المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سنة ست عشرة وخمسمائة - اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء - جـ ٣

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌المستعلى بالله أبو القاسم

- ‌سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة تسعين وأربعمائة

- ‌سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة اثنين وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وتسعين وأربعمائة

- ‌الآمر بأحكام الله أبو علي المنصور

- ‌سنة ست وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة خمسمائة

- ‌سنة إحدى وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وخمسمائة

- ‌سنة أربع وخمسمائة

- ‌سنة خمس وخمسمائة

- ‌سنة ست وخمسمائة

- ‌سنة سبع وخمسمائة

- ‌سنة تسع وخمسمائة

- ‌سنة عشر وخمسمائةسنة إحدى عشرة وخمسمائة

- ‌سنة اثنتي عشرة وخمسمائة

- ‌سنة خمس عشرة وخمسمائة

- ‌سنة ست عشرة وخمسمائة

- ‌سنة سبع عشرة وخمسمائة

- ‌سنة ثمان عشرة وخمسمائة

- ‌سنة تسع عشرة وخمسمائة

- ‌سنة عشرين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وعشرين وخمسمائة

- ‌الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد

- ‌سنة خمس وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ست وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة ست وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة أربعين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وأربعين وخمسمائة

- ‌الظافر بأمر الله أبو المنصور إسماعيل

- ‌سنة خمس وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة ست وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وأربعين وخمسمائة

- ‌الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى

- ‌سنة خمسين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة اثنين وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة خمس وخمسين وخمسمائة

- ‌العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله

- ‌سنة ست وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وخسمين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة ستين وخمسمائة

- ‌سنة احدى وستين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وستين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وستين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وستين وخمسمائة

- ‌سنة خمس وستين وخمسمائة

- ‌سنة ست وستين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وستين وخمسمائة

- ‌ذكر طرف من ترتيب الدولة الفاطمية

- ‌ذكر ما عيب عليهم

- ‌ذكر ما صار إليه أولادهم

الفصل: ‌سنة ست عشرة وخمسمائة

‌سنة ست عشرة وخمسمائة

في المحرم كان المولد الآمري. وتقرر السلام على الخليفة في يومي الاثنين والخميس فأما في يومي السبت والثلاثاء فيركب الوزير بالرهجية إلى القصر ويركب الخليفة إلى ضواحي القاهرة للنزهة؛ وأما الأحد والأربعاء فيجلس الوزير المأمون في داره على سبيل الراحة.

في صفر سب أحد صبيان الخاص الآمري صاحب الشرع وشهد عليه، فضربت عنقه وصلب.

فيه وصل فخر الملك أبو علي عمار بن محمد بن عمار، صاحب طرابلس. وكانت الدولة، قد حولت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية، فلما جاءت الشدائد تغلبوا عليه؛ ثم جاءت الدولة الجيوشية فخافوا مما قدموه فلم يرموا أيديهم في يدها ولا وثقوا بما بذل لهم من الصفح عن ولاتهم. ومضى ذلك السلف، وخلفهم القاضي فخر الملك هذا في الأيام الأفضلية فجرى على تلك الوتيرة، ودفع إلى محاصرة الفرنج له مدة سبع سنين،

ص: 78

فضاق خناقه، وأيس؛ فخرج من طرابلس إلى العراق مستنجداً فلم يجد ناصراً. واختلت أحواله، وعاد إلى دمشق وقد ملك الفرنج طرابلس فسار إلى مصر. وقال في: كتابه والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد علم أن له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل، وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف، وفخر يكفر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها؛ فإن خرج الأمر بذلك فمنة كريمة، وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدوله.

فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد أن استفظع كل من الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود. فقال المأمون للخليفة: قد أجل الله عواطف مولانا ورحمته من أن يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه؛ وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفو عن جرمه، فإن العفو زكاة القدرة عليه؛ ويشمله ما شمل أمثاله. فأعجب الخليفة الآمر ذلك، وخرج الأمر بأن تعدد على ابن عمار ذنوبه وذنوب أسلافه ويقال له: قد أذهبت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك. فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه يقال له: قد غفر ذنبك وأنت مخير بين أمرين؛ إما أن تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث تريد ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك، وإما أن تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك وتترك التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات.

فلما خوطب بذلك قبل الأرض وأبى أن يرفع رأسه ووجهه، وكلما خوطب في رفعه قال لست أرفعه حتى أتلقى كلمات العفو عن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته. فبلغته الحضرة النبوية ما تمناه، وحصل له الأمن؛ وأمر به إلى دار أعدت له وجعل فيها شهوات السمع والبصر، وحملت إليه الضيافات الكثيرة، وجرد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين. فأقام أياما يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها، ووصله من المواهب ما أربى على أمله. وقرر له، راتبا في كل شهر، ستون دينارا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان. وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم، ورفع عنه الحاجب والمستخدمون، وجعل له

ص: 79

في المواسم والأعياد من الكسوات الفاخرة ما يميزه عن أمثاله. ولزم طريقة حمدت منه، فاستمر إليه الإحسان؛ وصار يركب في يومي الركوب ويومي السلام وغيرهما.

وفيه أفرج عن الأمير عضب الدولة عز الملك أبي منصور بنا، وكان له في الاعتقال ثلاث عشرة سنة، لأنه كان والي عكا وسلمها إلى الفرنج، فلما وصل رماه الأفضل في الاعتقال، فلما أفرج عنه أعيد عليه نظير ما كان قبض عنه للاصطبلات والخزائن، وولي البحيرة.

