الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة خمس عشرة وخمسمائة
فيها قتل الأفضل بن أمير الجيوش يوم الأحد سلخ شهر رمضان وعمره سبع وخمسون سنة، لأن مولده بعكا سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. وكان سبب ذلك أنه لما كان ليلة عيد الفطر جهز ما جرت العادة بتجهيزه من الدواب والآلات لركوب الخليفة، وجلس بين يديه إلى أن عرضت الطبول على العادة كل سنة والدواب والسلاح؛ ثم عاد وأدى ما يجب من سلام الخليفة فتقدم إلى القائد أبي عبد الله بن فاتك بأن يأمر صاحب السير أن يصف العساكر إلى صوب باب الخوخة. وركب الأفضل من مكانه والناس على طبقاتهم، وخرج من باب الخوخة قاصداً دار الذهب، فلما حصل بها وقع التعجب من الناس في نزوله ليلة الموسم، ولم يعلم أحد ما قصد؛ وكان قصده أن يكمل تعليق المجلس الذي يجلس فيه. فصلى بدار الذهب الظهر، فلما قرب العصر ركب منها وقد انصرف أكثر المستخدمين ظنا منهم أنه يبيت فيها. فسار إلى الزهري فإذا الأمراء والأجناد والمستخدمون والرهجية قد اتجهوا لخدمته، وكان قد ضجر وتغير خلقه ولا سيما في الصيام. فلما رأى اجتماع الناس وكثرتهم أبعدهم، فتقدموا ووقفوا عند باب الساحل، فأنفذ أيضا يخرج من أبعدهم، وبقى في عدة يسيرة، وأبعد صبيان السلاح من ورائه؛ فوثب عليه من دكان دقاق بالملاحين أربعة نفر متتابعين كلما اشتغل من حوله واحد خرج
غيره؛ فرمى من الفرس إلى الأرض، وضربوه ثمان ضربات. وكان القائد بعيدا منه لأخذ رقاع الناس وسماع تظلمهم وتفريق الصدقات على الفقراء بالطريق؛ فلما سمع الضوضاء أسرع إليه ورمى نفسه إلى الأرض عليه، فوجده قد قضى نحبه. وحمل على أيدي مقدمي ركابه والقائد راجل، وهم يبشرون الناس بالسلامة. وقتل من الذين خرجوا عليه ثلاثة وقطعوا وأحرقوا، وسلم الرابع، وكان اسمه سالماً، ولم يعلم به إلا لما ظفر به مع غيره بعد مدة.
ولم يزل الأفضل محمولا ولا يمكن أحد من الوصول إليه إلى أن دخل به على مرتبته التي كان يجلس عليها أو يمطى. وقال القائد للخليفة أدركني وتسلم ملكك لئلا أغلب عليه. وصار أي من لقيه يهنئه بسلامة السلطان ويوهم أهله أن الطبيب عنده، ويأمرهم بتهيئة الفراريج والفواكه. وعاد إلى قاعة الجلوس فوجدها قد غصت بالناس، فرد عليهم السلام وهنأهم، وأظهر قوة عزم؛ ثم عاد إلى القاعة الكبيرة وقد حضر إليه متولى المائدة الأفضلية واستأذنه على السماط المختص بالعيد فقال له اذبح ووسع، فالسلطان بكل نعمة وهو الذي يجلس على السماط في غد؛ ومع ذلك فكان في قلق وخوف شديد من أن يبلغ أولاد الأفضل فيجري عنهم ما لا يستدرك وتنهب الدار.
فلما أصبح الصباح وركب الخليفة ودخل إلى الدهليز الذي كان يركب منه الأفضل ومعه الأستاذون المحنكون قال القائد أبو عبد الله للخليفة: عن إذن مولانا أفتح الباب؛ وكان قد منع من الدخول إلى الدار؛ فقال الخليفة: نعم ففتح على الأفضل وقال له القائد: الله يطيل عمر أمير المؤمنين ويفسح في مدته ويورثه أعمار مماليكه؛ هذا وزيره قد صار إلى الله تعالى، وهذا ملكه يتسلمه. ثم ضربت للوقت المقرمة على الأفضل؛ وأمر الخليفة بإحضار من بالقاعة من الأمراء والأجناد، فدخل الناس على غير طبقاتهم إلى أن مثلوا بين
يدي الخليفة وهو قاعد على الحصير عند المقرمة، فقال الخليفة للأمراء: هذا وزيري قد صار إلى الله تعالى، ومنكم إلي ومني إليكم، وقد كان القائد واسطته إليكم وهو اليوم واسطتي إليكم. فشكر الحاضرون ذلك؛ هذا والقائد وولده مشدودو الأوساط بالمناطق وصاحب الباب على ما كانوا عليه. وتقدم إلى الشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة أن يكتب إلى الأعمال بذلكن وأمر الأمراء بالانصراف.
