المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (55) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي - تفسير العثيمين: الأحزاب

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ ‌الآية (55) * قَالَ اللَّهُ عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي

‌الآية (55)

* قَالَ اللَّهُ عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [الأحزاب: 55].

* * *

قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} الضَّمير في قوله تعالى: {عَلَيْهِنَّ} يَعود على زَوْجات الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قال اللَّه تعالى في حَقّهنَّ: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ؛ فكأَنَّ هذه الآيةَ استِثْناءٌ مما سبَق {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ؛ حيثُ إن الآيةَ {سَأَلْتُمُوهُنَّ} تَشمَل المَحارِمَ وغيرَهم، فاستَثْنى المَحارِم فقال تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} .

والجُناح بمَعنَى: الإِثْم؛ أي: لا جُناحَ عليهنَّ أن يَبرُزنَ لآبائهن، وأن يَسألَهُن آباؤهنَّ بدون حِجاب، وهذا كقوله تعالى في سُورة النُّور:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ. . .} [النور: 31].

وقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} وآباء: يَشْمَل الآباء من جهة الأُمِّ والآباء من جهة الأبِ؛ فالجَدُّ من جِهة الأُمِّ في باب النِّكاح كالجَدِّ من جِهة الأبِ، ولقد كان الناس يَسأَلون كثيرًا عن أبِي الأُمِّ هو مَحْرَم لزوجة ابنِ ابنَتِه أم لا؟

والجَواب: يَكون مَحْرَمًا؛ لأن باب النِّكاح لا يُفرَّق فيه بين الأُبوَّة من جِهة الأُمِّ

ص: 449

والأُبُوة من جِهة الأبِ، فليس كالإِرْث، فأَبُو الأُمِّ لا يَرِث بخِلاف أبِي الأبِ، لكِنَّ أَبا الأُمِّ في باب النِّكاح كأبِي الأب، فقوله إِذَن:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} يَشمَل الأَجداد من جِهة الأبِ ومن جِهة الأُمِّ.

وقوله تعالى: {وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} يَعنِي: أبنائِهن من الصُّلب وأبنائهن من البَطْن أي: أبناء الأبناء وأبناء البَنات وإن نزَلوا، وفي هذه الحالِ يَكُنَّ جَدَّاتٍ لهؤلاء الأبناءِ.

وقوله تعالى: {وَلَا إِخْوَانِهِنَّ} يَعنِي: ولا جُناح عليهنَّ في إخوانهم؛ سواءٌ كانوا أَشِقَّاءَ أَمْ لأبٍ أَمْ لأمٍّ.

وقوله تعالى: {وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ} يَعنِي: وإن نزَلوا.

وقوله تعالى: {وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ} يَعنِي: وإن نزَلوا، سواءٌ كانوا أشِقَّاءَ أَمْ لأبٍ أَمْ لأمٍّ.

ولم يَذكُر: (ولا أَبناء أَعمامِهِنَّ) لأنهم ليسوا محَارِمَ، فأبناءُ الأعمام وأبناء العَمَّات وأبناء الأخوال وأبناء الخالات لَيْسوا مَحارِمَ، لكن لم يُذكَرِ العمُّ والخال مع أن العمَّ والخال مُحرَّم ولم يُذْكَرا في هذه الآيةِ ولا في آية النُّور أيضًا:{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ، فلم يُذكَر العمُّ ولا الخال، وهنا كذلك لم يُذكَر العمُّ ولا الخالُ مع أن العمَّ والخال محارِمُ؟ !

ص: 450

الجَوابُ: أَبدَى بعض العُلَماء رحمهم الله مُناسَبَة في هذا وقالوا: إنه لم يُذكَر لا لأنه يَحْرُم إبداءُ الزينة لهما، ولكن لبَيان التَّحرُّز منهما؛ لئَلَّا يَصِفْن المرأة لأَبنائِهن؛ لأن أبناء العَمَّ والخال يَجوز أن يَتزوَّجوا بهنَّ، فلمَّا كان يُخْشَى أن العمَّ والخال يَصِف المرأة لابنه لم يُذْكَرا للتَّحرُّز لا لمُخالَفة الحُكْم، وهذا التعليلُ له بعض الوَجْه، واللَّه أَعلَمُ بما أَرادَ.

وعلى كل حالٍ: إن كان هذا هو الحِكمةَ من عدَم الذِّكْر فله وَجْه، وإن لم يَكُن له الحِكْمة، فاللَّه أَعلَمُ، ما وصلْنا إلى الحِكْمة في ذلك.