وأفرج عن جماعة أمراء كانوا معتقلين؛ منهم أبو المصطفى جوهر، ودخل السجن وهو شاب فخرج منه وهو شيخ، وكانت مدة اعتقاله خمس عشرة سنة.

فيه وصل رسول الشريف قاسم أمير مكة، الذي حضر في الأيام الأفضلية بسبب أموال التجار، ومعه كتاب بتهنئة المأمون، فجهز إلى الأعمال القوصية بالاهتمام بالجناب الديوانية وترميم ما يحتاج إلى المرمة، وتجديد عوض ما تلف؛ وأطلق له ثمانية آلاف وتسعمائة وأربعون إردباً برسم مكة وتخوت ثياب وخلع ومال وبخور.

وفيه غلا الزيت الطيب والسيرج؛ فكتب المستخدمون في الخزائن ومشارفة الجوامع بأن يكون المطلق برسم الوقود وفي المشاهد عوضاً عن الزيت الطيب الزيت الحار، فخرج الجواب بالتحذير من ذلك وبألا يطل إلا الزيت الطيب، ولا يلتفت إلى غلو السعر في الخدم التي هي من حق الله تعالى فلا يجب الرخصة فيه ولا بنقص من المطلق شيء. وبلغ المأمون أن مشارف الجوامع والمساجد اشترى من ماله صبراً وخلطه بالزيت لمنع القومة من التعرض لشيء منه، فأنكر ذلك وأمر بإحضاره وأن يقوم من ماله بثمن الزيت الذي فيه الصبر، ويطلق الزيت المستقر إطلاقه على تمامه. وقيل له: قومة الكنائس والمقيمون بها والطارقون لها لا يقتاتون إلا من فضلات وقود كنائسهم، ونحن نبيح لهؤلاء الأكل ونحرم عليهم البيع.

وتقدم الأمر بعمل حساب الدولة من الهلالي والخراجي على جملتين، إحداهما إلى سنة عشر وخمسمائة والثانية إلى آخر سنة خمس عشرة وخمسمائة؛ فانعقدت على جملة كثيرة من عين وأصناف، وشرحت بأسماء أربابها وتعيين بلادها. فلما حضرت أمر بكتابة سجل

ص: 80

بالمسامحة إلى آخر سنة عشر وخمسمائة؛ ومبلغ ما سومح به من البواقي ألفا ألف وسبعمائة ألف وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة وستون دينارا، ومن الورق سبعة وستون ألفا وخمسة دراهم، ومن الغلة ثلاثة آلاف الف وثمانمائة ألف وعشرة آلاف ومائتان وتسعة وثلاثون إردبا، ومن الأرز والكتان وحرق الصباغ وزريعة الوسمة والصباغ والفود والحديد والزفت والقطران والثياب والمآزر والغرادلي شيء كثير؛ ومن الأغنام مائتا ألف وخمسة وثلاثون ألفا وثلثمائة وخمسة رءوس؛ ومن البسر والنخيل والجريد والسلب والأطراف والملح والأشنان والرمان وعسل النحل والشمع وعسل القصب شيء كثير؛ ومن الأبقار اثنان وعشرون ألفا ومائة وأربعة وستون رأسا؛ ومن الدواب والسمن والجبن والصوف والشعر شيء كثير.

وقد تقدم ذكر نسخة هذا السجل عند ذكر الخراج من هذا الكتاب.

وقرئ منشور بالجامع الأزهر وجامع عمرو بمصر بالمنع مما يعتمد في الدواوين من قبول الزيادة وفسخ عقود الضمانات وإعفاء الكافة من المعاملين والضمناء من قبول الزيادة فيما يتصرفون فيه ما داموا قائمين بأقساطهم.

فيه تحول الخليفة الآمر إلى اللؤلؤة وأقام فيها مدة النيل على الحكم الأول وأزال ما أحدث من البناء بالقرب منها، وتحول معه الوزير المأمون بن البطائحي والشيخ أبو الحسن ابن أبي أسامة كاتب الدست وحاجب الحجاب وحسام الملك، ورتبت الرهجية والحرس، وأطلق لهم ما يقوم بهم. وصار الخليفة يمضي في السراديب من اللؤلؤة إلى القصر في يومي السلام، فلا يراه أحد سوى الأستاذين والخواص، ويحضر الوزير على عادته ويحمل الأسمطة ويحضر الناس على العادة، ويركب في يومي الثلاثاء والسبت إلى المتنزهات.

فيه تقدم الوزير بتجديد المشاهد التسعة التي بين القرافة والجبل.

ص: 81

وكانت العادة جارية من الأيام الأفضلية في آخر جمادى الآخرة من كل سنة أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر وتختم، ويحذر من بيع الخمر؛ فرأى الوزير أن يكون ذلك في سائر الأعمال، فكتب إلى ولاة الأعمال وأن ينادي بأن من تعرض لبيع شيء من هذين الصنفين أو لشرائهما سرا وجهراً فقد عرض نفسه لتلافها وبرئت الذمة من هلاكها.

لما كان مستهل رجب عملت الأسمطة على العادة، فقال الخليفة الآمر لوزيره المأمون: قد أعدت لدولتي بهجتها، وقد أخذت الأيام نصيبها من ذلك، وبقيت الليالي وقد كان بها مواسم وقد زال حكمها؛ وهي ليالي الوقود الأربع. فامتثل الأمر، وعملت.