ثم قال القائد: يا مولانا؛ الأموال والجواهر على اختلافها في الخزائن الكبار عنده، وهي مقفلة ومفاتيحها عندي، وختم عليها وهي في بيت المال المصون؛ وكذلك المفضض التي عند المستخدمين برسم الاستعمال والميناء الذهب المرصعة والتي بغير ترصيع، والبلور التي برسم استعماله؛ جميع ذلك مثبت عند متولي دفتر المجلس إلا خزانة الكسوة التي برسم ملبوسه ما عندي منها خبر، فأمر من يدخل ويختم عليها. فأمر متولي الخزائن الخاص، وكان سيف الأستاذين، ومتولي بيت المال ومتولي الدفتر، وهم كبار الأستاذين المحنكين بأن يدخلوا ويجتمعوا، ولا يعترض غيرها لا لولده ولا لجهته ولا لبناته ولا لأحد من عياله.
فتوجهوا وقرعوا الباب. فلما شاهدهم النساء تحققوا الوفاة، وقام الصراخ من جميع جوانب المواضع؛ وكانت ساعة أزعجت كل من بمصر والجيزة والجزيرة؛ ثم أسكتوا. وأنفذت الرسل لختم الخزائن التي بمصر. فبينما هم على ذلك في الليل إذ وصل إلى الخليفة رقعتان على يد أستاذ من القاهرة، من رجلين من جملة الحاشية، يذكران فيها أن أولاد الأفضل قد جمعوا عدة وشنعت حاشيتهم أن في بكرة هذه الليلة يستنصرون بالبساطية والأرمن ويثورون في طلب الوزارة لأخيهم الأكبر فامتعض الخليفة لذلك، وهم بالإرسال إليهم وقتلهم؛ ثم تقرر الأمر على أن يودعوا الخزانة من غير إهانة ولا قيود؛ فتوجه إليهم، فإذا جميع حاشيتهم وغيرها عندهم، والخيل قد شدت، فأودعوا الخزانة.
فلما أصبح الصباح كان قد حمل من القصر في الليل طوافير فيها عدة موائد للفطر في يوم العيد، وحمل برسم فطر الخليفة الصواني الذهب وعليها اللفائف الشرب المذهبة. وكان قد هيئ للخليفة من الليل موضع للمبيت بحيث يبعد عن الأفضل، وعين من وقع الاختيار عليه لقراءة القرآن عند الأفضل.
فلما كان السحر من عيد الفطر جئ بين يدي الخليفة بما أحضر من قصوره في مواعينه الذهب المرصعة، وعليها المناديل المذهبة من التمر المحشو والجوارشيات بأنواع الطيب وغير ذلك؛ فاستدعى الخليفة القائد وأمره بالمضي إلى باب الحرم لإحضار الأجل المرتضى ابن الأفضل؛ فمضى لذلك، فأبت أمه من تمكنهم منه؛ فما زال بها حتى أسلمته إليه بعد جهد. فأتى به الخليفة فسلم به، وضمه الخليفة إليه وقبله بين عينيه، وأجلسه عن يمينه والقائد عن شماله، وبقية الخواص على مراتبهم.
ثم كبر مؤذنو القصر، فسمى الخليفة وأخذ تمرة وأكل بعضها وناولها للقائد، ثم ناول الثانية لولد الأفضل؛ فقام كل منهما وقبل الأرض ولم يجلس. وتقدم كل من الحاضرين فأخذ من يد الخليفة من التمر ووقف. فاستدعى القائد الفراش الذي معه الصينيتان النحاس، وأمر فراشي الأسمطة بنقل ما في الأواني التي بين يدي الخليفة في الصواني لتفرق في الأمراء الذين بالقاعة والدهاليز، فنقلت إليها وحملت إلى المقرمة التي الأفضل وراءها وختم المقرئون.
ثم أظهر الخليفة الحزن على فقد وزيره، فتلثم وتلثم جميع المحنكين والحاشية، وجلس الخليفة على المخدة عند المقرمة، وأمر حسام الملك، حاجب الباب، بإحضار القاضي والداعي والأمراء، فدخل الناس على طبقاتهم. فلما رأوا زي الخليفة اشتد البكاء والعويل، وخرق كل أحد ما عليه، ورميت المناديل، يعني العمائم، إلى الأرض، وبكى الخليفة وحاشيته ساعة. ثم سأل القائد الخليفة أن يفطر على ثمرة بحيث يشاهده جميع من حضر، ففعل ذلك.
