الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثمان عشرة وخمسمائة
فيها ملك الفرنج مدينة صور، واستمرت بأيديهم حتى زالت الدولة الفاطمية. وكان أخذهم إياها بعد محاصرتها مدة، وتقاصر المأمون عن نجدتهم، وأعانهم طغتكين صاحب دمشق، ووصل إلى بانياس وراسل الفرنج؛ فاستقر الأمر على أن الفرنج تستولي عليها بالأمان، فخرج أهلها بما خف حمله، وتفرقوا في البلاد. وكان تملكهم لها في يوم الاثنين ثالث عشري جمادى الآخرة.
وفيها أمر ببناء دار واسعة ليتفرج الناس فيها عند كسر خليج القاهرة بالكراء. وذلك أن الناس عند كسر الخليج كانوا يصنعون أخشاباً متراكبةً بعضها على بعض، يجلسون فوقها للتفرج يوم كسر الخليج، ولم يكن هناك غير دار الأمير أبي عبد الله محمد بن المستنصر ودار ابن معشر. ولم تزل هذه الأدر الثلاثة إلى أن احترقت في نوبة شاور.
فيها مات بألموت الحسن بن صباح كبير الإسماعيلية، وقد تقدم أنه ورد مصر في أيام المستنصر وسار إلى المشرق بدعوته، واستولى على قلعة ألموت واعتقد إمامه نزار بن المستنصر، وأنكر إمامة المستعلى وإمامة الآمر. وانتدب عدة لقتل الأفضل ابن أمير الجيوش فلما تقلد المأمون البطائحي وزارة الآمر بعد قتل الأفضل بلغه أن ابن صباح والباطنية فرحوا بموت الأفضل، وأنهم تطاولوا لقتل الآمر والمأمون، وأنهم بعثوا طائفةً لأصحابهم بمصر بأموال. فتقدم المأمون إلى والي عسقلان بصرفه وإقامة غيره، وأمره بعرض أرباب الخدم بها، وألا يترك فيها إلا من هو معروف من أهل البلاد؛ وأكد عليه في الاجتهاد والكشف عن أحوال الواصلين من التجار وغيرهم، وأنه لا يثق بما يذكرونه من أسمائهم وكناهم وبلادهم، بل يكشف من بعضهم عن بعض ويفرق بينهم ويبالغ في الاستقصاء. ومن يصل ممن لم تجر عادته بالمجيء إلى البلاد فليعوقه بالثغر ويطالع بحاله وما معه من البضائع، ولا يمكن جمالاً من دخول مصر إلا أن يكون معروفا متردداً إلى البلاد؛ ولا يسير قافلة إلا بعد أن يتقدم كتابه إلى الديوان بعدة من فيها وأسمائهم وأسماء غلمانهم وأسماء الجمالين وذكر أصناف البضائع، ليقابل بها في مدينة بلبيس وعند وصولهم إلى الباب، وأنه يكرم التجار ويكف الأذى والضرر عنهم.
ثم تقدم المأمون إلى والي مصر ووالي القاهرة بأن يصقعا البلدين شارعاً شارعاً وحارةً حارةً وزقاقاً زقاقاً وخطاً خطاً، ويكتبا أسماء سكانها، ولا مكنا أحداً من النقلة من منزل إلى منزل حتى يستأذناه ويخرج أمره، بما يعتمد في ذلك. فمضيا لذلك، وحررا الأوراق بأسماء جميع سكان القاهرة ومصر وذكر خططهما، والتعريف بكنية كل واحد وشهرته وصناعته وبلده، ومن يصل إلى كل خط وحارة من الغرباء.
فلما عرف ذلك المأمون انتدب نساء من أهل الخبرة والمعرفة للدخول إلى جميع المساكن والاطلاع على أحوال ساكنيها الباطنية ومطالعته بجميع ما يشاهدنه فيها؛ فكانت أحوال كافة الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين أجناسهم من ساكني مصر والقاهرة تعرض عليه، ولا يكاد يخفى عنه منها شيء ألبتة. فامتنع لذلك الباطنية مما كانوا قد عزموا عليه من الفتك بالآمر وبالمأمون لكفهم عن دخول البلد.
ثم إنه مع ذلك أركب العسكرية وفرقهم في جهات البلدين، وأمرهم بالقبض على جماعة عينهم، فقبض على جماعة كثيرة، منهم رجل كان يقرئ أولاد الخليفة الآمر، ومنهم رسل كان ابن صباح قد سيرهم بمال لينفق على من بمصر ممن يرى رأيهم. فكان هذا معدوداً من عظيم الحزم، وقوة التدبير. ومع ذلك كان له القصاد والجواسيس وأصحاب الخبر في كل قطر، فإذا خرج الباطني من قلاع ألموت لا تزال أخباره ترد عليه شيئاً بعد شيء منذ يخرج من مكانه حتى يرد بلبيس، فيسير إليه من ينقض عليه في مكانه الذي نزل فيه ويأتيه به فيقتله. وصار من أجل ذلك وبسببه يرد عليه أخبار كل جليل وحقير من سائر مملكته، حتى كان يرى ويسمع كل ما يتفق في ليل أو نهار. وامتنع من الباطنية إلى أن مات رئيسهم الحسن بن صباح بعد ما ملك من الشام جبل عاملة، وحصن العليق، والكهف، ومصياث، والخوابي، وحصن الأكمة، وقلعة العيدين؛ ثم امتدت مملكته بعد موته إلى حد شرقي آذربيجان وبحر طبرستان وجرجان.