المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (43) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (43) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ

‌الآية (43)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].

* * *

وقوله رحمه الله: [{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} أي: يَرحَمكم {وَمَلَائِكَتُهُ}؛ أي: يَستَغفِرون لكم] فسَّرَ المُفَسِّر رحمه الله الصلاة بالنِّسبة إلى اللَّه تعالى: بالرَّحْمة، وبالنِّسبة إلى المَلائِكة: بالاستِغْفار، فقال تعالى:{يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} يَرحَمكم، {وَمَلَائِكَتُهُ} يَستَغفِرون لكم، وهذا فيه نظر، والصواب أنَّ مَعنَى {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} أَيْ: يُثنِي عليكم في المَلَأ الأَعْلى، والمَلائِكة أيضًا يُثنُون عليكم، هذا هو مَعنَى الصلاة من اللَّه تعالى ومن المَلائِكة أيضًا.

وقوله تعالى: {الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} فيها إِشْكال من حيث الإعراب فقوله تعالى: {وَمَلَائِكَتُهُ} مَرفوعة، وابنُ مالِكٍ رحمه الله يَقول:

وَإِنْ عَلَى ضَمِر رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيْرِ المُنْفَصِلْ

أو فاصِلٍ ما. . . . . .

. . . . . . . .

(1)

وهُنا لم يَأتِ بالضمير، وما قال:(هو الذي يُصلِّي عَلَيْكم هو ومَلائِكَتُه)،

(1)

الألفية (ص: 48).

ص: 327

أو فاصِل ما، وهذا داخِل في قوله:(أو فاصِل ما) والفاصِل هنا هو الجارُّ والمَجرور؛ ولذلك إذا قُلْت: قُمْتُ وزَيْدٌ. هذا ضعيف، والأَرجَح منه أن تَقول: قُمتُ وزيدًا. على أنها مَفعول معه، أمَّا إذا فصَلْت فقلت: قُمْت أنا وزَيْدٌ. أو قُمْتُ في الناس خَطيبًا وزَيْدٌ. وفصَلْتَ، فهذا لا بأسَ به، وهنا فَصَل بالجارِّ والمَجرور.

وقوله تعالى: {يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} أَضاف اللَّه تعالى المَلائِكة إليه من باب التَّشريف لهم؛ لأنهم ملائِكته، وهم أيضًا مخَلوقون له، والمَلائِكة كما تَقدَّم هم عالَم غَيبيٌّ خلَقَهم اللَّه تبارك وتعالى من نُور، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

وهل يُمكِن أن يَكونوا من عالَمِ الشَّهادة؟

نعَمْ، كما جاء جِبريلُ عليه الصلاة والسلام إلى مَرْيَمَ عليها السلام:{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17]، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَسأَله عن الإسلام والإيمان والإحسان في صورة رجُلٍ؛ شَديدِ بَياضِ الثِّياب، شَديد سَواد الشَّعْر، لا يُرى عليه أثَرُ السَّفَر، ولا يَعرِفه أحَدٌ من الصَّحابة

(1)

، وكما جاء في صُورة دِحيةَ الكَلْبيِّ رضي الله عنه

(2)

، وغير ذلك، لكنَّ الأصل أنَّهم عالَمٌ غَيبِيٌّ.

ولهم أَجْساد، ولا جسَدَ إلَّا برُوح، فلَهُم أَجْساد وأَرْواح؛ ولهذا سَمَّى اللَّه تعالى جِبريلَ عليه السلام رُوحًا، ورآه النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام على خِلْقته مَرَّتَين، وله

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام، رقم (8)، من حديث عمر رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم (3634)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أم سلمة رضي الله عنها، رقم (2451)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

ص: 328

سِتُّ مِئة جَناح

(1)

قد سَدَّ الأُفُق

(2)

.

وقوله تبارك وتعالى: {وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} اللَّام في قوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ} للتَّعليل، قال المُفَسِّر رحمه الله:[ليُديم إِخْراجَه إيَّاكُم] إنما صرَف اللَّفْظ إلى مَعنَى الإِدامة؛ لأنه يُخاطِب المُؤمِنين، وإذا كان يُخاطِب المُؤمِنين فإنهم قد أُخرِجوا من الظُّلُمات إلى النُّور من الأَصْل، ولكن قد يُقال: إنه لا حاجةَ إلى هذا التَّأويلِ، وأنَّ مَعنَى قولِه تعالى:{لِيُخْرِجَكُمْ} أي: ليَزيدَكم عِلْمًا وإيمانًا.