ثم أشار الخليفة إلى القائد أن يكلم الناس عنه: فقال: أمير المؤمنين يرد السلام
عليكم، وقد شاهدتم فعله وكونه لم يشغله مصابه بوزيره ومدبر دولته ودولة آبائه عن قضاء فرض هذا اليوم، وقد أفطر بمشاهدتكم، وأمركم بالإفطار. فمسح الخليفة بيده على الصواني، وتقدم القائد إلى الخليفة وصار يناوله من الصواني بيده؛ فأول ما مد إلى القاضي ثم الداعي، ونزل الناس للأكل. ورفعت الصواني، فأخذ القائد يد الداعي وقربه من الخليفة، فناوله الخليفة الخطبة، وكانت على يساره ملفوفة في منديل شرب بياض مذهب، فقبلها الداعي وجعلها على رأسه، وضمها إلى صدره. وتقدم القائد لحسام الملك بأن يأخذ الأمراء جميعهم ويطلعون إلى المصلى بالقاهرة لقضاء الصلاة، فتوجهوا في زي الحزن والمؤذنون بين أيديهم. فصلى الداعي بالناس، ثم صعد المنبر فوقف على الدرجة الثالثة منه، وخطب. وكانت الخطبة مبيتة فيها الدعاء للأفضل والترحم عليه وعندما توجه الناس إلى المصلى أمر ولد الأفضل بالمضي إلى أمه وإخوته وجهات أبيه ليرد عليهم السلام من أمير المؤمنين ويفطرهم.
وخلا الخليفة بالقائد وأمره بإخراج جميع الجواهر؛ فقام إلى خزانة كانت قد بنيت برسم الأفضل، فوجد بها خيمة، ففتحها وأخرج قمطرين عليهما حلية ذهب مملوءين جواهر ما بين عقود مفصلة بياقوت وزمرد وسبح؛ وقمطرا فيه إحدى عشرة شرابة طول كل شرابة شبران بجواهر ما يقع عليها نظر؛ وصناديق فضة مملوءة مضافات ما بين عصائب وتيجان ذهب مرصعة بجواهر نفيسة. ففتحت كلها، فشاهد الخليفة منها ما لا يوصف؛ فسر بذلك سرورا كبيرا، وشكر القائد وقال: والله إنك المأمون حقاً مالك في هذا النعت شريك. فقبل الأرض ويديه.
ولهذا النعت قضية. وذلك أنه لما كان في الأيام المستنصرية، وعمر القائد يومئذ اثنتا عشرة سنة، وكان من جملة خاصة المستنصر يرسله إلى بيت المال وخزانة الصاغة في مهماته، فيجد منه النهضة والأمانة، فيقول هذا المأمون دون الجماعة. ودرجت
السنون، فذكرها الخليفة الآمر في ذلك الوقت فقال له: أنت المأمون على الحقيقة لأجل ذلك.
ثم عاد حسام الملك أفتكين صاحب الباب، والداعي وجميع الأمراء من المصلى، ومثلوا بين يدي الخليفة. ووقع حينئذ الاهتمام بتجهيز الأفضل؛ وتقدم إلى زمام القصور بإخراج ما قد مازجه عرف الأئمة، وتقدم إلى ريحان متولى بيت المال بإخراج ما يجب إخراجه برسم المأتم؛ فمضيا. وتقدم إلى حسام الملك بإعلام الأمراء والاجناد والشهود والقضاة والمتصدرين والمقربين وبنى الجوهري الوعاظ وغيرهم لحضور الجنازة وتلاوة القرآن. فعاد زمام القصور ومتولى بيت المال ومعهما عشرون صينية ملفوفة في عراض دبيقي بياض مملوءة صندلا مطحونا، ومسكا وكافورا وحنوطا وقطنا، وفي صدر الآخر منديل ديباج فيه ما رسم بإحضاره من ملابس الخلفاء وطيالسهم. ووصلت أيضا الموائد على رءوس الفراشين، وهي مائة شدة، صحبة متولى المائدة الآمرية؛ فمد السماط بين يدي الخليفة، ومد سماطان، أحدهما بالقاعة وهو برسم الأمراء، والآخر برسم القاضي والداعي والشهود والمقربين والوعاظ والمؤمنين، وحمل إلى الجهات الأفضليات شيء كثير.
فلما انقضى الأكل عاد الجميع بالقاعة، وذكر أنه ختم على الأفضل في هاتين الليلتين واليوم نيف وخمسون ختمة. فلما انقضى معظم الليلة، الثاني من شوال، تقدم الخليفة بإحضار داعي الدعاة، ولي الدولة ابن عبد الحقيق، وأمره بغسل الأفضل على ما يقتضيه مذهبه، وكفن بما حضر من القصر، وأخرج للداعي بذلتان مكملتان، مذهبة وحرير، عوضا عما كان على الأفضل من ثياب الدم، فإنها لم تنزع عنه، وعند كمال غسله دفع للداعي ألف دينار.
