَّةَ إلى المدينة، وسواءٌ كُنَّ في مَعِيَّته مُباشَرة أو في مَعِيَّته بالمَعنَى، أي: بالِهجرة، فليس بلازِمٍ أن تَكون بنتُ العَمِّ أو بِنتُ الخالِ مع الرسولِ صلى الله عليه وسلم مُباشَرة يَعنِي: تَسير معه، بل لو هاجَرَت قَبلَه أو بعدَه فهي داخِلة في هذا.

قال رحمه الله: [{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} يَطلُب نِكاحها غير صَداق {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} النِّكاح بلَفْظ الهِبَة من غير صَداق]، يَعنِي: الخالِص هو النِّكاح {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} إلخ.

قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} يَعنِي: وأَحْلَلْنا لك امرأةً مُؤمِنةً، وهذا نَكِرة في سِياق الإثبات، والمَعروف أن النَّكرة في سِياق الإِثْبات لا تَقتَضي العُموم، لكن لمَّا كان السِّياق سِياقَ مِنَّة صارَتْ للعُموم، والأصل في النَّكِرة ألَّا تَعُمَّ إذا كانت في سِياق الإثبات، فإذا قُلْت لك: اضْرِبْ رجُلًا. ليس مَعناها أَنِّي آمُرك أن تَضرِب جميعَ الرِّجال، لكن إذا كانتِ النَّكِرة في سِياق الإثبات يُراد بها الامتِناع صارت للعُموم؛ لأنها لو قُيِّدت بالواحِدة لم تَكْمُلْ بها المِنَّة، فلا تَكمُلُ المِنَّة إلَّا إذا كانت يُراد بها العُمومُ.

ص: 371

إِذَنْ: نَقول: قوله: (امرأةً) وإن كانت صِياغتها صيغة الواحِد، لكن المُراد بها العُموم، لأنها سِيقت للامتِنان، والامتِنان بالواحِدة لا يَكْمُل إلَّا إذا كانت امتِنانًا بكل فَرْد من أفراد هذه النَّكِرة.

إِذَنْ: يَكون معني الآية: وأَحلَلْنا لك أيَّ امرأة، وقوله تعالى:{مُؤْمِنَةً} هذا قَيْد يَخرُج به غير المُؤمِنة ولو كانت كِتابيَّةً، فإنها لا تَحِلُّ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ذهَبَ بعضُ العُلَماء رحمهم الله إلى أنَّ من خَصائِص النبي صلى الله عليه وسلم في النِّكاح ألَّا يَتزَوَّج امرأةً كِتابيةً، وهذا لم يَقَعْ، لم يَقَعْ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تَزوَّج امرأةً كِتابيةً.

ومن المَعلوم أن من خَصائص الرسول صلى الله عليه وسلم في النِّكاح ما هو تَوسِعة وما هو تَضييق، فالتَّوْسِعة النِّكاح بالِهبَة والتَّزوُّج بأكثَرَ من أربعٍ، والتَّضييق أنه لا يَحِلُّ له من بنات عمِّه وبنات عَمَّاته وبنات خاله وبنات خالاته إلَّا مَن هاجَرْن معَه.

وكذلك على القولِ الراجِح أنه بعد تَخيير النبيِّ صلى الله عليه وسلم لزوجاتِه لا يَحِلُّ له النِّساء، كما سيَأتي إن شاء اللَّه تعالى.

قوله تعالى: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وهَبَت هي بدون وَليِّها، وهَبَت نفْسَها أي: أَعطَتْها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بلا عِوَضٍ؛ لأن الهِبة تَعريفها: بَذْلُ المال بدون عِوَض. فمَعنَى {وَهَبَتْ نَفْسَهَا} يَعنِي: جاءت للرسول عليه الصلاة والسلام وقالت له: قد وهَبْتُ نَفْسي لكَ. فتَحِلُّ له، لكن لمَّا كان الرسول عليه الصلاة والسلام مخُيَّرًا في ذلك، وليس واجِبًا عليه أن يَقبَل قال تعالى:{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ، وهذا الشَّرْطُ داخِل في الشَّرْط الأوَّل؛ وقد عَلِم أن الشَّرْط الثانيَ قَيْد في الشَّرْط الأوَّل، فهو مُتأخِّر لفظًا مُتقَدِّم مَعنًى؛ وكُلَّما تَداخَلَتِ الشروط فاجعَلِ الشَّرْطَ الأخيرَ قَيْدًا فيما قبلَه فهو مُتأخِّر رُتْبةً، لكنْ مُتَقدِّمٌ مَعنًى؛ فإذا تَعدَّدَتِ الشروط (إِنِ) الشَّرْطية أو (إذا) أو ما أَشبَه، فإن

ص: 372

الشَّرْط الأخير يَكون شَرْطًا فيما قبلَه، فيَكون مُتأخِّرًا لفظًا مُتقدِّمًا مَعنًى ورُتبة، مثَلًا إذا قلت: أَخْبِرني إذا ضرَبَك زيدٌ إن ظَلَمَكَ. صار الظُّلْم سابِقًا على الضَّرْب، وإن كان مُتأخِّرًا عنه في الذِّكْر، ويَتَّضِح ذلك تمامًا في قول الشاعِر:

إِنْ تَسْتَغِيثُوا بِنَا إِنْ تُذْعَرُوا تَجِدُوا

مِنَّا مَعَاقِلَ عِزٍّ زَانَهَا كَرَمُ

(1)

فالشَّرْط الأوَّلُ: (إِنْ تَستَغِيثُوا)، والثاني:(إِنْ تُذْعَرُوا)، والشَّرْط الثاني مُتأخِّر عن الأوَّل في اللفظ، لكن مُتَقدِّم عنه في المعنى والرُّتْبة؛ لأن الذُّعْر سابِق على الاستِغاثة.

وهذه قاعِدة: كلَّما تَعدَّدَتِ الشروط فإن الشَّرْط الثاني سابِق على الشَّرْط الأوَّل، أو على الشَّرْط الذي قَبْله لو تَعدَّدَت؛ ولو كانت ثلاثة شروط أو أربعة شروط فالثاني سابِقٌ لقَبْله، فإذا كانت ثَلاثة شُروط فالثالِثُ سابِق على الثاني، والثاني سابِق على الأوَّلِ، يَعنِي: بالعكس.

وهنا قال تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ} الإرادةُ تَسبِق الحِلَّ والقَبول؛ ولهذا قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ، وفائِدة هذا الشَّرْطِ أنه لمَّا كان ردُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للمَرأة إذا وهَبَت نَفْسها النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا كان أمرًا شديدًا وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أشدَّ الناس حَياءً كان عَرْض المَرأةِ نَفْسَها على الرسول صلى الله عليه وسلم قد يَكون شِبهَ مُلزِم له بمُقتَضى خُلُقه، فلمَّا كان كذلك فتَحَ اللَّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم البابَ على مِصراعَيْه؛ حيث أَثبَتَ له الإرادة والتَّخيير في هذه الحالِ، فقال تعالى:{إِنْ أَرَادَ} .