واستجد في كل ليلة على الاستمرار برسم الخاصين الآمري والمأموني قنطار سكر ومثقالا مسك وديناران برسم المؤن ليعمل خشكنان، وتشد في قعاب وسلال صفصاف، وكان يسمى بالقعبة، ويحمل ثلثا ذلك إلى القصر والثلث إلى دار المأمون.

ووصلت كسوة الشتاء، فكانت أربعة آلاف قطعة وثلثمائة وخمس قطع. ووصلت

ص: 82

كسوة عيد الفطر وتشتمل على نحو عشرين ألف دينار، وكان عندهم الموسم الكبير، ويسمى بعيد الحلل لأن الحلل فيه تعم الجميع وفي غيره للأعيان خاصة.

وعمل الختم في آخر شهر رمضان بالقصر، وعبئ سماط الفطرة في مجلس الملك بقاعة الذهب من القصر، فكان سماطاً جميعه من حلاوة الموسم. وصلى الخليفة الآمر بالناس صلاة العيد في المصلى ظاهر باب النصر وخطب، وكان ذلك قد بطل في الأيام الجيوشية والأفضلية.

وكان الذي أنفق في أسمطة شهر رمضان عن تسع وعشرين ليلة، خارجاً عن التوسعة المطلقة أصنافاً برسم الخليفة وجهاته، وخارجا عن العطية، وخارجاً عن رسم القراء والمسحرين وخارجاً عن الأشربة والحلاوات من ألعاب، ستة عشر ألف دينار وأربعمائة وستة وثلاثين دينارا. وجملة ما قدر على المنفق في شهر رمضان، بما تقدم شرحه، والتوسعة والصدقات والفطرة وكسوة الغرة والعيد، مائة ألف دينار عينا. وضرب في خميس العدس ألف دينار عملت عشرين ألف خروبة، وكانت العادة أن يضرب في كل سنة خمسمائة دينار.

وفي شوال هذا وصل شاور من أسر الفرنج، وكان مأسوراً من الأيام الأفضلية وطالت مدة أسره، وبذلت عشيرته في افتكاكه جملةً كبيرة، فلم يقبل منهم، وطلب فيه أسير من الفرنج، فلم يجبهم الأفضل إليه لأنه كان لا يطلق أسيرا أبداً. فلما ولي المأمون الوزارة وميز رديني، مقدم العربان الجذاميين، وقبيلته وشاور من بني سعد، فخذ من جذام وقف مجير، أخو شاور، وإخوته للمأمون، وما زالوا به حتى أطلق الأسير فأطلق الفرنج شاوراً في شوال، وأثبت في الطائفة المأمونية؛ وكان هذا ابتداء حديث شاور.

ص: 83

وفيه تنبه ذكر الطائف النزارية، وقرر بين يدي الخليفة بأن يسير رسولاً إلى صاحب ألموت بعد أن جمعت فقهاء الإسماعيلية والإمامية، وهم لي الدولة أبو البركات بن عبد الحقيق داعي الدعاة، وجميع دعاة الإسماعيلية، وأبو محمد بن آدم متولى دار العلم، وأبو الثريا ابن مختار فقيه الإسماعيلية، ورفيقه أبو الفخر، والشريف ابن عقيل، وشيوخ الشرفاء، وقاضي القضاة، وأولاد المستنصر، وجماعة من بني عم الخليفة، وأبو الحسن بن أبي أسامة كاتب الدست، وجماعة من الأمراء؛ وقال لهم المأمون: ما لكم من الحجة في الرد على هؤلاء الخارجين على الإسماعيلية، فقال كل منهم: لم يكن لنزار إمامة، ومن اعتقد هذا خرج عن المذهب وحل ووجب قتله؛ وإن كان والده المستنصر نعته ولي عهد المسلمين ونعت إخوته، منهم أبو القاسم أحمد بولي عهد المؤمنين، وكل مؤمن مسلم وما كل مسلم مؤمن، وقد نطق بذلك الكتاب العزيز.

وذكر حسين بن محمد الموصلي أن اليازوري لم يزل يسأل المستنصر إلى أن كتب اسمه على الدينار وهو ما مثاله:

ضربت في دولة آل الهدى

ومن آل طه وآل ياسين

مستنصرا بالله جل اسمه

وعبده الناصر للدّين

في سنة كذا؛ ولم يقم بعد ذلك إلا دون الشهر، فاستعيدت وأمر ألا تسطر.

ودليل يعضد ذلك أنه لما جرت تلك الشدائد على الإمام المستنصر وسير أولاده، وهم: الأمير عبد الله إلى عكا إلى أمير الجيوش، ثم أتبعه أبي علي والأمير أبي القاسم، والد الحافظ،

ص: 84

إلى عسقلان، وسير نزاراً إلى ثغر دمياط سير الأعلى إلى، ولم يسمح بسفر الإمام المستعلى ولا خروجه من القصر لما أهله له من الخلافة، ولا أبعده خوفاً من حضور المنية، فلما وصل أمير الجيوش إلى البلاد بعد تهيئتها وتأمينها ورغب الإمام المستنصر في عقد نكاح ولده الإمام المستعلى على ابنته، أخت الأفضل، وعقد النكاح بنفسه، سماه في كتاب الصداق مولى عهد أمير المؤمنين؛ وعلم عليه بخطه. ثم عند وفاة المستنصر بايع نزار الإمام المستعلى بما شاهده كل حاضر، وبما ذكرته السيدة ابنة الإمام الظاهر شقيقه الإمام المستنصر في صحة إمامته. فكتب الكتاب بجميع ذلك إلى صاحب ألموت مضناً بشهادة الجماعة بذلك.