فلما كان في الثالثة من نهار يوم الثلاثاء ثاني شوال خرج التابوت بالجمع الذي لا يحصى،
والناس بأجمعهم رجالة، وليس وراءهم راكب إلا الخليفة بمفرده وهو ملثم. فلما خرج التابوت من بلد مصر أمر الخليفة بركوب القائد والمرتضى ولد الأفضل، وذكر أن الشيخ أبا الحسن بن أبي أسامة ركب حماراً، فلما وصلت الجنازة إلى باب زويلة ترجل القائد والمرتضى ومشيا؛ وبعث الخليفة خواصه إلى أخويه أبي الفضل جعفر وأبي القاسم عبد الصمد، وأمرهما إذا وصل التابوت إلى باب الزهومة أن يخرجا بغير مناديل، بعمائم صغار وطيالس؛ فإذا قضيا ما يجب من حق سلام الخليفة سلما على القائد أبي عبد الله بمثل ما كانا يسلمان على الأفضل، ويمشيان معه وراء التابوت. فاعتمدا ذلك. فاستعظم الناس هذه الحالة والمكارمة؛ ولم يزالا مع الناس وراء التابوت إلى أن دخل من باب العيد.
فلما صار التابوت في وسط الإيوان هم الخليفة بأن يترجل، فسارع إليه القائد والمرتضى، وصاح الناس بأجمعهم: العفو يا أمير المؤمنين. عدة مرار. فترجل الخليفة على الكرسي، وصلى عليه، ورفع التابوت فمشى وراءه، وركب الخليفة الفرس على ما كان عليه؛ ونزل التربة ظاهر باب النصر ووقف على شفير القبر إلى أن حضر التابوت. واستفتح ابن القارح المغربي وقرأ:" وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ " الآية. فوقعت من الناس موقعا عظيما، وبكوا، وبكى الخليفة، وهم بنزول القبر ليلحده بيده؛ ثم أمر الداعي فنزل وألحده والخليفة قائم إلى أن كملت مواراته، ثم ركب من التربة والناس بأجمعهم بين يديه إلى قصره.
وأخرج من قاعة الفضة بالقصر ثلاثون حسكة، وثلاثون بخورا مكملة، وخمسون مثقال ند وعود، وشمع كثير، فأشعلت الشموع إلى أن صلى الصبح وأطلق البخور، واستقر جلوس الناس؛ فصلى القاضي بالناس، وفتح باب مجلس الأفضل المعلق بالستور الفرقوبي الذي لم يكن حظه منه إلا جوازه عليه قتيلا. ورفعت الستور، وجلس الخليفة على المخاد الطرية التي عملت في وسطه؛ وسلم الناس على منازلهم، وتلي القرآن العظيم. وتقدمت الشعراء في رثائه إلى أن استحق الختم فختم. ثم خرج القائد والأمراء إلى التربة فكان بها مثل ما كان بالدار من الآلات والبخور. وعمل في اليوم الثاني كذلك.
وكان عمر الأفضل يوم مات سبعاً وخمسين سنة، ومدة ولايته ثمانية وعشرون عاماً
ويقال إن الآمر وافق المأمون على قتله، فرتب له من قتله.
ثم أمر أن يكتب سجل بتعزية الكافة في الأفضل والثناء على خصائصه ومساعيه، وإشعارهم بصرف العناية إليهم ومد رواق العدل عليهم؛ وتفريقه على نسخ تتلى على رءوس الأشهاد وبسائر البلاد. فكتب ما مثاله:
هذا كتاب من عبد الله ووليه المنصور أبي علي، الإمام الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين بما رآه وأمر به من تلاوة على كافة من بمدينة مصر حرسها الله تعالى من الأشراف والأمراء ورجال العساكر المؤيدة على اختلاف طبقاتهم، فارسهم ومترجلهم وراجلهم، والقضاة والشهود والأماثل، وجميع الرعايا، بأنكم قد علمتم ما أحدثته الأيام بتصاريفها، وجرت به الأقدار على عادتها ومألوفها من فقد السيد الأجل الأفضل ونعوته قدس الله روحه، ونور ضريحه، وحشره مع مواليه الطاهرين الذين جعلهم أعلام الهدى ومصابيحه الذي كان عماد دولة أمير المؤمنين وحمال أثقالها، وعلى يديه وحسن سيرته اعتمادها ومعولها، وتخطى الحمام إليه، واخترام المنية إياه وتسلطها عليه؛ وما تدارك الله الدولة به من حفظ نظامها، واستتار أمورها بعد هذا الفادح العظيم والتئامها؛ وما رآه أمير المؤمنين من تهذيبه الأمور بنظره السعيد، ومباشرته إياها بعزمه الشديد ورأيه السديد، واهتمامه بمصالح الكافة، وإسباغ ظل الإحسان عليهم والرأفة، حتى أصبحت الدولة الفاطمية بذلك ظليلة المناكب، منيرة الكواكب، محروسة الأرجاء والجوانب.