(1)

غير منسوب، وانظره في: شرح الكافية الشافية (3/ 1614)، ومغني اللبيب (ص: 801)، وهمع الهوامع (2/ 564).

ص: 373

إِذَن: فما فائِدة ذِكْر الإرادة مع أن المَوْهوب له إن شاء قَبِلَ الهِبَة، وإن شاء لم يَقبَل؛ يَعنِي: هذا أَمْر مَعلوم؟

الجَوابُ: الفائِدة من قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} ؛ لِئَلَّا يُلزِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم نَفسَه قَبولَ الهِبَة لمِا عُلِمَ من خُلُقه صلى الله عليه وسلم أنه أَشَدُّ الناس حَياءً، ومَعلوم أن رَدَّ الإِنْسان هِبة المَرأة نَفْسها له أَمْر صَعْب، كيف امرأةٌ تَهَبُ نفسَها لك، وتَأتي راغِبة فيكَ أشَدَّ الرَّغبة، بحيث إنها فَدَتْك بنفسها، فكيف ترُدُّها؟ ! هذا أَمْر فيه صُعوبة في الواقِع، وقد يَكون ردُّها مُنافيًا للمُروءة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدُّ الناس حِرصًا على المُروءة وأشَدُّ الناس حَياءً في مِثْل هذه الأمورِ، لكن اللَّه تعالى أَراد أن يَفتَح له الباب حتى لا يَعتَرِض أحَدٌ أو يَقول قائِل: كيف رَدَّها؟ ! ويَكون الرسولُ صلى الله عليه وسلم أَعطاها الحُرِّيَّة الكامِلة في ذلك في قَبولها أو رَدِّها.

قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} قال المُفَسِّر رحمه الله: [يَطلُب نِكاحها] والصوابُ: يُوافِق على نِكاحها؛ لأنه مَطلوب، والصَّواب: أن المُراد أن يَستَنكِحها، أَيْ: أن يَقبَل نِكاحها.

قوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، قوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ} يُحتَمَل أن تَكون صِفةً لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} ، ويُحتَمَل أن تَكون مَفعولًا لفِعْل محَذوف، والتقديرُ: جعَلْناها خالِصةً لك، أي: هذه الشَّريعة أو هذه الشِّرْعة جعَلْناها خالِصةً لك، والخالِص من الشيء هو الذي لا يُخالِطه غيرُه، فمَعنَى {خَالِصَةً لَكَ} يَعنِي: لا يُشارِكك أحَدٌ فيها، فيما إذا وهَبَتِ امرأةٌ نَفْسها لأحَد، فإنها لا تَحِلُّ له.

وهلِ المُراد بالخالِص هنا أن يَتَزوَّج بلا مَهْرٍ ولا وَليٍّ، أو أن يَقَع ذلك بلَفْظ الهِبَة؟

ص: 374

الجَوابُ: الصحيح الأوَّلُ: أن الخالِص أن يَكون ذلك بلا مَهْرٍ ولا وَليٍّ ولا شُروطٍ على القول باشتِراط الشُّروط؛ لأن الهِبة هي التَّبرُّع بلا عِوضٍ، فالمَقصود: المَعنَى لا اللَّفْظ، يَعنِي: أن الذي اختُصَّ به الرسولُ عليه الصلاة والسلام هو أن المَرأةَ تَأتي إليه وتَقول: وهَبْت نَفْسي لك. ويَأخُذها، وهذا قد وقَعَ فِعْلًا أكثَرَ من مرَّة، تَأتِي النِّساء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويَهَبْنَ أَنفُسَهنَّ له، فالخالِص للرسول صلى الله عليه وسلم والخاصُّ به هو أن يَكون النِّكاح مَجَّانًا بلا وليٍّ ولا شُروطٍ.

وأمَّا الِهبَة فإن العُلَماء رحمهم الله اختَلَفوا: هل يَصِحُّ النِّكاح بلَفْظ الِهبَة مثل أن أَقول: وهَبْتُك بِنْتي على صَداق قَدْره كذا وكذا، أو مَلَّكْتُكَ بِنْتي على صَداق قدرُهُ كذا وكذا. اختَلَف فيه العُلماءُ رحمهم الله على قولين: مِنهم مَن يَرَى أنه لا يَصِحُّ، وأنه لا بُدَّ أن يَكون عَقْد النِّكاح بلَفْظ التَّزويج أو بلَفْظ الإِنْكاح، ومنهم مَن يَرى أنه يَصِحُّ، وهذا له مَحلٌّ آخَرُ.

وقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} : {دُونِ} بمَعنَى: سِوى، أي: مِن سِواهم، والمَعنَى: أن المُؤمِنين لا يَحِلُّ لهم ذلك، والكافِرون من بابِ أَوْلى، فإن الكافِر لا يَحِلُّ له أن يَتَزوَّج بالِهبة وكذلك المُؤمِن.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} النِّكاح بلَفْظ الِهبَة من غير صَداق هذا خاصٌّ للرَّسول صلى الله عليه وسلم من دون المُؤمِنين].

وقوله رحمه الله: [{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي: المُؤمِنين {فِي أَزْوَاجِهِمْ} مِن الأَحكام]{قَدْ عَلِمْنَا} : {قَدْ} هذه للتَّحقيق، وقد قيل: إن {قَدْ} إذا دخَلَت على الماضِي فهي للتَّحقيق، وإن دخَلَتْ على المُضارع فهي للتَّقليل، وقد يُراد بها التَّحقيقُ، فإن قُلت: قد قُمْت. فهذا للتَّحقيق، وإن قُلْت: قد يَجود البَخيل وقد

ص: 375

يَصدُق الكذَّاب. فهذا للتَّقليل، لكن تَأتي للتَّحقيق في مثل قوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [النور: 64]، وقوله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب: 18]، هذه لا شَكَّ أنها للتَّحقيق.

وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} ، يَعنِي: أننا قد فرَضْنا عليهم أشياءَ، وعلِمْنا أن المَصلَحة تَقتَضي ما فرَضْنا دون سِواه، فليس المُراد بالآية مجُرَّدَ العِلْم أو مجُرَّد الإخبار بأن اللَّه تعالى قد عَلِم ما فرَضَ؛ لأن كون اللَّه تعالى قد عَلِم ما فرَضَ أَمْرٌ مَعلوم، فإن كون اللَّه تعالى فرَضه مَعلوم أنه صادِر عن عِلْم، لكن المُراد أن ما فرَضْناه قد صدَر عن عِلْم منَّا بما يُناسِبهم في أزواجهم، وليس عن جَهْل؛ ولهذا قال تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} : {فَرَضْنَا} هنا بمَعنَى: أَوْجَبْنا عليهم؛ أي: على المُؤمِنين {فِي أَزْوَاجِهِمْ} من الأَحْكام.