ثم وصل في أثناء ذلك كتب من خواص الدولة تتضمن أن القوم قد قويت شوكتهم واشتدت في البلاد طمعتهم، وأنهم يسيرون المال مع التجار إلى قوم يخبرون أسماءهم، وأنهم سيروا لهم الآن ثلاثة آلاف دينار برسم النجوى وبرسم المؤمنين الذين ينزل الرسل عندهم ويختفون في محلهم، فتقدم المأمون بالفحص عنهم والاحتراز التام على الآمر في ركوبه ومتنزهاته، وحفظ الدور غيرها.

ولم يزل البحث التام في طلبهم إلى أن وجدوا عند قوم من أهل البلد، فاعترفوا بأن خمسة منهم هم الرسل الواصلون بالمال من البلاد المشرقية، فراموا قتلهم، فأشار المأمون بتركهم. وأحضر الشيخ أبو القاسم بن الصيرفي، وأمر بكتب سجل يقرأ على رءوس الأشهاد وتفرغ منه النسخ إلى البلاد بمعنى ما ذكر من نفي نزار عن الإمامة وشهر الجماعة المقبوض عليهم وصلبوا، وامتنع الآمر من قبض الألفي دينار الواصلة للنجوى وأمر بحملها إلى بيت المال، وأن تنفق في السودان عبيد الشراء خاصة. وأمر بأن يحضر من بيت المال نظير المبلغ، وتقدم بأن يصاغ قنديلين ذهباً وقنديلين فضة؛ وأن يحمل قنديلان، ذهبا وفضة، إلى مشهد الحسين بعسقلان، وقنديلان كذلك إلى التربة. وأطلق

ص: 85

المأمون من ماله ألفي دينار، وتقدم بأن يصاغ بها قنديل ذهب وسلسلة فضة برسمه على قياس أحضر من عسقلان، وأن يصاغ على المصحف الذي بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمصر من فوق الفضة ذهب.

وأطلق من حاصل الصناديق التي تشتمل على مال النجاري برسم الصدقات عشرة آلاف درهم تفرق في الجوامع الثلاثة: الأزهر بالقاهرة والعتيق بمصر وجامع القرافة، وعلى فقراء المؤمنين وعلى أرباب القصور. وأطلق من الأهراء ألفا إردب قمحاً وتصدق عدة من الجهات بجملة كثيرة. واشتريت عدة جوار من الحجر وكتب عتقهن وأطلق سراحهن.

قال ابن ميسر، وقد ذكر هذا المجلس: وقد كانت أخت نزار في قاعة بجانب الإيوان من القصر، وعلى الباب ستر، وعلى الستر إخوتها وبنو عمها وكبار الأستاذين. فلما جرى هذا الفصل قام المأمون من مكانه ووقف بإزاء الستر وقال: من وراء هذا الستر؟ فعرف بها إخوتها وبنو عمها، وأنه ليس غيرها وراء الستر. فلما تحقق الحاضرون ذلك قالت: اشهدوا علي يا جماعة الحاضرين، وبلغوا عني جماعة المسلمين بأن أخي شقيقي نزاراً لم يكن له إمامة، وأنني بريئة من إمامته جاحدة لها لا عنة لمن يعتقدها، لما علمته من والدي وسمعته من والدتي، لما أمر المستنصر بمضيها هي والجهة المعظمة والدة عبد الله أخي إلى المنظرتين اللتين على القناطر المعروفتين بالحرارة والبرياصة؟ للنزهة أيام النيل جرى بينهما مشاجرة في ولديهما، فأحضرهما المستنصرين يديه وأنكر عليهما، وقال: ما يصل أحد من ولديكما إلى الأمر، صاحبه معروف في وقته. وشاهدت والدي المستنصر في مرضته التي توفى فيها وقد أحضر المستعلى وأخذه معه في فراشه، وقبل بين عينيه، وأسر إليه طويلاً وقد دمعت عيناه؛ وفي اليوم الذي انتقل والدي في ليلته استدعى عمتي بنت الظاهر فأسر إليها من بيننا، ومد يده إليها فقبلها وعاهدها، وأشهد الله تعالى معلناً ومظهراً. فلما انتقل في تلك

ص: 86

الليلة حضر صبيحتها الأفضل ومعه الداعي والأمراء والأجناد، ووقف بظاهر المقرمة، ثم جلس وكلهم قيام، وأخذ في التعزية، ثم قال: يا مولاتنا من ارتضاه للخلافة؟ فقالت: هي أمانة قد عاهدني عليها، وأوصاني بأن الخليفة من بعده ولده أبو القاسم أحمد. فحضر وبايعته عمتي، وبايعه أخوه الأكبر عبد الله فأشار الأفضل إلى نزار فبايعه، وأمر بالتوكيل على نزار وتأخيره، فأخر إلى مكان لا يصلح له. واستدعى الأفضل الداعي وأمره بأخذ البيعة من نفسه ومن الموالي والأستاذين. وسألت عمتي الأفضل في نزار فرفع عنه التوكيل عليه بعد أن كلمه بكلام فيه غلظة؛ ووالله ما مضى أخي نزار إلى ناصر الدولة أفتكين بالإسكندرية لطلب إمامة ولا لادعاء حق، ولكن طالب بالزوال للأفضل وإبطال أمره لما فعله معه. والله يلعن من يخالف ظاهره باطنه. فشكرها الناس على ذلك.