وقوله رحمه الله: [{لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ}؛ أي: الكُفْر، {إِلَى النُّورِ}؛ أي: الإِيمان]، لا شَكَّ أنَّ الكُفْر ظُلُمات، كما قال اللَّه تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ولا شَكَّ أيضًا أنَّ الإيمان نُور، ولكن الآية أعَمُّ ممَّا قال المُفَسِّر رحمه الله، فهو قال: ليُخرِجَكم من ظُلمات الجَهْل والكُفْر إلى نُور العِلْم والإيمان، فيَكون المُفَسِّر رحمه الله قد قَصر أو تَقاصَر في تَفسيره للآية، والصواب أنه يُخرِجهم من ظُلُمات الجَهْل والكُفْر إلى نور العِلْم والإيمان.

قال اللَّه سبحانه وتعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} : (كان) يَعنِي: اللَّه عز وجل {بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} : {بِالْمُؤْمِنِينَ} جارٌّ ومَجرور مُتعلِّق بـ {رَحِيمًا} قُدِّم عليه للحَصْر؛ لأن هذه الرحمةَ رَحمة خاصَّة للمُؤمِنين، تَقتَضي العِناية بهم وتَوفيقهم وهِدايتهم إلى الخَيْر، وأمَّا الرحمة العامة فهي للمُؤمِنين وغير المُؤمِنين، لكن الرحمة الخاصَّة للمُؤمِنين فقَطْ.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، رقم (3232)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، رقم (174)، من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين، رقم (3235)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معنى قول اللَّه تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، رقم (177)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 329

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: فَضيلة الإيمان، وأنه سبَب في ثَناء اللَّه تعالى وملائكته على عَبْده؛ تُؤخَذ من قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} بعد أن قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إثباتُ الكلام للَّه عز وجل؛ تُؤخَذ من قوله تعالى: {يُصَلِّي} ؛ لأنَّ الصلاة منه تعالى هي: الثَّناء على العَبْد في المَلَأ الأَعْلى.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: محَبَّة اللَّه تعالى للمُؤمِنين، ومحَبَّة المَلائِكة لهم؛ تُؤخَذ من الثَّناء عليهم، والصلاة عليهم؛ لأن مَن يُحِبُّك يُثنِي عليك، ومَن يُبغِضُك يَذُمُّك.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّه يَجِب علينا مَحَبَّة اللَّه عز وجل ومَلائِكته؛ لما لَهُمْ علينا من الفَضْل والإحسان، فإنَّهم يُصلُّون علينا، فهذا يَقتَضي أن نُحِبَّهم.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثباتُ الملائِكة؛ لقوله تعالى: {وَمَلَائِكَتُهُ} .

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: فضيلة المَلائِكة؛ تُؤخَذ من قوله تبارك وتعالى: {وَمَلَائِكَتُهُ} فالإِضافة للتَّشرِيف والتَّكَريم، ففيه فَضيلة المَلائِكة؛ لأن اللَّه تعالى أَضافهم إليه.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثبات العِلَل والحِكَم لأفعال اللَّه تعالى؛ لقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ الجهْل والكُفْر ظُلْم؛ لقوله تبارك وتعالى: {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، وقد قال اللَّه تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وقال تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]؛ أي: في الجَهْل، {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} .

ص: 330

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: فَضيلة المُؤمِنين، وأنَّ لهم عِند اللَّه تعالى رَحمةً خاصَّةً؛ لقوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} .

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: الحَثُّ على الإيمان والتَّرغيب فيه؛ تُؤخَذ من قوله تبارك وتعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} ، فإنَّ اللَّه تعالى ما أَخبَرَنا هنا في هذه الآية الكَريمةِ لمُجَرَّد أن نَعلَم أنه رَحيم بالمُؤمِنين، ولكن من أَجْل أن نَتعَرَّض لهذه الرَّحمةِ الخاصَّة، فنكون من المُؤمِنين.

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إثبات الرحمة للَّه تعالى؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الرَّدُّ على الأَشعَرِيَّة ونَحوِهم ممَّن يُنكِرون وَصْف اللَّه تعالى بالرَّحْمة؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ} فالضَّمير في قوله تعالى: {وَكَانَ} يَعود على (اللَّه)، و (الرحيم) خبَرٌ لمُبتَدَأ، فهو وَصْفه.

* * *

ص: 331