قوله تعالى: {فِي أَزْوَاجِهِمْ} : (أزواج) جَمْع زَوْجة أو جَمْع زَوْج؛ قال المُفَسِّر رحمه الله: [مِن الأَحْكام بألَّا يَزيدوا عن أربَعِ نِسوةٍ، ولا يَتزَوَّجوا إلَّا بوَليٍّ وشُهود ومَهْر] وغير ذلك من الأشياءِ التي تُخالِف الأحكامَ الثابِتة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خُصَّ بالنِّكاح بأَحكام، وخُصَّ المُؤمِنون بأحكام، وكلُّ ذلك عن عِلْم من اللَّه سبحانه وتعالى وعن حِكْمة.

وقول المُفَسِّر رحمه الله: [بأَلَّا يَزيدوا على أَرْبَعٍ] فلا يَحِلُّ لمُؤمِن أن يَزيد على أربَعِ زَوْجات؛ لقول اللَّه تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فجعَل آخِرَ شيء الرُّباع، أي: الأَرْبع، مع العِلْم بأن المَقام يَقتَضِي الزِّيادة لو كان هناك زيادة بدَليل أن الآية إنما ذَكَر اللَّه تعالى فيها العدَد المُمكِن؛ لأنها رُتِّبَت على شَرْط، وهو {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} يَعنِي: إن

ص: 376

خِفْتم ألَّا تَعدِلوا في اليَتامي في النِّساء التي بين أَيْديكم كَبِنْت العَمِّ وشَبَهها إن خِفْتم ألا تَعدِلوا فيها فلَدَيْكمُ النِّساء كثير، فلو كان هناك زيادة على الأَربَع لكان اللَّه تعالى يَذكُرها حتى يَكون المَجال أوسَعَ، فالآية نزَلَت مُقيَّدة بشَرْط {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أي: ألَّا تَعدِلوا في نِكاحِهن.

وكانوا في الجاهِلية إذا كان الإنسان عِنده بِنْت عَمٍّ يَتِيمةٌ كان يَظلِمها في النِّكاح، إمَّا أن يَمنَعها أو بأن يُعلِّقَها على أنها تَكون له، فأَنزَل اللَّه تعالى هذه الآيَةَ.

وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا} يَعنِي: فالنساء سِواهُنَّ كثير، قال تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} ، فلو كان عدَد زائِد على الأربع جائِزًا لذُكِر هنا، ولَقِيل مثَلًا: فانكِحوا ما شِئْتم من النِّساء، أو لقال: فانْكِحوا ما طاب لكم من النِّساء. ولم يُقيِّد، فلمَّا قيَّد عُلِمَ أنه لا يَجوز أكثَرُ من أَرْبَع، ولم يُخالِف في ذلك إلَّا شُذَّاذٌ من أهل العِلْم رحمهم الله أو الرافِضة.

والرافِضةُ عِندهم تَوسُّع في مَسائِل النِّكاح، منها هذه المَسأَلةُ يُجوِّزون أن يَتَزَوَّج الإنسان إلى تِسْع، ومنها مَسأَلة المُتْعة، وهذا ممَّا يُوجِب لضُعَفاء الإيمان أن يَعتَنِقوا مَذهَبهم؛ لأنهم يَجِدون فيه إشباعًا لرغَباتهم، فإذا كانوا يُجيزون المُتْعة للإنسان إذا نزَل ببَلَد له أن يَذهَب إلى امرأة فيَقول لها: زوِّجِيني نَفْسَكِ لمدَّة سَبْعة أيام، أو لمُدَّة عشَرة أيام، أو لمُدَّة شَهْر. هُم يُجَوِّزون ذلك! ! ويُجوِّزون أيضًا أن يَتَزوَّج الإنسان إلى تِسْع! ! .

كذلك يَقول المُفَسِّر رحمه الله: [ولا يَتَزوَّج إلَّا بوَليٍّ] لا يَجوز النِّكاح إلَّا بوَليٍّ، والدليل على ذلك من القُرآن قولُه تبارك وتعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] أَيْ: زوِّجوا، وقوله تعالى:{وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 221] لا تُزوِّجوا، وقوله تعالى:

ص: 377

{فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، ولولا أن الوَليَّ شَرْط لم يَكُن لعَضْله حُكْم.

ثانيًا: [ولا شُهود] الشُهود مخُتَلَف في اشتِراطه في النِّكاح، فالمَشهور أنه لا بُدَّ من الشُّهود؛ لأن عَقْد النِّكاح خَطير، ويَتَرتَّب عليه مَسائِلُ وحُقوق نسَب ومالٍ؛ وغيره من العُقود الأُخرى تَجِدها إمَّا مالِيَّةً وإمَّا حُقوقيةً أخرى غير المال، لكن هو جامِع بين المال والنسَب والحقوق؛ فالمال كالمَهْر والنَّفَقة والإِرْث، والنسَب كإلحاق الولَد بأبيه في الزواج، والحُقوق ما يَجِب على الزَّوْج وزَوْجته من المُعاشَرة بالمَعروف، فلا بُدَّ من شُهود.

وابنُ تَيميَّةَ رحمه الله لا يَشتَرِط الشُّهود، بينما اشتَرَط إعلان النِّكاح أو الشهود، فإن وُجِدَ الإعلان ولو بلا شُهود كفَى، فإمَّا أن يَجتَمِع الإِشْهاد والإعلان، وهذا أَعلى الأَقْسام، وإمَّا أن يُفقَد الإِشْهاد والإعْلان وهذا لا يَصِحُّ، وإمَّا أن يُوجَد الإشهاد بلا إعلانٍ قال رحمه الله:"وفي صِحَّة النِّكاح هنا تَردُّد ونظَرٌ"

(1)

؛ وإمَّا أن يُوجَد الإعلان بلا إشهادٍ، وهذا عِندهم صحيح.

فالأَقْسام إِذَنْ أَرْبعة:

1 -

أن يُوجَد الإعلان والإِشْهاد.

2 -

أن يُعْدَم الإِعْلان والإِشْهاد.

3 -

أن يُوجَد الإِشْهاد دون الإِعْلان.

4 -

أن يُوجَد الإِعْلان دون الإِشْهاد.

(1)

مجموع الفتاوى (32/ 130).