ولما كانت همة أمير المؤمنين مصروفة إلى الاهتمام بكم، والنظر في مصالحكم، والإحسان إليكم، وتأمين سربكم، وإعذاب شربكم، ومد رواق العدل عليكم، وإنصاف مظلومكم من ظالمكم، وضعيفكم من قويكم، ومشروفكم من شريفكم، وكف عوادي المضار بأسرها عنكم، وتمكينكم من التصرف في أديانكم على ما يعتقده كل منكم، جارين على رسمكم وعادتكم، من غير اعتراض عليكم رأى ما خرج به عالي أمره من كتب هذا السجل وتلاوته على جميعكم، لتثقوا به، وتسكنوا إليه، وتتحققوا جميل رأى أمير المؤمنين فيكم؛ وأنه لا يشغله عن مصالح الكافة شاغل، وأن باب رحمته مفتوح لمن قصده، وإحسانه عميم شامل، وله إلى تأمل أحوال الصغير والكبير منكم عين ناظرة،
وفي إحسان سياستكم عزيمة حاضرة وأفعال ظاهرة. والله تعالى يمده بحسن الإرشاد، ويبلغه المراد في مصالح العباد والبلاد، بمنه وعونه. فاعلموا هذا من أمير المؤمنين ورسمه، وانتهوا إلى موجبه وحكمه وليعتمد الأمير متولى المعونة بمصر تلاوته على منبر الجامع العتيق بمصر ليعيه كل من سمعه، ويصل علم مضمونه إلى من لم يحضر قراءته، ليتحققوا ما ذكر فيه وأودعه؛ وليحمل الناس على ما أمرتهم فيه، وليحذر من مجاوزته وتعديه. وليقرأ بالجامع المذكور ليقع التصفح والتأمل في اليوم وما يليه إن شاء الله تعالى.
ثم أمر الخليفة بإنشاء منشور يتلى، مضمونه: خرج أمر أمير المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، بإنشاء هذا المنشور بأن يعتمد في ديوان التحقيق والمجلس وسائر دواوين الدولة، قاصيها ودانيها، قريبها ونائيها، إمضاء ما كان السيد الأجل الأفضل قرره، وخرجت به توقيعاته الثابتة عليها علامته في الأحكام والأموال بتصاريف الأحوال، إذ أمر أمير المؤمنين راض بأفعاله، محقق لأقواله، حامد لمقاصده، ممض لأحكامه، عارف بسداد رأيه في نقضه وإبرامه، على أوضاعها وأحكامها، وتقريراته في كل منها. فليحذر كافة الأمراء وسائر الولاة نصرهم الله وأظفرهم وجميع النواب والمستخدمين، والكتاب والمتصرفين بجميع الأعمال من تأول فيه، أو تعقيد بغير شيئا من أحكامها على ما قرره وأمر به. وليجلد هذا المنشور في ديوان التحقيق والمجلس بعد ثبوته في جميع الدواوين، وليصدر الإعلان به إلى كافة الجهات بهذا المرسوم، تثبيتا لهذا الأمر المذكور المحتوم، إن شاء الله تعالى وفي السادس والعشرين من شوال عمل تمام الشهر على تربة الأفضل، كما عملت الصبحة والثالث. فلما انقضى الختم وانصرف الناس ركب الخليفة بموكبه. ونزل إلى التربة، وترحم عليه وعاد. ذكر هذا جمال الملك موسى بن المأمون البطائحي في تاريخه.
وقال ابن ميسر: وأقام الخليفة في دور الأفضل، وفي دار الملك بمصر ودار الوزارة بالقاهرة وغيرهما مدة أربعين يوما، والكتاب بين يديه يكتبون ما ينقل إلى القصور؛ فوجد له من الذخائر النفيسة ما لا يحصى.
فيما وجد له ستة آلاف ألف دينار عينا، وفي بيت الخاصة ثلاثة آلاف ألف دينار وفي البيت البراني ثلاثة آلاف ألف ومائتا ألف وخمسون ألف دينار؛ ومائتين وخمسين إردبا دراهم ورقاً؛ وثلاثين راحلة من الذهب العراقي المغزول برسم الرقم؛ وعشرة بيوت في كل بيت عشرة مسامير ذهب كل مسمار وزنه مائتا مثقال عليها العمائم المختلفة الألوان؛ وتسعمائة ثوب ديباج ملونة؛ وخمسمائة صندوق من دق دمياط وتنيس برسم كسوة بدنه؛ ولعبة من عنبر على قدر جسده برسم ما يعمل عليها من ثيابه لتكتسب الرائحة؛ ومن الطيب والآلات ما لا يحصى عدده؛ ومن الأبقار والجاموس والأغنام والجمال ما بلغ ضمان ألبان ونتاجه في سنة نحو أربعين ألف دينار؛ ودواية يكتب منها مرصعة بالجواهر، قوم جوهرها باثني عشر ألف دينار؛ وخمسمائة ألف مجلدة من الكتب العلمية.
قال: وأخذ الآسر في نقل ما بدار الأفضل إلى القصر، وهو يرتب ما يحمل بنفسه، هو وأصحابه؛ واستمر ذلك مدة شهرين وأيام، والأموال تحمل على بغال وجمال إلى القصر، والآمر يطلع إلى القصر ويعود كل غداة ويقيم حتى يرتفع النهار ويرتب ما يفعل.