وكان سبب حضور أخت نزار في هذا المجلس أن المأمون قال للآمر: قد كشفت الغطاء وفعلت ما لا يقدر أحد على فعله، وأما القصر فما لي فيه حيلة. ولوح أن أخت نزار وأولادها لا يمكنني كشف أمرهم. فلما بلغ أخت نزار ذلك حضرت إلى الخليفة الآمر لتبرئ نفسها، ورغبت أن تخرج للناس لتقول ما سمعته من والدها وشاهدته ليكون قولها حجة على من يدعي لأخيها ما ليس له. فاستحسن الآمر ذلك منها؛ وأحضر المأمون وأخاه شقيقه أبا الفضل جعفر بن المستعلى، واتفقوا على يوم يجتمعون فيه. فلما كان في شوال عمل المجلس المذكور.

وأما النزارية فإنها تقول إن المستنصرمات والأفضل صاحب الأمر والمستحوذ على المملكة والجند جنده، وغلمان أبيه لا يعرفون سواه؛ وكان نزار، لما يرى من غلبة الأفضل على الدولة، يتكلم بما بلغه، فينكره، فلما مات المستنصر والأفضل متخوف من شر نزار أقام أحمد ابنه، المستعلى، لأنه زوج أخته ولأنه صغير.

وفيها أراد الآمر أن يحضر إلى دار الملك في يوم النوروز الكائن في جمادى الآخرة ويركب إليها في المراكب على ما كان عليه الأفضل، فمنعه المأمون من ذلك، وقال:

ص: 87

يا مولانا، الأفضل لا يجري مجرى أمير المؤمنين. وحمل إليه من الثياب الفاخرة برسم جهاته ماله قيمة جليلة.

وفي شوال بلغ المأمون أن جزيرة قويسنا ومنية زفتى ليس فيهما جامع، فتقدم إلى بعض خواصه وخلع عليه، فسار وبنى جامعا على شاطىء النيل بمنية زفتى، وقرر فيه خطيباً وإماماً ومؤذنين، وفرش، وأطلق برسمه نظير ما للجوامع.

وفيه وصل الفقيه أبو بكر محمد بن محمد الفهري الطرطوشي من الإسكندرية بالكتاب الذي حمله: سراج الملوك، فأكرمه وأمر بإنزاله في المجلس المهيأ للإخوة، وتقدم برفع أدوية الكتاب وأوطئة الحساب وسلام الأمراء، وعمل السماط، وسارع إلى البادهنج، واستدعى بالفقيه. فلما شاهده وقف، ونزل عن المرتبة، وجلس بين يديه؛ ثم انصرف، ومعه أخو المأمون، إلى مكان أعد له، وحمل إليه ما يحتاج له وأمر مشارف الجوالي أن يحمل له في كل يوم خمسة دنانير بمقتضى توقيع مقتضب، فامتنع الفقيه وأبي أن يقبل غير الدينارين اللذين كانا له في الأيام الأفضلية. وصار المأمون يستدعيه في يومي راحته، ويبالغ في كرامته، ويقضي شفاعاته.

وكان السبب في حضوره أنه تكلم في الأيام الأفضلية في أمور المواريث وما يأخذه أمناء الحكم من أموال الأيتام، وهو ربع العشر، وأمر توريث الابنة النصف،

ص: 88

فلم يقبل ذلك، ففاوض المأمون فيه وقال: هذه قضية وجدتها وما أحدثتها وهي تسمى بالمذهب الدارج، ويقال إن أمير الجيوش بدر هو الذي استجدها، وهي أن كل من مات يعمل في ميراثه على حكم مذهبه، وقد مر على ذلك سنون وصار أمراً مشروعا، فكيف يجوز تغييره. فقال له الفقيه: إذا علمت ما يخلصك من الله غيرها فلك أجرها. فقال أنا نائب الخليفة، ومذهبه ومذهب جميع الشيعة من الزيدي، والإمامي والإسماعيلي أن الإرث جميعه للابنة خاصة بلا عصبة ولا بيت مال، ويتمسكون بأنه من كتاب الله كما يتمسك غيرهم، وأبو حنيفة، رحمه الله، يوافقهم في القضية. فقال الفقيه: أنا مع وجود العصبة فلا بد من عدتها. فقال المأمون أنا لا أقدر أن أرد على الجماعة مذهبهم، والخليفة لا يرى به وينقضه على من أمر به؛ بل أرى بشفاعة الفقيه أن أرد الجميع على رأى الدولة فيرجع كل أحد على حكم رأيه في مذهبه فيما يخلصه من الله، ويبطل حكم بيت المال الذي لم يذكره الله في كتابه ولا أمر به الرسول عليه السلام. فأجاب إلى ذلك. وأمر الوزير أن يكتب به وأن يكتب بتعويض أمناء الحكم عما يقتضونه من ربع العشر بتقرير جار لهم في كل شهر من مال الديوان على المواريث الحشرية