ص: 378

فيَشهَدون على العَقْد، أمَّا الإشهاد على الرِّضا فهو سُنَّة وليس بواجِبٍ.

والإعلانُ ليس لازِمًا بالوَليمة، فقد يَكون الإعلان مثَلًا بالمَشْي ليلة الزِّفاف بالأسواق، كما يُصْنَع فيما سبَق، وكذلك الآنَ في السيَّارات إعلانٌ بَيِّنٌ، وكذلك في وَضْع الأنوار على بَيْت الزَّوْج وبَيْت الزوجة هذا أيضًا من الإعلانِ، وإذا لم يَحصُل فلا يَكون إعلانًا، فإذا كان لا يَظْهَر أنه عُرْس فلا يَكون إعلانًا، أمَّا إن ظهَر فإن كان المُجتَمَع اعتَبَر من العادة أن هذا إعلانٌ فهو إعلانٌ.

وقوله رحمه الله: [إلَّا بوَليٍّ وشُهود ومَهْر] المَهْر: الصَّداق، وظاهِر كلام المُفَسِّر رحمه الله أن المَهْر شَرْط في النِّكاح.

واعْلَمْ أن للمَهْرِ ثلاثَ حالاتٍ:

- تارةً يُذكَر مُعيَّنًا.

- وتارةً يُنفَى.

- وتارةً يُسكَت عنه.

ثلاثُ حالات تارة يُنفَى، وتارة يُثبَت مُعيَّنًا، وتارة يُسكَت عنه فلا يُذكَر مُعيَّنًا ولا يُنفَى.

الحال الأُولى: الذي يُذْكَر مُعيَّنًا مثل أن يَقول: زوَّجْتُكَ ابنَتِي بعشَرة ريالات. فيَصِحُّ، أو يَقول: زوَّجْتُك ابنَتِي برِيال واحِد. يَصِحُّ؛ وتَزوَّج رجُل امرأة بريال، فلمَّا صارَتِ الضُّحى وهو عِندها قرَع البابَ رجُل، فذهَبَ يَفتَح له فتَنازَعوا إيَّاه، وعلَتْ أَصواتهما، فلمَّا رجَع إليها قالت زَوْجَته: مَن هذا الرجُلُ الذي يَأتي يُخاصِمك في أوَّل يَوْم من زواجِكَ. قال: هذا رجُل يَطلُبني؛ قالت: خُذْ هذا الرِّيالَ أَعطِهِ إيَّاه،

ص: 379

وكان مَهرَها، لكن الآنَ لا يُوجَد أحَدٌ يُزوِّج بريال.

فهذا إثباته مُعيَّن، يَعنِي يَقول زوَّجْتُك ابنَتي برِيال أو بعشَرة رِيالات أو بمِئة رِيال أو بأكثَرَ أو أقَلَّ.

الحال الثانية: أن يَنفِيَ فيَقول: زوَّجْتُك ابنَتي. فيَقول: قَبِلْتُ بلا مَهْر. فاختَلَفَ العُلَماءُ رحمهم الله في هذا العَقْدِ هل يَصِحُّ أو لا يَصِحُّ؟ والمَشهور من المَذهَب

(1)

أن العَقْد صحيح، ولها مَهْر المِثْل، واختار شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ رحمه الله أن العَقْد لا يَصِحُّ

(2)

؛ لأنه تَزوَّج على غير الشرط الذي ذكَرَ اللَّه تعالى؛ لأن اللَّه تعالى يَقول {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24].

الحالُ الثالِثةُ: أن يَسكُت عنه فلا يُذكَر مُعيَّنًا ولا يُنفَى بأن يَقول: زوَّجْتُك ابنَتِي. فيَقول قَبِلْتُ. فالعَقْد هنا صحيح، ولها مَهْر المِثْل، وقد نَصَّ على ذلك قوله تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236]، فهُنا يَجِب مَهْر المِثْل إذا دخَل بها، فإن لم يَدخُل بها وطلَّقَها قبل الدُّخول وَجَبَتِ المُتْعة.

وظاهِرُ كلام المُفَسِّر رحمه الله في قوله: [وشُهود ومَهْر] أن المَهْر شَرْط في صِحَّة العَقْد، فيَكون ذلك مُوافِقًا لكلام شيخِ الإسلام ابنِ تَيميَّةَ رحمه الله.

قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} : (فرَض) إذا تَعَدَّت باللَّام فهي بمَعنَى: أَحَلَّ كما في قوله تعالى فيما سبَقَ: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي: فيما أَحَلَّ، وكقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}

(1)

انظر: الهداية (ص: 402)، والمغني (7/ 49)، وكشاف القناع (5/ 156).

(2)

مجموع الفتاوى (29/ 352).

ص: 380

[التحريم: 2]، أي: أَحَلَّها وشرَعها، أمَّا إذا تَعدَّت بـ (على) فهي بمَعنَى الإِيجاب كما هنا {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} .

فائِدةٌ: النَّفيُ يُحمَل أوَّلًا على نَفي الوُجود، فإن لم يُمكِن فعلى نَفي الصِّحَّة، فإن لم يُمكِن فعلى نَفي الكَمال، مثالُه في نَفي الوُجود: لا إلهَ حَقٌّ إلَّا اللَّهُ، ومِثالُه لنَفي الصِّحَّة: لا صلاةَ إلَّا بوُضوء؛ لأنه يُمكِن أن يُصلِّيَ الإنسان بدون وُضوء، ومِثاله في نَفي الكَمال لا صلاةَ بحَضْرة طَعام؛ لأنه لو صلَّى لصَحَّت، ولا يُمكِن أن نَحمِلَه على الكَمال وهو يُمكِن نَفيُه على الصِّحَّة: لا نِكاحَ صحيحًا إلَّا بوَليٍّ، فما دام يُمكِن حَملُه على نَفي الصِّحَّة يَجِب، فأَوَّل ما نُسلِّط النَّفيَ على نَفي الوجود؛ لأن هذا هو ظاهِر اللَّفْظ؛ فإن لم يُمكِن بأن كان مَوْجودًا حمَلْناه على نَفي الصِّحَّة؛ لأن نَفيَ الصِّحَّة نَفيٌّ للوُجود شَرْعًا، فإن لم يُمكِن فإن دلَّتِ النُّصوص على الصِّحَّة يُحمَل على نفي الكَمال.

قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال رحمه الله: [مِن الإِماءِ] يَعنِي: وعلِمنا ما فرَضْنا عليهم فيما ملَكَتْ أيمانهم من الإِماءِ، خَصَّ المُفَسِّر رحمه الله (ما) العامَّة بالإِماء؛ لأن (ما) اسمٌ مَوْصول، تُفيد العُموم، والإنسان يَملِك الإماءَ، ويَملِك المَواشيَ، ويَملِك الدراهِمَ، ويَملِك البِناءَ، ويَملِك الأراضِيَ، فهل (ما) هنا للعُموم؛ يَعنِي: وفيما ملَكَت أيمانهم من كل شيء من الإِماءِ كما قال المُفَسِّر رحمه الله؟

نَقول: إن اللَّفْظ العامَّ لا يُمكِن أن نَخُصِّصه نحن إلَّا بدليل، وإلَّا فالواجِبُ إبقاءُ العُموم على عُمومه، وهنا خَصَّصناه بالإِماء بدليل قَرْنه بالأزواجِ.

والكلام الآنَ فيما يَتَعلَّق بالحُقوق الزوجيةِ، فقال تعالى:{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} من الإماءِ، فتكون الدَّلالةُ على

ص: 381

التَّخصيص من قوله تعالى: {أَزْوَاجِهِمْ} .

وعلى هذا فنَقول: كلُّ مَوضِع ذُكِر فيه الأَزْواج وما ملَكَتِ اليَمين، فالمُراد بما ملَكَت اليَمينُ: الإماءُ.

وقوله رحمه الله: [بشِراءٍ وغَيرِه] يَعنِي: علِمْنا ما فرَضْنا عليهم من الإماءِ بالشِّراء وبغير الشِّراء، وهل يُمكِن أن يَملِك الإنسان الأَمَةَ بغير الشِّراء؟

الجَوابُ: يُمكِن، بالسَّبْي، وبالهِبَة، وبالإِرْث، وأَسْباب التَّملُّك كثيرة.

المُهِمُّ: أنَّ مِلْك اليَمين أسبابُه مُتعَدِّدة.

وقوله رحمه الله: [بأن تَكون الأمَةُ ممَّنْ تَحِلُّ لمالِكها كالكِتابيَّة بخِلاف المَجوسية والوَثَنيَّة] أَفادَنا المُفَسِّر رحمه الله بأنه لا يَحِلُّ من الإماء إلَّا الأَمَة غير الكِتابيَّة، وهي اليَهودية والنَّصرانية، فأمَّا الأَمَة المَجوسية فلا تَحِلُّ، يَعنِي: لو سَبَيْنَا إِماءً من المَجوس، فإنه لا يَحِلُّ لنا وَطْؤُهنَّ، وكذلك الوَثَنيَّة وهي التي تَعبُد الأَوْثان، فهي لا تَحِلُّ لنا بمِلْك اليَمين.

وما الفَرْق بين المَجوسية والوَثنِيَّة؟

الفَرْق بينهما أن المَجوسية تَعبُد النار، والوَثَنية تَعبُد الأصنام من الأشجار والأحجار وما أَشبَهَ ذلك، وكذلك مَن يَعبُد القُبور، وكذلك مَن لا تُصلِّي، لكن مَن لا تُصلِّي مُرتَدَّة يَجِب أن تُقْتَل إذا لم تَتُبْ.

وقول المُفَسِّر رحمه الله: [بخِلاف المَجوسِيَّة والوَثَنيَّة] هذا أحَدُ القَوْلين في المَسأَلة، والصحيح أن المَجوسِيَّة والوَثنِيَّة حلال بِمِلْك اليمين؛ لعُموم قوله تعالى:{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ، {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]،

ص: 382

فكلِمة (ما مَلَكَت أَيْمانُهم) عامٌّ، يَشمَل ما ملَكْتَه من الكِتابيَّات وما مَلَكْتَه من المَجوسِيَّات وما مَلَكْتَه من الوَثَنيَّات والشُّيُوعِيَّات وغير ذلك، ولا دليلَ على التَّقييد بالكِتابية.

نعَمِ؛ النكاح هو الذي لا يَحِلُّ إلَّا من الكِتابية، كما قال اللَّه تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]، ما قال: إذا ملَكْتُموهنَّ. قال تعالى: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، فدَلَّ هذا على أنَّ المُراد بذلك النِّكاحُ؛ لأنها هي التي تُؤتِي أَجْرها، أمَّا المَملوكة فتُشْتَرى.

فالصَّوابُ: أنه تَحِلُّ لنا المَملوكة إذا كانت مجَوسية أو كِتابيَّة لعُموم الكِتاب.

قال رحمه الله: [وأن تُسْتَبْرَأَ قَبْل الوَطْء] هذا أيضًا ممَّا فرَضه اللَّه تعالى علينا، أن نَسْتَبرِئ الأَمَة التي ملَكْناها قبل أن نَطَأَها؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في غَزوة أَوْطاس نهَى أن تُوطَأ حامِل حتى تَضَعَ، وأن لا تُوطَأ ذاتُ حَيْض حتى تَحيض

(1)

، فلا بُدَّ من الاسْتِبراء إن كانَت حامِلًا فبِوَضْع الحَمْل، وإن كانت تَحيض فبِحَيْضة.

وهلِ الاستِبْراء واجِب بكل حال أو لا تُسْتَبرَأ البِكْر؟

ذهَبَ بعضُ العُلَماء رحمهم الله إلى أن الاستِبْراء واجِب حتى في الأَبْكار، وقال بعضُ أهل العِلْم رحمهم الله -ومِنهم شيخُ الإسلام ابنُ تَيميَّةَ

(2)

رحمه الله: إن البِكر لا تُسْتَبرَأُ؛ لأن الغرَض من الاستِبْراء العِلْم ببَراءة الرَّحِم، والبِكْر بَراءة رَحِمها مَعلوم، واحتِمال أن تَتَحمَّل بعِلاج غير الوَطْء وارِد لكنه بعيد، يَعنِي: يُحتَمَل أن تَكون بِكْرًا،

(1)

أخرجه الإمام أحمد (3/ 28)، وأبو داود: كتاب النكاح، باب في وطء السبايا، رقم (2157)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

الفتاوى الكبرى (4/ 160).

ص: 383

لكن تَتَحمَّل بمَنيِّ رجُل من الناس وتَحْمِل؛ لكن هذا بَعيد، فإذا مَلَكها رجُل أَمينٌ وأَخبَره أنه قد استَبْرَأَها قبل البَيْع، فالمَذهَب يَجِب الاستِبْراءُ، والقول الثاني في المَسأَلة أنه لا يَجِب الاستِبْراء ما دام البائِعُ أمينًا.

وقوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} : (لَكَيْلَا): (كَيْ) مَصدَرية، ولا يَصِحُّ أن تَكون حَرفَ جَرٍّ للتَّعليل، كما لو قُلْتَ: جِئْتُ كي أَقرَأَ. فإنه إذا اقتَرَنَت باللام تَعيَّن أن تَكون مَصدَريَّة؛ لِئَّلا يُجمَع بين حَرفَيْ تَعليل، فإن لم تُسبَق باللَّام صارت حَرْفَ تعليل، والفِعْل بعدها مَنصوب بـ (أَنْ).