ولا شَكَّ أنَّ قوَّة المَحْرميَّة في العَمِّ والخال أضعَفُ من قوَّتها فيمَن عَداهم، وإن كان ابنُ الأخ وابنَ الأُخت بالنِّسبة لعَمَّته وخالته الصِّلةُ بينهما مُتقارِبة مع العمِّ والخال، لكن ابن الأخت من الأخ والأُخْت فُرُوعُهما محَارِمُ، فالعِلَّة التي قِيلت في العمِّ والخال مُنْتَفية فيهما، فيَقول: لا جُناحَ علينا في هَؤلاء، وفيما عَدا هؤلاءِ عليهن جُناح، يَعنِي: ما عدا هؤلاءِ من الأقارِبِ فإن عليهنَّ جُناح في عدَم التَّحَجُّب منهم.

مَسأَلةٌ: الأخُ من الرَّضاع وابنُ الأخ من الرَّضاع وما أَشبَه ذلك ما ذُكِر في هذه الآيةِ، نَقول: صحيح ما ذُكِر؛ لكنه ذُكِر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ"

(1)

.

وقوله تعالى: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} ، قال المُفَسِّر رحمه الله:[أي: المُؤمِنات] أي: ولا جُناحَ عليهنَّ في نِسائِهنَّ المُؤمِنات؛ لأن النِّساء أُضِيفت إلى ضمير المُؤمِنات، فيَكون مُضافًا من جِنْس المُضاف إليه، أي: ولا النِّساء المُؤمِنات؛ فللمرأة أن تَكشِف وجهها للمرأة المُؤمِنة، ومَفهومه: أن الكافِرة لا يَحِلُّ لها أن تَكشِف وَجهَها له، وأن

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب، رقم (2645)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، رقم (1447)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 451

المَرأة الكافِرة بالنِّسبة للمَرْأة المُؤمِنة كالرجُل مع المرأة، وهذا أحَدُ القولين في هذه المَسأَلةِ؛ على أن الإضافة هنا من باب إضافة المَوصوف إلى صِفته، بمَعنَى: أنها إضافة صِفة أي: ولا النِّساء اللاتي شارَكْنَهنَّ في الإيمان.

وعلَّلوا ذلك أيضًا بأن المَرأة الكافِرة لا يُؤْمَن مَن أن تُفْشِيَ ما تَراه من المرأة المُؤمِنة؛ لأنها ليس عندها إيمان يَرْدَعُها؛ وبِناءً على هذا القَوْلِ فإنه يَجِب على أُولئك الجَماعةِ الذين عندهم من الخَدَم الكافِرات يَجِب على نِسائهم أن يَحْتَجِبوا عن هؤلاءِ الخادِماتِ؛ لأنهنَّ كافِراتٌ، ونحن نَقول هذا -مع بالِغ الأسَف- أن يَكون لدى المُؤمِنين خدَمٌ من غير المُسلِمين؛ لأن معنى ذلك أن الرجُل أو المَرأة يتَصبَّح ويَتمَسَّى، وفي كل وقت يَنظُر بمِلْء عَيْنيه إلى مَن هو عَدوٌّ للَّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وعَدُوٌّ له أيضًا، كما قال اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] ليس هو عَدوَّ اللَّه تعالى فقَطْ، بل عَدوٌّ للَّه تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمُؤمِنين؛ ولهذا الذي هو في بَيْتِه.

ومع ذلك -نَسأَلُ اللَّه تعالى السلامة والعافِية- تَجِد هَؤلاء يَحتَضِنون مثل هؤلاءِ الكُفَّارِ غيرَ مُبالين بهِمْ وغيرَ مُبالين بكَوْنهم مخُالِفين لهم في الدِّين والعَقيدة والعمَل، بل إن بعضهم يَحتَضِنُهم فَرحًا بهم؛ لأن الشَّيْطان زيَّن لهم أنهم أَنصَحُ في العمَل وأَتقَنُ وأَجْلَدُ وأَصْبَرُ، وهذا من البَلِيَّة والمِحْنة التي امْتُحِن بها الناس في هذا الزمانِ ولا سيَّما في هذه الجَزيرةِ العرَبية مع قول الرسول عليه الصلاة والسلام:"أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ"

(1)

، "وَأَخْرِجُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة؟ ، رقم (3053)، ومسلم: كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء، رقم (1637)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 452

جَزِيرَةِ الْعَرَبِ"

(1)

، وهؤلاءِ بدَلَ أن يُخرِجوهم يَحتَضِنونهم.

