الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (58)
* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
* * *
قال رحمه الله [{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} يَرْمونهم بغير ما عمِلوا {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} تَحمَّلوا كذِبًا و {وَإِثْمًا مُبِينًا} بيِّنًا].
تَأمَّلِ الفَرْق بين أذِيَّة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأَذِيَّة المُؤمِنين تَجِد بينهما فَرْقًا كبيرًا في العُقوبة، قال سبحانه وتعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} : {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} هذا لم يُذكَر في الآية الأُولى بسبَب أنه لا يُمكِن أن يَكون من فِعْل اللَّه تعالى أو من فِعْل رَسوله صلى الله عليه وسلم ما يَستَحِقُّون به الأذِيَّة، لكنَّ المُؤمِنين يُمكِن أن يَقَع منهم ما يَستَحِقُّون به الأذِيَّة؛ ولهذا قال تبارك وتعالى:{بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} ؛ لأن المُؤمِن قد يَكتَسِب شيئًا يَستَحِقُّ الأَذِيَّة عليه.
وأيضًا قال تبارك وتعالى: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} ولم يَقُل: لعَنَهمُ اللَّه ولا أَعَدَّ لهم عذابًا مُهينًا، بل قال تبارك وتعالى:{احْتَمَلُوا بُهْتَانًا} يَعنِي: كذِبًا وتَحمَّلوه، والبُهتان هو أن تَذكُر أخاك بما ليس فيه؛ ولهذا لمَّا سأَل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الغِيبة قال صلى الله عليه وسلم:"هِيَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ" قال: يا رسول اللَّه أَرَأَيْت إن كان في أخي ما أَقول؟ قال:
"إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ"
(1)
.
إِذَن: أَذِيَّة المُؤمِنين بماذا تَكون؟
الجَوابُ: تَكون بالقَوْل وبالفِعل وهي كثيرة لا حَصرَ لها، مِنها أذِيَّة الجارِّ حتى إن العُلَماء رحمهم الله يَقولون: لا يَجوز للإنسان أن يَدُقَّ وتَدًا في الجِدار المُشتَرَك بينه وبين جاره على نَحو يُؤذِي جارَه، ولا يَجوز أن يَسقِيَ نَخْله إذا كان الماء يَتَسرَّب إلى جاره، ولا يَجوز أن يَجعَل رَحًا تَطحَن حول جاره؛ لأن ذلك يُؤذِيَه، فالأَذِيَة كثيرة.
ومن هذا النوع أن يُهينه عندما يَأتي لطَلَب حَقِّه فإن بعض المُوظَّفين -والعِياذُ باللَّه- إذا جاءَهم الناس لإجراء مُعاملاتهم تَجِدهم يَمتَهِنونهم ويُؤذونهم، هذا أيضًا من أَذِيَّة المُؤمِنين بغير ما اكتَسَبوا، وأَنواعها لا يُمكِن حَصْرها، والشيء العامُّ هو أن يَحصُل للمُؤمِن أَذِيَّة من فِعْل أو قَوْل، فالذين يُؤذون المُؤمِنين بغير ما اكتَسَبوا فقَدِ احتَمَلوا بُهتانًا وإثمًا مُبينًا، نَسأَل اللَّه تعالى العافِية.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: تَحريم أذِيَّة المُؤمِنين بغير حَقٍّ؛ لقوله تعالى: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: تَحريم كلِّ أذيَّة أيًّا كان نوعها سَواء كانت قَوْلية أو فِعْلية؛ لعُموم اللَّفظ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ} واسمُ المَوْصول من صِيَغ العُموم.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن أذِيَّة المُؤمِن بما هو من كَسْبه ليس فيها وعيدٌ، وليست إِثْمًا ولا بُهتانًا لقوله تعالى:{بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} .
(1)
أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الغيبة (2589)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنه لا يَجوز أن يُؤذَى بأكثَرَ مِمَّا يَستَحِقُّ، فلأنه سَبَّكَ فلا تَسُبَّه أكثَرَ؛ لأنك إذا سبَبْته بِمِثْل ما سبَّك فقد آذَيْتَه بقَدْر ما اكتَسَب، وقد قال تبارك وتعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: الرَّدُّ على الجَبْرية؛ لقوله تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} فأَضاف الفِعْل إليهم، والجَبْرية يَقولون: إن الإنسان مجُبَر على عمَله، وأنه لا حَوْلَ له ولا قوَّةَ، يَفعَل الشيء بغير اختِيار، ويَدَعه بغير اختِياره! .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: ذَمُّ الكذِب؛ لقوله تعالى: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا} ولا سِيَّما إذا كان الكذِب يُؤدِّي إلى أذِيَّة الغَيْر.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: جَواز أذِيَّة غير المُؤمِنين؛ لقوله تعالى: {يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} ، لكن إذا كان الإنسان غيرُ المُؤمِن ذِمِّيًّا أو مُعاهَدًا أو مُستأمَنًا فإنه لا تَجوز أذِيَّته بما يُخالِف عَهْده، فإِذَن: غير المُؤمِن فيه تَفصيلٌ، أمَّا المُؤمِن فأذِيَّته حرامٌ في كلِّ حالٍ، وغير المُؤمِن فيه تَفصيلٌ: إذا آذَيْناه أكثَرَ ممَّا يَقتَضيه العَهْد فهو حرام ولا يَجوز، وإن آذَيْته في حُدود ما يَقتَضيه العهد فإنه لا حُرمةَ له إلَّا فيما يَقتَضيه عهدُه.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أن الذَّنْب قد يَجمَع بين وَصْفين ذَمِيمين؛ لقوله تعالى: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} ، فهُمْ بكَذِبهم احتَمَلوا البُهْتان وبعُدوانهم احتَمَلوا الإثم المُبين.
* * *