إِذَنْ: في (لِكَيْ): اللَّامُ حَرْف جَرٍّ، و (كَيْ) مَصدَرية، و (لا) نافِية، و (يَكُونَ) فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنصوب بـ (كَيْ)، وعلامة نَصْبه الفَتْحة الظاهِرة على آخِره.

وقوله سبحانه وتعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ} يَعنِي: على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالخِطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.

وقوله تعالى: {حَرَجٌ} أي: ضِيقٌ في النِّكاح، قال المُفَسِّر رحمه الله:[مُتعَلِّق بما قبلَ ذَلكَ]، وقوله رحمه الله:[قبلَ ذَلكَ] يُحتَمَل أن يُريد أنه مُتعَلِّق بـ (أَحْلَلْنا): {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] إلى قوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} .

ويُحتَمَل أن تَكون مُتعَلِّقة بـ (خالِصة لكَ): {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: خالِصةً لك؛ لكَيْ لا يَكون عليك حرَجٌ.

وكِلا المَعنيَيْن صَحيح؛ ولهذا قال بعض العُلَماءِ رحمهم الله: إنها مُتعَلِّقة بـ (أَحْلَلْنا). وقال بعضُهم: إنها مُتعلِّقة بـ (خالِصةً). وكلام المُفَسِّر رحمه الله صالِح للوَجْهين، لكَيْ لا يَكون عليك حرَجٌ، يَعنِي: أنَّنا أَحْلَلْنا لك هذا الحِلَّ حتى لا يَكون علَيْك ضِيق في النِّكاح.

ص: 384

ومعلوم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَطلوب، فالنِّساء قد يَأتِينَ إليه يَعرِضْنَ أَنفُسَهنَّ عليه، فإذا لم تَحِلَّ له الواهِبةُ نَفْسَها صار عليه في ذلك ضِيق من وَجْهين:

1 -

إن رَغِبها ففيه ضِيق عليه ألَّا يَتزَوَّجها.

2 -

وإن لم يَرغَبْها ففيه ضِيق عليه إن رَدَّها.

واللَّه عز وجل جعَلَ الخِيار له قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أَيْ: ضِيق حتى يَتَّسِع له المَجال، والرسول صلى الله عليه وسلم خُصَّ بهذا -أَيْ: بأن يَتَزوَّج مَن شاء- حتى فيمَن وهَبَتْ نَفْسها له؛ لأن اتِّصاله بهِنَّ فيه مَصلَحة عَظيمة، لهُنَّ ولأهلِهِنَّ وللمُسلِمين:

1 -

لهُنَّ ظاهِر.

2 -

ولأَهلِهنَّ؛ لأنه لا شَكَّ أنه من الشَّرَف أن يَتزوَّج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بامرأة؛ لأنه ليس من الشَّكِّ في أن لمِنْ تَزوَّج النبيُّ صلى الله عليه وسلم منهم الشَّرَفَ في مُصاهَرة النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

3 -

وللمُسلِمين؛ لأن هذه المَرأةَ سيَكون عندها عِلْمٌ من سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لولا العِلْم لولا اتِّصاله به ما حَصَّلتْهُ؛ ولهذا كثير من السُّنَن البَيتيَّة، تُلُقِّيَت من زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} يَجمَع اللَّه تعالى دائِمًا بين هذَيْن الاسمَيْن الكريمين؛ لأن بالمَغفِرة زوال المَكروهِ، وبالرَّحمة حُصول المَطلوب، وإذا زال المَكروهُ وحصَل المَطلوب فقَدْ تمَّتِ الأُمور.

وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} : (كان) هنا مَسلوبةُ الدَّلالة على الزمَن،

ص: 385

والمُراد بها تَحقُّق المَوْصوف بالصِّفة، أي: أن الصِّفة هذه في هذا المَوْصوفِ حقيقة.

وقوله تعالى: {غَفُورًا} يُحتَمَل أن تَكون صِيغة مُبالَغة، وأن تَكون صِفة مُشبَّهة، وأيًّا كان فإنها مُشتَقَّة من المَغفِرة وهي سَتْر الذَّنْب والتَّجاوُز عنه.

وقوله تعالى: {رَحِيمًا} مُشتَقَّة من الرحمة، وهي صِفة تَتَعلَّق بذاتِ اللَّه عز وجل من مُقتَضاها الإِحْسان والإِنْعام.

والغَفور والرَّحيم من أسماء اللَّه سبحانه وتعالى، وكلُّ اسمٍ من أسماء اللَّه تعالى فإنه دالٌّ على أُمور ثلاثة إذا كان مُتعَدِّيًا، وعلى أَمْرين إذا كان غير مُتعَدٍّ.

فالثَّلاثة إذا كان مُتعدِّيًا: الاسمُ والصِّفةُ والأثَرُ. مِثال ذلك في الغَفور أن الغَفور من أسماء اللَّه تبارك وتعالى، والصِّفة في الغَفور المَغفِرة، والأثَر أنه يَغفِر الذنوب جميعًا سبحانه وتعالى، والرَّحيم مِثلُها: الاسمُ الرَّحيم، والصِّفة الرحمة، والأَثَر يَرحَم.

أمَّا إذا كان لازِمًا فلا يَتَعدَّى، فيُستَفاد فائِدتان: الاسمُ والصِّفة، الاسم مِثْل:{الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، يُستَفاد من العَليِّ الاسمُ والصِّفةُ وهي العُلوُّ، ولا تَتَعدَّى لأحَد حتى نَقول: يُستَفاد منها أثَرٌ. والعَظيم كذلك.

وقوله رحمه الله: [{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا} بما يَحصُل التَّحرُّز منه {رَحِيمًا} بالتَّوْسِعة في ذلك] هذا مِن بَعْد المَغفِرة والرحمة، وليس هو المَغفِرةَ والرَّحْمة، بل المَغفِرة فيما يُقابِل الذُّنوب، والرحمة فيما يَحصُل به المَطلوب.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: عُلُوُّ شَأْن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ} ، فإنها -كما سَبَق- تَصديرُها بالنِّداء مع وَصْف النُّبوَّة يَدُلُّ على رِفعة شأنه صلى الله عليه وسلم.

ص: 386

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن الإحلالَ والتَّحريمَ إلى اللَّه عز وجل؛ لقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} ، وهذا لا يُنافِي أن يَكون النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَجتَهِد أحيانًا ويَحكُم، فإن القولَ الراجِحَ: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له أن يُشرِّع، ثُمَّ إن أَقرَّه اللَّه تعالى على ذلك كان شَريعة، وإن لم يُقِرَّه كان على حَسَب ما أَراد اللَّه عز وجل.