ثُمَّ إنه لو لم يَكُن من مَضرَّة هؤلاءِ الخدَمِ الكافِراتِ إلَّا أن هؤلاء -الذين يَقولون: إنهم مُسلِمون وهُمْ كما قالوا- تَذهَب عنهمُ الغَيْرةُ من نفوسهم وكراهة الكُفَّار، حتى يَكون هؤلاء كغَيْرهم كأنهم مُسلِمون؛ لأنهم يَألَفونهم ويَرَوْنهم ويُشاهِدونهم، وكما قيل: إذا كثُرَ الإِمساسُ قَلَّ الإِحْساس.

وهذه مَسأَلة خَطيرة جِدًّا، نَسأَل اللَّه تعالى أن يُسلِّط ولاة الأُمور على مَنْعها من هذه البِلادِ؛ لأنه:

أوَّلًا: قد يَكون لا داعِيَ إلى وجود الخادِم في البيت.

ثانيًا: إذا دعَتِ الحاجة فلْتكُن مُسلِمة، من الدوَلِ المُسلِمة الفَقيرة التي يَنتَفِع المُسلِمون بما يُدْفَع لهذه الخادِمِ من الأُجْرة، أمَّا أن يَجعَل كُفَّارًا يُؤخَذ من أُجورهم ما تُعْمَر به الكَنائِسُ وما يُقَوَّى به دَعوة التَّنصير فإن هذا -لا شَكَّ عند التَّأمُّل فيه-: يَجِد هؤلاءِ القَوْمُ الذين يَستَخدِمون الكافِراتِ والكافِرين: أنهم مخُطِئُون خطَأً عظيمًا فادِحًا إن كان لهم قُلوب.

فأمَّا إن كان قُلوبهم قد عمِيَت، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فيُمكِن أن قلوبهم قد مَرِضت وصَدَأَت من المَعاصي وعدَم المُبالاة وعدَم الغَيْرة، فلا يُحِسُّون بهذا الأَمرِ الخَطير، ولكن بلَغَني أن رجُلًا كان من أهل الخير وقدِ اغْتَرَّ ببعض هؤلاء الخَدَمِ، كان يَجلِس مع أولادِه ويُعلِّمهم مَبادِئ

(1)

أخرجه البزار في مسنده رقم (230)، من حديث عمر رضي الله عنه. وهو عند مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، رقم (1767)، بلفظ:"لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب".

ص: 453

الإسلام فقال لواحِد من الصِّغار: مَن ربُّك؟ قال: ربِّي عِيسى ابنُ مَريَمَ! ! من أين جاء هذا الطِّفلُ وهو في عُشِّ المُسلِمين إلَّا من هذه الخادِمةِ، هذه الخادِمةُ قد تَكون مَغرورة ومخَدوعة في بني قومها ولا تَعرِف إلَّا هذا، لكن هذا الطِّفلُ عاشَ بين المُسلِمين كيف لا يَعرِف إلَّا هذا؟ ! فهذا من الخَطَرِ العظيم بالنِّسبة لهؤلاء الخَدَمِ من الكُفَّار والكافِرات، نَسأَل اللَّه تعالى السلامةَ.

المُهِمُّ: أن كثيرًا من أهل العِلْم رحمهم الله يَقولون: إن مَعنَى قوله تعالى: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} أي: المُؤمِنات ولا النِّساء المُشارِكات لهُنَّ في الإيمان؛ لأن المُضاف من جِنْس المُضاف إليه.

وقال بعضُ العُلَماء رحمهم الله: المُراد بنِسائِهنَّ ما كان من جِنْسهنَّ؛ أي: النِّساء اللاتي يُشارِكْنَهنَّ في الأُنوثة؛ فهو من باب إضافة الجِنْس إلى جِنْسه، وهذا القولُ هو مَذهَب الإمامِ أَحمدَ

(1)

رحمه الله المَشهورِ مِن مَذهَبه، وهو أَقرَب إلى الصواب؛ لأن تَعلُّق المرأة بالمرأة لا يَختَلِف باختِلاف الدِّين، وليس كتَعلُّق الرجُل بالمَرأة، فالصواب أن المُراد بنِسائِهنَّ أي: النِّساء اللاتي من جِنْسهِنَّ في الأُنوثة.