وذكر متولي الخزابة بالقصر أن مما وجد في دار الأفضل ستة آلاف ألف وأربعمائة ألف دينار؛ وورق قيمته مائتا ألف وعشرون ألف دينار؛ وسبعمائة طوق ما بين ذهب وفضة؛ ومن الأسطال والصحاف والشربات والأباريق والقدور والزبادي الذهب والفضة المختلفة الأجناس ما لا يحصى كثرة؛ ومن براني الصيني الكبار المملوء بالجواهر التي بعضها منظوم كالسبح وبعضها منثور شيء كثير.
وكان الأفضل في أوقات الشرب يصف في مجلسه صواني الذهب وبينها البراني المملوءة بالجواهر، فإذا أحب فرغب البرنية في الصينية فتكون ملئها.
ووجد له من أصناف الديباج وما يجري مجراه من عتابي ونحوه تسعون ألف ثوب وثلاث خزائن كبار مملوءة صناديق كلها دبيقي وشرب عمل تنيس ودمياط،
على كل صندوق شرح ما فيه وجنسه. وخزانة الطيب مملوءة أسفاطا، فيها العود وغيره، مكتوب على كل سفط وزنه وجنسه؛ وبراني بها المسك والكافور وشيء كثير من العنبر. ووجد مجلس يجلس فيه للشرب فيه ثمان جوار متقابلات، أربع منهن بيض من كافور وأربع سود من عنبر، قيام في المجلس، عليهن أفخر الثياب وأثمن الحلى، بأيديهن مذاب من أعظم الجوهر؛ فإذا دخل من باب المجلس ووطىء العتبة نكسن رءوسهن خدمة له بحركات قد أحكمت؛ فإذا جلس في صدر المجلس استوين قائمات.
ووجد له من المقاطع والستور والفرش والمطارح والمخاد والمساند الديباج والدبيقي الحريري والذهب على اختلاف الأجناس أربع حجر، كل حجرة مملوءة من هذا الجنس. ووجد له عدة صناديق ملء خزانة فيها أحقاق ذهب عراقي برسم الاستعمال. ووجد له منقلات عدة تزيد على المائة، ملبسة بالذهب والفضة، مرصعة بالجوهر؛ وثمانمائة جارية منها خمسة وستون حظية لكل واحدة حجرة وخزائن مملوءة بالكسوة والآلات الذهب والفضة من كل صنف.
وكان في مخازنه تحت يد عماله والجباة وضمان النواحي من المال والغلال والحبوب والقطن والكتان والشمع والحديد والخشب وغير ذلك ما يتعب شرحه.
وحمل من داره أربعة آلاف بساط، وستون حملا طنافس، وخمسمائة قطعة بلور، وخمسمائة قطعة محكم برسم النقل، وألف عدل من متاع اليمن والمغرب، وتسعة آلاف سرج.
قال ابن ميسر: وكان الأفضل من العدل وحسن السيرة في الرعية والتجار على صفة جميلة تجاوز ما سمع به قديماً وشوهد أخيرا، ولم يعرف أحد صودر ولا ضبط عليه. ولما حصر الاسكندرية كان به يهودي يبالغ في سبه وشتمه ولعنه، فلما دخل الأفضل البلد قبض عليه وقدمه للقتل وقد عدد عليه ذنوبه، فقال اليهودي: إن معي خمسة آلاف دينار، خذها مني وأعتقني واعف عني. فقال: والله لولا خشية أن يقال قتله حتى يأخذ ماله لقتلتك؛ وعفا عنه ولم يأخذ منه شيئا. وكان إذا غضب على أحد اعتقله ولم يقتله، فلما مات أطلق من سجنه عشرة آلاف إنسان، فإنه كان إذا اعتقل أحداً نسيه ولا يرى بإخرابه.
وكانت محاسنه كثيرة. وهو أول من أفرد مال المواريث ومنع من أخذ شيء من التركات على العادة القديمة، وأمر بحفظها لأربابها، فإذا حضر من يطلبها وطالعه القاضي بثبوت استحقاقه أمره في الحال بإطلاق ما ثبت له. واجتمع بمودع الحكم من مال المواريث التي تنتظر وصول مستحقها من شرق الدنيا وغربها مائة ألف وثلاثون ألف دينار، فرفع إليه قاضي القضاة ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن علي الرأس عيني لما ولى أن قد اعتبرت ما في مودع الحكم من مال المواريث فكان مائة ألف دينار، ورفعها إلى بيت المال أولى من تركها في المودع، فإن لها السيرة الطويلة لم يطلب شيء منها. فوقع رقعته: إنما قلدناك الحكم ولا رأي لنا فيما لا نستحقه، فاتركه على حاله لمستحقيه ولا تراجع فيه. فأخذها هذا القاضي غرفاً.