والدليلُ على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يَستَقِلُّ بالتَّشريع عِدَّة أحاديثَ، بل من القُرآن؛ فلِقولِه تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وهذا يَدُلُّ على أن للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا مُستَقِلًّا.

ومن السُّنَّة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ"

(1)

، وهذا دَليل على أنه يَأمُر ويَنهَى، وإلَّا لقال: لَوْلا أن اللَّه تعالى لم يَأمُرْني لأَمَرْته، فلا يُعلِّقها بإرادته هو، بل بإرادة اللَّه تعالى.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، فَنَظَرْتُ فَإذَا الرُّومُ يُغِيلُونَ فَلَمْ يَضُرَّهُمْ شَيْءٌ"

(2)

.

ومِثْل قوله صلى الله عليه وسلم في صلاة العِشاء: "أَنَّهُ لَوَقْتُهَا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي"

(3)

.

وغير ذلك من الأَمثِلة.

والحاصِلُ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم له أن يَأمُر ويَنهَى ويُحلِّل ويُحرِّم، ولكن إن أَقرَّه اللَّه

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام، رقم (637)، ومسلم: كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة، رقم (604)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم: كتاب النكاح، باب جواز الغيلة، رقم (1442)، من حديث جدامة بنت وهب رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم: كتاب المساجد، باب وقت العشاء وتأخيرها، رقم (638) من حديث عائشة رضي الله عنه.

ص: 387

تعالى على ذلك كان ذلك من شَريعة اللَّه تعالى، وإلَّا فالأَمْر إلى اللَّه عز وجل.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنه لا بُدَّ في النِّكاح من المَهْر لقوله سبحانه وتعالى: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} .

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن النِّكاح عَقْد على المَنفَعة، وليس على العَيْن؛ لقوله تعالى:{أُجُورَهُنَّ} ، والإِجارة عَقْد على مَنافِعَ لا على أعيانٍ؛ ولهذا نُملِّك المَرأةَ نَفْسها بالبيع والشراء والِهبَة وغير ذلك، وليس لزَوْجها أن يَعتَرِض على هذه الأُمورِ؛ لأنه إنما يَملِك مَنفَعة الاستِمْتاع فقَطْ.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: جَواز الوَطْء بمِلك اليَمين؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: صِحَّة إضافة الشيءِ إلى البَعض؛ لقوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} ، وهذا كثير في القُرآن، ومنه قوله تعالى:{فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} ، وقوله تعالى:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فإن الإنسان لا يُحرِّر الرقَبة وحدَها، بل يُحرِّر كل العَبْد.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن سبَبَ مِلْك اليَمين سبَبُه الفيءُ؛ لقوله تعالى: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} .

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أن أَموال الكُفَّار إذا عادَت إلى المُسلِمين فقَدْ عادَت إلى أهلها، تُؤخَذ من قوله تبارك وتعالى:{أَفَاءَ} ، لأن الفيءَ بمَعنَى: الرُّجوع، فالكُفَّار يَتَمتَّعون بأموالهم، لكنهم بغَيْر حَقٍّ؛ ولهذا يُحاسَبون عليها يومَ القِيامة، أمَّا الأموال فهي في الحَقيقة للمُسلِمين.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: جواز هؤلاء الأَرْبَعِ من الأقارِب وهُمْ: بناتُ العمِّ وبناتُ

ص: 388

العَمَّات وبناتُ الخالِ وبناتُ الخالاتِ، وأمَّا غَيرُهن من الأقارِب فحَرام كما في آية النِّساء.

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنه يُشتَرَط لحِلِّ هَؤلاءِ الأقارِبِ في حقِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يَكُنَّ قد هاجَرْن معه؛ لقوله تعالى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} .

ويَتفَرَّع على هذه الفائِدةِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد يُخَصُّ بأَشياءَ في النِّكاح تَضْيِيقًا وتَوْسيعًا؛ تُؤخَذ من قوله تعالى: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، لأن في هذا تَضييقًا؛ لأن غَيرَه يَحِلُّ له بَناتُ العمِّ والعمَّاتِ والخالِ والخالاتِ مُطلَقًا بخِلاف النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: جَواز تَزوُّج النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالهِبَة؛ لقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ، ويُشتَرَط في هذه الواهِبةِ أن تَكون مُؤمِنةً، لقوله تعالى:{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} ، فلو وهَبَتْ كِتابيَّة نَفْسها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لم تَحِلَّ له.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: لُطفُ اللَّه تعالى بنَبيِّه صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} .

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: بَيان عُلوِّ شَأْن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} ، ولم يَقُلْ: إن أَرَدْت. مع أن المَقام يَقتَضي أن تَقول: إن أَرَدْت أن تَستَنْكِحها؛ لأن الخِطاب له، قال تعالى:{أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} فكان مُقتَضى السِّياق أن يَقول: وامرأة مُؤمِنة إن وهَبَت نَفْسها لك إن أَرَدْت أن تَستَنْكِحها، ولكنه أَتَى بالنَّبيِّ؛ لبَيان عُلوِّ شَأْنه ومَرتَبَته.

ص: 389

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أن الإظهار هنا لِبَيان عِلَّة الحُكْم؛ فالإظهار هنا في مَقام الإِضْمار من فَوائِده: بَيان عِلَّة الحُكْم، فلو قال: وامرأة مُؤمِنة إن وهَبَت نفسها لك إن أَرَدْت أن تَستَنْكِحها، لمَا تَبيَّن لنا وَجهُ الخُصوصِيَّة، لكن لمَّا قال تعالى:{إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ} تَبيَّن الآنَ وجهُ الخُصوصية؛ لأنه كان نَبيًّا، فالعِلَّة أنه نَبيٌّ، فأُحِلَّت له هذه الواهِبةُ نَفْسَها.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الرَّدُّ على الجَبْرية إن أَراد، حيث أَثبَت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم إرادة، والجَبْرية لا يُثبِتون إرادة للإنسان يَقولون: إنه مُجبَر على عمَله! .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أن جَواز النِّكاح بالهِبة من خَصائِص النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أن الحُكْم الثابِت للرسول صلى الله عليه وسلم ثابِت لأُمَّته إلَّا بدليل؛ لقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فلَوْلا أن الحُكْم الثابِت له ثابِت لأُمَّته لكان قوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لَغْوًا لا فائِدةَ منه؛ فلمَّا أَخرَج المُؤمِنين من ذلك الحُكْم عُلِم أن الأَصْل مُشارَكة أُمَّته له في الأَحْكام.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنةَ عَشْرَةَ: أن للَّه تعالى أن يَختَصَّ بأحكامه مَن شاء؛ يُؤخَذ من تَخصيص النبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الحُكْمِ، فاللَّه سبحانه وتعالى له أن يَختَصَّ بأحكامه مَن يَشاء.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أن التَّخصيص بالحُكْم لابُدَّ أن يَكون له عِلَّة تَقتَضي تَخصيص ذلك المَحكومِ عليه أو له؛ يُؤخَذ من أن التَّخصيص لابُدَّ له من عِلَّة تَقتَضي ذلك التَّخصيصَ، {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فإن العِلَّة في ذلك أنه نَبيٌّ، وهذه العِلَّةُ لا تَكون للمُؤمِنين.