وأخذ الفقيه في ذكر بقية حوائج أصحابه؛ وكتب منه توقيع فرغت منه نسخ منها ما سير إلى الثغور وكبار الأعمال، وشملته العلامة الآمرية وبعدها العلامة المأمونية. ونسخته بعد البسملة: خرج أمر أمير المؤمنين بإنشاء هذا المنشور عندما طالعه السيد الأجل المأمون أمير الجيوش ونعوته والدعاء وهو الخالصة أفعاله في حياطة المسلمين وذو المقاصد المصروفة إلى النظر في مصالح الدنيا والدين، والهمة الموقوفة على الترقي إلى درجات المتقين، والعزائم الكافلة بتشديد أحوال الكافة أجمعين؛ شيمة خصه الله بفضيلتها جبلة أسعد بجلالها وشريف مزيتها. والله سبحانه يجعل آراءه للتوفيق مقارنة، وأنحاء

ص: 89

الميامن كافلةً ضامنة، من أمر المواريث وما أجراها عليه الحكام الدارجون بتغاير نظرهم، وقرروه من تغيير عما كان يعهد بتغلب آرائهم، وما دخل عليها منهم من الفساد، والخروج بها عن المعهود المعتاد؛ وهو أن لكل دارج من الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين مذاهبهم واعتقاداتهم تحمل ما يترك من موجوده على حكم مذهبه في حياته والمشهور من اعتقاده إلى حين وفاته؛ فيخلص لحرم ذوي التشيع الوارثات جميع موروثهم؛ وهو المنهج القويم لقول الله سبحانه:" وأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ". ويحمل من سواهن على مذهب مخلفيهن، ويشركهم بيت مال المسلمين في موجودهم، ويحمل إليه جزء من أموالهم التي أحلها الله لهن بعدهم، عدولاً عن محجة الدولة، وخروجاً عما جاء به العباد من الأئمة الذين نزل في بيتهم الكتاب والحكمة، فهم قراء القرآن، وموضحو غوامضه ومشكلاته بأوضح البيان، وإليهم سلم المؤمنون، وعلى هديهم وإرشادهم يعول الموقنون؛ فلم يرض أمير المؤمنين الاستمرار في ذلك على قاعدة واهية الأصول، بعيدة من التحقيق خالية من المحصول، ولم ير إلا العود فيه إلى عادة آبائه المطهرين، وأسلافه العلماء المهديين، صلوات الله عليهم أجمعين. وخرج أمره إلى السيد الأجل المأمون بالإيعاز إلى القاضي ثقة الملك النائب في الحكم عنه، بتحذيره، والأمر له بتحذير جميع النواب في الأحكام بالمعزية القاهرة ومصر وسائر الأعمال، دانيها وقاصيها، قريبها ونائيها، من الاستمرار على تلك السنة المتجددة، ورفض تلك القوانين التي كانت معتمدة واستئناف العمل في ذلك بما يراه الأئمة المطهرة، وأسلافه الكرام البررة، وإعادة جميع مواريث الناس على اختلاف طبقاتهم ومذاهبهم إلى المعهود من رأي الدولة فيها، والإفراج عنها برمتها لمستحقيها، من غير اعتراض عليهم في قليلها ولا كثيرها؛ وأن يضربوا عما تقدم صفحا، ويطووا دونه كشحا، منذ تاريخ هذا التوقيع، وفيما يأتي بعده مستمرا غير مستدرك لما فات ومضى، ولا متعقب لما ذهب وانقضى.

وليوف الأجل المأمون، عضد الله به الدين، بامتثال هذا المأمور، والاعتماد على مضمون هذا المسطور؛ وليحذر كلا من القضاة والنواب، والمستخدمين في الباب، وسائر

ص: 90

الأعمال، من اعتراض موجود أحد ممن يسقط الوفاة وله وارث بالغ رشيد، حاضر أو غائب، ذكرا كان أو أنثى، من سائر الناس على اختلاف الأديان بشيء من التأولات أو تعقب ورثته بنوع من أنواع التعقبات، إلا ما أوجبته بينهم المحاكمات والقوانين الشرعيات الواجبات، نظراً إلى مصالح الكافة، ومدا لجناح العاطفة عليهم والرأفة، ومضاعفة للأنام وإبانةً عن شريف القصد إليهم والاهتمام.

فأما من يموت حشريا ولا وارث له حاضر ولا غائب، فموجوده لبيت المال بأجمعه على الأوضاع السليمة، والقوانين المعلومة القويمة، إلا ما يستحقه خرج إن كان له أو دين عليه يثبت في جهته. وإن سقط متوفى وله وارث غائب فليحفظ الحكام والمستخدمون على تركته احتياطاً حكميا، وقانونا شرعيا مصوناً من الاصطلام، محروساً من التفريط والاخترام؛ فإن حضر وأثبت استحقاقه ذلك في مجلس الحكم بالباب، على الأوضاع الشرعية الخالصة من الشبه والارتياب، طولع بذلك ليخرج الأمر بتسليمه إليه والإشهاد يقبضه عليه.