وبلغ ارتفاع خراج مصر في أيامه لسنة خمسة آلاف ألف دينار، ومتحصل الأهراء ألف ألف إردب. وبنى في أيامه من المساجد والجوامع جامع الفيلة بالجرف المعروف بالرصد والمسجد المعروف بالجيوشي على سطح الجبل. وبنى مئذنة جامع عمرو بمصر الكبيرة والمئذنة السعيدة به أيضا والمئذنة المستجدة وجامع الجيزة. وعمل خيمة الفرح التي سميت بالقاتول، اشتملت على ألف ألف وأربعمائة ألف ذراع من الثياب، وقائم ارتفاع
العمود الذي لها خمسون ذراعا بذراع العمل، وبلغت النفقة عليها عشرة آلاف ألف دينار. وللشعراء فيها عدة مدائح.
وكان الأفضل يقول الشعر. فمن شعره في غلامه تاج المعالي:
أقضيب يميس، أم هو قدّ
…
أو شقيق يلوح، أو هو خدّ
أنا مثل الهلال خوفاً عليه
…
وهو كالبدر حين وافاه سعد
وكان شديد الغيرة على نسائه. اطلع من سطح داره فرأى جارية من جواريه متطلعة إلى الطريق، فأمر بضرب عنقها. فلما وضعت الرأس بين يديه أنشد:
نظرت إليها وهي تنظر ظلّها
…
فنزّهت نفسي عن شريك مقارب
أغار على أعطافها من ثيابها...... ومن مسك لها في الذّوائب
ولي غيرةٌ لو كان للبدر مثلها
…
لما كان يرضى باجتماع الكواكب
قال: وكان عدة الوعاظ والقراء والمنشدين في عزاء الأفضل أربعمائة وعشرين شخصاً، فخرج أمر الخليفة أن يعطى كل واحد منهم ثمانين دينارا، الصغير مثل الكبير؛ فقال ابن أبي قيراط: يا مولانا، هذا مال كثير. فقال: إنفاذ أمرنا هذا من بعض حقه علينا. فجاء مبلغ ما دفع نحواً من أربعة وثلاثين ألف دينار.
قال: والأفضل هو الذي أنشأ بستان البعل، والمنتزه المعروف بالتاج، والخمس وجوه، والبستان الكبير، والبستان الخاص بقيلوب؛ وجدد بستان الأمير تميم ببركة الحبش، وأنشأ الروضة بحرى الجزيرة، وكان يمضي إليها في العشاريات الموكبية؛ رحمه الله.
في مستهل ذي القعدة خلع على القائد أبي عبد الله بن فاتك بذلة مذهبة بشدة الخليفة الداعية، وحلت المنطقة من وسطه؛ وخلع على ولده بذلة مذهبة وحلت منطقته أيضا؛ وعلى جميع إخوته بمثل ذلك.
واستمر ينفذ الأمور لا يخرج شيء عن نظره إلى مستهل ذي الحجة؛ ففي يوم الجمعة ثانيه خلع عليه من ملابس الخاص الشريف في فرد كم مجلس العيد، وطوق بطوق ذهب مرصع، وسيف ذهب مرصع؛ وسلم على الخليفة، فأمر الخليفة الأمراء وكافة الأستاذين المحنكين بالخروج بين يديه، وأن يركب من المكان الذي كان الأفضل يركب منه.
ومشى في ركابه القواد على عادة من تقدمه، وخرج بتشريف الوزارة، ودخل على باب العيد راكباً، ووصل إلى داره، فضاعف الرسوم وأطلق الهبات.
وفي خامسه اجتمع الأمراء واستدعى الشيخ أبو الحسن بن أبي أسامة، فحضر بالسجل في لفافة خاص مذهبة فسلمه الخليفة إلى الأجل المأمون من يده، فقبله وسلمه لزمام القصر، وأمر الخليفة المأمون فجلس عن يمينه، وقرئ السجل على باب المجلس؛ وهو أول سجل قرئ بهذا المكان، وكانت سجلات الوزراء قبل ذلك تقرأ بالإيوان. ورسم للشيخ أبي الحسن أن ينقل نسبة الأمراء والمحنكين والناس جميعهم من الآمري إلى المأموني، ولم يكن أحد قبل ذلك ينتسب للأفضل ولا لأمير الجيوش. وقدمت للمأمون الدواة فعلم في مجلس الخليفة؛ وتقدم للأمراء والأجناد فقبلوا الأرض وشكروا هذا الإحسان. وأحضرت الخلع؛ فخلع على حاجب الحجاب حسام الملك وطوق بطوق ذهب وسيف ذهب ومنطقة ذهب؛ وخلع على الشيخ أبي الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست، وعلى الشيخ أبي البركات بن أبي الليث، وعلى أبي الرضا سالم بن الشيخ أبي الحسن، وعلى أبي المكارم أخيه، وعلى أبي محمد أخيهما، وعلى أبي الفضل يحيى بن سعيد الميمذي ووصل بدنانير كثيرة بحكم أنه قرأ السجل. وخلع على أبي الفضائل بن أبي الليث صاحب مغفر المجلس. ثم استدعى غذى الملك سعيد ابن عمار الضيف متولى أمور الضيافات والرسل الواصلين الحضرة من جميع الجهات وأخذ أقلامه على التوقيعات فخلع عليه. وفي الأيام الأفضلية لم يكن أحد يدخل مجلسه ولا يصل لعتبته لا من الحجاب ولا غيرهم سوى غذى الملك هذا فإنه كان يقف من داخل العتبة؛ وكانت هذه الخدمة إذ ذاك من أجل الخدم وأكبرها.