ص: 390

الْفَائِدَةُ العِشْرُون: إثباتُ العِلْم للَّه عز وجل؛ لقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} .

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةُ وَالعِشْرُون: أن اللَّه تعالى فرَضَ علينا فرائِضَ في أزواجِنا علينا مُراعاتُها؛ لقوله تعالى: {مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} ، وكذلك نَقول في مِلْك اليَمين:{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُون: جَواز الوَطْء بمِلْك اليَمين وقد سَبَق.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالعِشْرُون: أن الأحكام -أحكام اللَّه سبحانه وتعالى مُعلَّلة بالحُكْم أو مَقرونة بحُكْمها؛ لقوله تعالى: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} .

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالعِشْرُون: عِنايةُ اللَّه تعالى برَسوله صلى الله عليه وسلم ولُطْفه به، حيث أَحَلَّ له ما يَزول به عنه الحَرَجُ؛ لقوله:{لِكَيْلَا يَكُونَ} .

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ وَالعِشْرُون: إِثْبات اسمَيْن من أسماء اللَّه تعالى وهما الغُفور والرَّحيم، وإثباتُ ما تَضمَّناه من الوَصْف أو من الصِّفة ومن الأَثَر، قال تبارك وتعالى:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 50].

مَسأَلةٌ: هل النِّكاح بلَفْظ ألهِبَة لا يَصِحُّ، كما لو قال: وهَبْتُكَ بِنْتي؟

الجَوابُ: الظاهِر: أنه يَصِحُّ؛ لأن العِلَّة: إن وهَبَت نَفْسها للنبيِّ أنه يَتَزوَّج بدون مَهْر، وليس العِلَّة اللَّفْظ، بل العِلَّة أن يَكون الزواج بدون مَهْر، فهذا هو الذي يَكون خاصًّا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أمَّا لَفْظ الهِبة فإنه قد جاء في أَحَد ألفاظ حديث سَهْل بنِ سَعْد رضي الله عنه في الواهِبة نَفْسَها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للرَّجُل: "مَلَّكْتكَها بِمَا مَعَكَ مِنَ

ص: 391

الْقُرْآنِ"

(1)

، وهذا أَحَد أَلْفاظ البُخاريِّ رحمه الله، وهذا يَدُلُّ على جواز عَقْد النِّكاح بمِثْل هذا اللَّفْظِ.

فائِدةٌ: لتَعْلموا أن العِلْم ليس بالأَمْر الهَيِّن، العِلْم يَحتاج إلى تعَبٍ؛ ولهذا قال بَعضُ السلَف: العِلْم لا يُنال براحة الجِسْم. الذي يُريد أن يَستَريح لا يَقول: إنه طالِب عِلْم. فلا بُدَّ لطالِبِ العِلْم أن يَكون طالِبَ عِلْم على سبيل الحَقيقة، وسيَجِد أثَرَ ذلك فيما بَعدُ، سيَجِد النَّتيجة والتَّحصيل، وهو قد يَشُقُّ عليه في أوَّل الأمر أن يَحبِس نَفْسَه على العِلْم، لكن إذا اعتاد حَبْس نَفْسه على العِلْم صار ذلك سَجِيَّةً له وطَبيعةً له؛ حتى إنه إذا فقَدَ ذلك الحَبْسَ انحَبَس، وجَرِّبْ تَجِدْ؛ فأنا قد جَرَّبْتُ وغيري قد جرَّب، فإذا حبَسْت نَفْسَك على العِلْم فإنك تَفقِد ذلك الحَبْسَ لو تَأخَّرْت عنه؛ أمَّا إذا عوَّدْت نَفْسَك الإهمالَ وعدَم المُبالاة فاعلَمْ أنك ستَبقَي كالمَريض بِسِلِّ المُؤنَّث، فإن السِّلَّ المُذكَّر صاحِبه لا يَبقَى إلَّا شَهْرين أو ثلاثة ويَمشِي للمَقبَرة، لكن البَلاء في السِّلِّ المُؤنَّث يَبقَي فيه السَّنَوات العديدة فهو لا حيٌّ ولا مَيتٌ، وهكذا طالِب العِلْم إذا لم يَجِدَّ في طلَبِ العِلْم يَبقَى لا حيًّا ولا ميتًّا.

فاللَّهَ اللَّهَ! على الحِرْص في طلَب العِلْم إن كُنْتم تُريدون العِلْم، أمَّا إذا كُنْتم تُريدون أن تَقطَعوا الوقت ويَمشِي الوقت في ما كان فهذا شيء آخَرُ، لكن الذي يُريد العِلْم لا بُدَّ أن يُكَبَّ عليه وأن يَجتَهِد، وهو وإن أَتعَبَ جِسْمه الآنَ سيَجِد الراحة فيما بعد، ولا سيَّما في الشباب مِنْكم، فالشَّباب هو الذي إذا حفِظ العِلْم ما شاء اللَّه لا يَنساه، لكن ثِقُوا أنه إذا تَقادَمَت بكم السِّنُّ فإنكم تَدرُسون اليومَ وتَنسَوْن غدًا.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب القراءة عن ظهر القلب، رقم (5030)، ومسلم: النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، رقم (1425/ 76).

ص: 392

صحيح أن الإنسان إذا تَقدَّم في العِلْم يَكون فَهْمه أَقدَرَ وأَوسَعَ وأَدَقَّ، لكن في الحِفْظ ما في حِفْظ إلَّا في الصغير أبَدًا، فأنتم -إن شاء اللَّه تعالى- تَحرِصون على طلَب العِلْم، لا تَظُنُّوا أنكم في نُزْهة إلَّا في نُزْهة واحِدة وهي نُزْهة العُلوم؛ لأن العُلوم فيها من كُلِّ فاكِهة زَوْجان؛ هذا فِقْه، وهذا حديث، وهذا تَفسير، وهذا تَوْحيد، وهذا نَحوٌ، وما شاء اللَّه! ثمَرات مُتنَوِّعة، فلْيَكُن نُزهَتُكم هذا العِلمَ، وأَسأَلُ اللَّه تعالى لنا ولكمُ التَّوفيقَ.

* * *

ص: 393