فإن قال قائِل: لماذا قُلْنا في الآية الأُولى: إن فيها مُستَثْنًى منه، وهمُ الرِّجالُ، وفي الآية الأُخرى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} أي: النساءِ؟

فالجَوابُ: لأن قوله تعالى: {فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يَتعَلَّق بشَيْئَين: سائِل ومَسؤول؛ ففي الأَوَّل علَّق الخِطاب بالسائِل، وفي الثاني علَّق بالمَسؤُول من باب التَّفنُّن، ولأَجْل أن يَشمَل هذا ما إذا كانت المسألةُ في سُؤال المَتاع وفي غيرِه.

(1)

انظر: المغني (7/ 105)، والشرح الكبير (7/ 351).

ص: 454

وقوله تعالى: {وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يَعنِي: ولا جُناح عليهنَّ في ما ملَكَت أيمانُهنَّ، قال رحمه الله:[مِن الإِماءِ والعَبيد].

قوله تعالى: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أي: ملَكَتْه مِلْكًا تامًّا لا مِلْكًا مُشتَرَكًا، فلو كان عَبْدٌ بين امرأتَيْن، فإنه لا يَحِلُّ لواحِدة منهما أن تَكْشِف وجهَها له؛ وذلك لأنه ليس مِلْك لإِحْداهما، بل مِلْك لهما جميعًا، والآيةُ:{مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} .

وقوله تبارك وتعالى: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أَضاف المِلْك إلى اليمين؛ لأن الأَخْذ والإعطاء يَكون باليَمين غالِبًا، وقوله رحمه الله:[مِن الإِماءِ والعَبيد]، أمَّا قوله رحمه الله:[مِن العَبيد] فظاهِر، وأمَّا قوله رحمه الله:[مِن الإِماء] فبِناءً على أن قوله رحمه الله: [{نِسَائِهِنَّ} أي: المُؤمِنات]، فإذا كان للمَرأة أَمَةٌ كافِرة فلا يَلزَمها أن تَحْتَجِبَ عنها؛ لأنها ممَّا ملَكت يَمينُها، وكلُّ هؤلاءِ المُستَثْنَيْن كلُّهم محَارِمُ إلَّا ما ملَكَت أيمانُهن فلَيْسوا بمَحارِمَ؛ لأن التَّحريم فيهم إلى أَمَدٍ، والمَحرَمية إنما تَثبُت فيما إذا كان التَّحريم مُؤبَّدًا؛ ولهذا أُخْتُ الزوجة حَرام وليسَت بمَحْرَم، والمَملوك حرام على مَملوكته، ولا يَلزَمها أن تَحتَجِب عنه، ولكنه ليس بمَحْرَم لها بدليل أنه إذا خرَج عن مِلْكها لَزِمها أن تَحتَجِب عنه؛ قال رحمه الله:[{مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من الإِماءِ والعَبيد أن يَرَوْهُنَّ ويُكلِّموهنَّ من غَيرِ حِجاب].

ثُمَّ قال رحمه الله: [{وَاتَّقِينَ اللَّهَ} فيما أُمِرْتُنَّ به]{وَاتَّقِينَ اللَّهَ} الواو حَرْف عَطْف، و (اتَّقِينَ) فِعْل أَمْر، لكن حَدُّ الفِعْل الياء، والنُّون فاعِلٌ، وهنا في الجُمْلة الْتِفاتٌ من الغيبة إلى الخِطاب؛ فقوله تبارك وتعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ} هذا ضَمير غائِب، {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} ضمير مخُاطَب، وقد ذكَرْنا أنه من فوائِد الالْتِفات: تَنبيهُ المُخاطَب؛ لأن الكلام إذا كان على نَسَق واحِد فقَدْ لا يَكون من الإنسان انتِباهٌ، فإذا اختَلَف النَّسَق

ص: 455

حصَل التَّنبُّه، ثُمَّ إن في الالتِفات هنا فائِدة أُخرى: وهي مُواجَهَتُهُنَّ بالأَمْر بتَقوى اللَّه عز وجل، وهذا الخِطابُ مُوجَّه لأَطهَر النِّساء على الإطلاق، وهنَّ زوجاتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: اتَّقِينَ اللَّه تعالى أن تَرَيْن أحَدًا سِوى هؤلاء، أو أن يَرَاكُنَّ أحَدٌ سِوى هؤلاء، فإذا كان هذا الخِطابُ مُوجَّهًا إلى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وهُنَّ أطهَرُ النساء وأَكرَمُهنَّ عِفَّةً، فما بالُك بمَن دونهنَّ؟ ! فإنه يُوجَّه إليهنَّ من الأمر بالتَّقوَى أكثَرَ ممَّا يُوجَّه إلى نِساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله رحمه الله: [{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} لا يَخْفى عليه شَيْء]، وهنا قال:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} ؛ لأن الحِجاب وعدَمه ممَّا يُرَى، فناسَب أن يَختِم الآية بذِكْر شهادة اللَّه عز وجل على كل شيء تَحذيرًا من مُخالَفته بعدَم الاحتِجاب ممَّن يَجِب الاحتِجاب عنه.