وقال أبو الفتح ابن قادوس في مدح المأمون، وقد زيد في نعوته:
قالوا أتاه النّعت، وهو السيد ال
…
أمون حقّا، والأجلّ الأشرف
ومغيث أمة أحمد، ومجيرها
…
ما زادنا شيئا على ما نعرف
وذلك أنه نعت في سجله المقروء على الكافة بالأجل المأمون، تاج الخلافة، وجيه الملك، فخر الصنائع، ذخر أمير المؤمنين. ثم تجدد له في نعوته بعد ذلك الأجل المأمون، تاج الخلافة، عز الإسلام، فخر الأنام، نظام الدين والدنيا. ثم نعت بما كان ينعت به الأفضل، وهو السيد الأجل المأمون، أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادي رعاة المؤمنين.
ولما استمر نظر المأمون للدولة بالغ الخليفة في شكره، فقال له المأمون: ثم كلام يحتاج إلى خلوة. فأمر بخلو المجلس. فقال: يا مولانا امتثال الأمر متعب، ومخالفته أصعب؛ وما تتسع خلافة قدام آمر الدولة وهو في دست خلافته ومنصب آبائه وأجداده، وما في قواي ما يرومه، ويكفيني هذا المقدار، وهيهات أن أقوم به والأمر كبير. فتغير الخليفة وأقسم: إن كان لي وزير غيرك! فقال المأمون: لي شروط؛ وقد كنت مع الأفضل وكان اجتهد في النعوت وحل المنطقة فلم أفعل؛ وكان أولاده يكتبون إليه بكوني قد خنته في المال والأهل، وما كان والله العظيم ذلك مني يوما قط، ومع ذلك معاداة الأهل جميعهم، والأجناد، وأرباب الطيالس والأقلام، وهو يعطيني كل ورقة تصل إليه منهم وما يسمع كلامهم. فقال الخليفة: فإذا كان فعل الأفضل معك ما ذكرته، إيش يكون فعلي أنا؟ فقال: يعرفني المولى ما يأمر به فأمتثله بشرط ألا يكون عليه زائداً. فأول ما ابتدأ به أن قال: أريد الأموال لا تبقى إلا بالقصر ولا تصل الكسوات من الطراز
والثغور إلا إليه ولا تفرق إلا منه، وتكون أسمطة الأعياد فيه؛ وتوسع في رواتب القصور من كل صنف؛ وزيادة رسم منديل الكم. فقال المأمون: سمعا وطاعة؛ أما الكسوات والجبايات والأسمطة فما تكون إلا بالقصور، وأما توسعة الرواتب فما ثم من يخالف الأمر، وأما منديل الكم فقد كان الرسم في كل يوم ثلاثين دينارا يكون في كل يوم مائة دينار؛ ومولانا، سلام الله عليه، يشاهد ما يعمل بعد ذلك في الركوبات وأسمطة الأعياد وغيرها. ففرح الخليفة. وقال المأمون: أريد بهذا مسطوراً بخط أمير المؤمنين، ويقسم لي فيه ألا يلتفت لحاسد ولا ينقبض؛ ومهما ذكر عني يطلعني عليه، ولا يأمر فيّ بأمر سراً ولا جهراً يكون فيه ذهاب نفسي وانحطاط قدري، وتكون هذه الأيمان باقية إلى وقت وفاتي، فإذا توفيت تكون لأولادي ولمن أخلفه بعدي.
فحضرت الدواة، وكتب ذلك جميعه، وأشهد الله في آخرها على نفسه. فعندما حصل الخط بيد المأمون وقف وقبل الأرض وجعله على رأسه، وكان الخط نسختين، فلما قبض على المأمون في رمضان سنة تسع عشرة وخمسمائة، كما سيأتي إن شاء الله، أنفذ الخليفة طلب الأمان، فأنفد إليه نسخة منهما فحرقها وبقيت النسخة الأخرى فأعدمت.
وفيها أنشأ المأمون الجامع الأقمر بالقاهرة، وكان مكانه دكاكين علافين.
في هذه السنة هبت بمصر ريح سوداء ثلاثة أيام، فأهلكت شيئا كثيرا من الناس والحيوان.