وكذلك نمى إلى حضرة أمير المؤمنين أن شهود الحكم بالباب وجميع الأعمال إذا شارف أحد منهم بيع شيء مما يجري في المواريث من الترك التي يتولاها الحكام يأخذون ربع العشر من ثمن المبيع، فيعود ذلك بالنقيصة في أموال الأيتام، والتعرض إلى الممنوع الحرام، اصطلاحاً استمروا على فعله، واعتماداً لم يجر الأمر فيه على حكمه؛ فكره ذلك وأنكره. واستفظعه وأكبره، واقتضى حسن نظره في الفريقين، ما خرج به أمره من توفير مال الأيتام، وتعويض من يباشر ذلك من الشهود جارياً يقام لكل منهم من الإنعام؛ وأمر بوضع هذا الرسم وتعفيته، وإبطاله وحسم مادته. فليعتمد القاضي ثقة الملك ذلك بالباب، وليصدر الإعلام إلى سائر النواب، سلوكاً لمحجة الدين، وعملاً بأعمال الفائزين السعداء المتقين، بعد تلاوة هذا التوقيع في المسجدين الجامعين بالمعزية القاهرة المحروسة ومدينة مصر على رءوس الأشهاد، ليتساوى في معرفة مضمونه كل

ص: 91

قريب وبعيد وحاضر وباد؛ ولتفرغ منه النسخ إلى جميع النواب عنه في الأعمال، وليجلد في مجلس الحكم بعد ثبوته في ديواني المجلس والخاص الآمري، وحيث يثبت مثله إن شاء الله تعالى حجة مودعة في اليوم وما بعده. وكتب لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة.

ثم حضر الفقيه أبو بكر لوداع الوزير، وعرفه ما عزم عليه من إنشاء مسجد بظاهر الثغر على البحر، فكتب إلى ابن حديد بموافقة الفقيه على موضع يتخيره، وأن يبالغ في إتقانه وسرعة إنجازه، وتكون النفقة عليه من مال ديوانه دون مال الدولة. وتوجه فبنى المسجد المذكور على باب البحر. وأما المسجد الذي بالمحجة فإن المؤتمن عند مقامه بالثغر بناه.

وذكر للمأمون أيضا أن واحات البهنسا ليس بها جمعة تقام، فأمر ببناء جامع بها، ففرغ منه وأقيم فيه خطيب وإمام وقومة ومؤذنون، وأطلق لهم ما هي عادة أمثالهم.

وقيل إن الذي أنشأه المأمون في وزارته وفي أيام الأفضل أحد وأربعون مسجداً، مع ما أمر بتجديده، بعد وزارته، بالقاهرة ومصر وأعمالهما ما يناهز مائتي مسجد.

فيه بنيت دار ضرب بالقاهرة ودار وكالة.

ص: 92

وفي ذي القعدة مات الأمير السعيد محمود بن ظفر، والي قوص. وركب المأمون إلى الجامع الأزهر، فلما كان وقت صلاة الصبح تقدم قاضي القضاة ثقة الملك أبو الفتح مسلم بن علي الراسعيني وصلى؛ فلما قرأ الفاتحة لحقه زمع شديد وارتعد، فلحن في الفاتحة؛ وقرأ:" والشَّمْسِ وَضُحَاهَا "، فلما قال:" نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا " أرتج عليه، فرد المؤتمن حيدرة، أخو المأمون، عليه، فاشتد زمعه، فكرر عليه الرد، فلم يهتد وقال:" وسقناها " بالنون: فقرأ المأمون بقية السورة وسجد الناس. وقام في الركعة الثانية وقد دهش فلم يفتح عليه بشيء؛ فقرأ المأمون الفاتحة " وقُلْ هُوَ الله أَحَدٌ "، وقنت وهو معه يلقنه. فلما انقضت الصلاة اشتد غضب المأمون وأمر متولى الباب بأن يختم المقرئون. وتخيل المقام وخرج من الجامع، فوكل بالقاضي من يمضي به إلى داره ويأمره بالمقام بها من غير تصرف حتى يحفظ القرآن؛ وقرر له راتباً فيما بعد؛ ولزم داره.

وأنفذ للوقت إلى القاضي أبي الحجاج يوسف بن أيوب المغربي، من قضاة الغربية، فأحضره وخلع عليه في القصر بذلة مذهبة، وسلم به على الخليفة، وسلم إليه السجل في لفافة مذهبة بنيابته في الكم العزيز والخطابة والصلاة وديوان الأحباس ودور الضرب بسائر أعمال المملكة؛ ونعت فيه بالقاضي جلال الملك تاج الأحكام؛ فقبله ووضعه على رأسه. وتلى على منابر القاهرة ومصر.

وكان يحضر في يومي الاثنين والخميس إلى مجلس المظالم بين يدي المأمون، ويستعرض القصص ويناقش فيها، ويباحث مباحثة الفقهاء العلماء، فزاد المأمون في إكرامه، ورد إليه وكالة الخليفة؛ وكتبت له الوكالة، وشرف بالخلع.

وتولى قوص الأمير مؤيد الملك وخلع عليه؛ وأمر أن يبنى بقوص دار ضرب، وجهز معه مهندسين وضرابين وسكك العين والورق، وعشرين ألف دينار وعشرين ألف درهم

ص: 93

فضة؛ فضربت هناك دنانير ودراهم؛ وصار كل ما يصل من اليمن والحجاز من الدنانير العدنية وغيرها يضرب بها.

وصار ما يضرب باسم الآمر في ستة مواضع: القاهرة، ومصر، وقوص، وعسقلان، وصور، والإسكندرية.

وقرر للشيخ أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه بن يوسف، الإسرائيلي الأصل، لما قدم من الأندلس وصار ضيف الدولة، جار وكسوة شتوية وعيدية ورسوم، وأقطع داراً بالقاهرة، وكتب له منشور نسخته بعد البسملة.