من فوائد الآية الكريمة:

الْفَائِدَة الأُولَى: أنه لا يَجِب الاحتِجاب عمَّن ذُكِر في هذه الآيةِ؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} .

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن نِساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُكلَّفاتٌ، يَعنِي: يَلحَقهم التَّكليفُ كغيرهنَّ من النساء؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ} .

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن المُحرَّمات في النِّكاح مَحارِمُ؛ لأن هؤلاءِ المَذكورين محُرَّمون في النِّكاح فهم مَحارِمُ، وهذه قاعِدةٌ: كُلُّ مَن يَحرُم في النِّكاح تحريمًا مُؤبَّدًا فهن مَحارِمُ، وأمَّا مَن يَحرُم تَحريمًا إلى أمَدٍ فلَيْسوا بمَحارِمَ، وعلى هذا فقوله تعالى:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} ليسوا بمَحارِمَ؛ لأن التحريم إلى أمَدٍ.

ص: 456

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنه لا يَجِب على المرأة أَنْ تَحتَجِبَ عن المَرأة؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلَا نِسَائِهِنَّ} وهل يُشتَرَط أن تَكون مُؤمِنة؟ فيه قولان لأهل العِلْم، والراجِحُ أنه لا يُشتَرَط، وأنه ليس العِلَّةُ الكُفْرَ، وإنما العِلَّة الجِنْس، فما دامت من جِنْسها فإنها لا تَتَعلَّق بها كما يَتعلَّق الرجال بالنِّساء.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: وُجوبُ تَقوى اللَّه عز وجل؛ لقوله تعالى: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} والعِناية بها حيث انتَقَل فيها من أُسلوب إلى آخَرَ للتَّنَبُّه لها.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن الأمر المُوجَّه للإنسان بالتَّقوى لا يَعنِي أنه غير مُتَّقٍ، إذ قد يُراد به الأمر بالاستِمرار على التَّقوى، ويَدُلُّ لذلك أيضًا قوله في أوَّل السورة:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} مع أن بعض الناس لو تَقولُ له: يا أَخي اتَّقِ اللَّه. لاشتاط غضَبًا، وقال: أنا لن أتَّقِيَ. فيُقال له: إن اللَّه تعالى أمَرَ نَبيَّه صلى الله عليه وسلم وهو أَتقَى مِنك بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ، وهذه {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أَمْرٌ لنِساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: تَحذير الإنسان من مخُالَفة تَقوَى اللَّه تعالى؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} فإن خالَفْتُن ولم تَتَّقِين اللَّه تبارك وتعالى فاللَّه تعالى شَهيد عليكن.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: إثبات اسمِ الشَّهيد للَّه تعالى، لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} ، والشَّهيد مَعناه: هو الحاضِر الذي لا يَغيب، المُطَّلِع الذي لا يَخْفى عليه شيء، فهو سبحانه وتعالى حاضِر لا يَغيب، لكن ليس حاضِرًا بمَعنَى أنه في الأرض، بل هو في السَّماء على عَرْشه، وهو مُطَّلِع لا يَخْفَى عليه شيء.

مَسأَلة: المَقتول في المَعرَكة يُطْلَق عليه شَهيد؛ وتَقدَّم أن مَعنَى الشَّهيد: الذي لا يَغيب، فما الوجه بينه وبين شَهيد المَعرَكة؟

ص: 457

الجَوابُ: الشَّهيد في المَعرَكة؛ لأن عَرْضَ نَفْسِه للقَتْل دليلٌ على شهادته الفِعْلية بصِحَّة ما هو عليه، أو أن مَعناه: الشَّهيد الذي تَشهَده مَلائِكة اللَّه تعالى المُقرَّبون وما أَشبَهَ ذلك، والمَعنَى الأوَّل أَوضَحُ.

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: عِناية اللَّه سبحانه وتعالى برسوله مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، وذلك بتَوْجيه هذه الإرشاداتِ إلى نِسائِهِ.

* * *

ص: 458