ولما كان من أشرف ما طرزت السيرة بقدره، وأنفس ما وشحت الدول بجميل أثره، تخليد الفضائل وإبداء ذكرها، وإظهار المعارف وإيضاح سرها، لا سيما صناعة الطب التي هي غاية الجدوى والنفع، وورود الخبر بأنها قرينة إلى الشرع. لقوله صلى الله عليه وسلم: العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان خرج أمر سيدنا ومولانا لما يؤثره بعلو همته من إنماء العلوم وإشهارها، واختصاص الدولة الفاطمية بإحياء الفضائل وتجديد آثارها، ليبقى جمال ذلك شاهداً لها على مر الأيام، متسقاً بما أفشاه لها من المآثر الجمة والمفاخر الجسام، لشيخنا أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه، أيده الله، لصرف رعايته إلى شرح كتب أبقراط التي هي أشرف كتب الطب وأوفاها، وأكثرها إغماضا وأبقاها، وإلى التصنيف في غير ذلك من أنحاء العلوم، مما يكون منسوباً إلى الأوامر العالية، ورسم التوفر على ذلك والانتصاب له، وحمل ما يكمل أولاً أولاً إلى خزائن الكتب، وإقراء جميع من يحضر إليه من أهل هذه الصناعة، وعرض من يدعيها واستشفافه فيما يعانيه؛ فمن كملت عنده صناعته فليجره على رسمه، ومن كان مقصراً فليستنهضه. واعتمدنا عليه في ذلك لكونه مميزاً في البراعة في العلوم متصرفاً في فنونها، مقدماً في بسطها وإظهار مكنونها، ولأنه يبلغ الغرض المقصود في شرح هذه الكتب ويوفى عليه، ويسلك أوضح السبل وأسدها إليه، وفي جميع ما شرع له. فليشرع في ذلك مستعيناً بالله، منفسح الأمل

ص: 94

بإنهاضنا له، وجميل رأينا فيه، بعد ثبوته في الدواوين إن شاء الله تعالى. وكتب في ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة.

فانتصب لطالبي علم الطب وأقبل أطباء البلدين إليه، واجتمع في أيدي الناس من أماليه كثير، وجعل له يومين في الجمعة يشتغل فيهما، ويتوفر في بقية الأسبوع على التصنيف، وحمل ذلك إلى الخزائن؛ واستخدم كاتبين لتبييض ما يؤلفه.

ولما أهل ذو الحجة جرى الحال في الهناء ومدائح الشعراء في القصر بين يدي الخليفة وبالدار المأمونية على الحال المستقرة، واستقبله المأمون بالصيام، وأخرج من ماله ما زاد عن المستقر في كل عام، برسم الأطفال من الفقراء والأيتام، من أهل البلدين وغيرهم؛ ولم يتعرض لطلب ذلك من المميزين بحكم ما يعملونه من السنين المتقادمة. ومما ابتكره ولم يسبقه إليه أحد أن استعمل ميقاط حرير فيه ثلاث جلاجل، وفتح باب طاقة في الروشن من سور داره؛ فصار إذا مضى شطر الليل وانقطع المشي طرت السلسلة ودلى الميقاط من الطاق، وعلى هذا المكان جماعة مبيتون بحقه من المغاربة؛ فمن حضر من الرجال والنساء بتظلمه سدد قصة في الميقاط بيده ويحركه بعد أن يقف من حضره على مضمون الرقعة؛ فإن كانت مرافعةً لم يمكنوه من رفعها، وإن كانت ظلامةً مكنوه من ذلك ويعوق صاحبها إلى أن يخرج الجواب.

وكان القصد بعمل ذلك أنه من حدث به ضرر من أهل الستر، أو كانت امرأة من غير ذات البروز ولا تحب أن تظهر، أو كانت مظلمة في الليل تتعجل مضرتها قبل النهار فلتأت لهذا الميقاط.

وحضرت كسوة عيد النحر، وفرقت الرسوم على من جرت عادته بها، خارجاً عما أمر به من تفرقة العين المختص بهذا العيد وأضحيته، فكان منها سبعة عشر ألفا وستمائة دينار برسم القصور جميعها، وجملة ما نحر وذبح الخليفة خاصة، دون الوزير، في ثلاثة أيام النحر ألف وتسعمائة وستة وأربعون رأساً؛ منها نوق مائة وثلاثة عشر، وبقر ثمانية عشر رأسا، وجاموس خمسة عشر، والبقية كباش، ومبلغ المصروف على أسمطة الثلاثة

ص: 95

أيام، خارجاً عن أسمطة الوزير، ألف وثلثمائة وستة وعشرون دينارا، ومن السكر ثمانية وأربعون دينارا.

وعمل عيد الغدير على رسمه. وركب الخليفة إلى قليوب، ونزل بالبستان العزيزي لمشاهدة قصر الورد، على العادة المستقرة والسنة المتقدمة، وفرقت الصدقات في مسافة الطريق، وضربت الخيم، وقدمت الأسمطة. ثم عاد في آخر النهار إلى قصره.

وفي هذه السنة سير المأمون وحشي بن طلائع إلى صور، فقبض على مسعود بن سلار، واليها لمخالفته، وأحضره.

وفيها تجهز الأسطول وسارت المراكب، فيها خمسة عشر ألف أردب قمحا وأقوات كثيرة، إلى صور. فلما وصل خرج إليه سيف الدولة مسعود واليها من جهة طغتكين، فلما سلم عليهم سألوه النزول إليهم؛ فلما حصل في المركب اعتقل، وأقلع الأسطول به إلى مصر، فأكرم وأنزل في دار، وأطلق له ما يحتاج إليه وسبب القبض عليه كثرة شكوى أهل صور منه.

وفيها وصل البدل من ثغر عسقلان على العادة.

ص: 96