الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثمان وعشرين وخمسمائة
فيها عهد الحافظ إلى ولده سليمان، وكان أسن أولاده وأحبهم إليه، وأقامه ليسد مكان الوزير ويستريح من مقاساة الوزراء وجفائهم عليه ومضايقتهم إياه في أوامره ونواهيه، فمات بعد ولاية العهد بشهرين، فحزن عليه مدة. ثم جعل ابنه حيدرة ولي عهده ونصبه للنظر في المظالم، فشق ذلك على أخيه حسن لأنه كان يروم ذلك لكثرة أمواله وتلاده وحواشيه وموكبه، بحيث كان له ديوان مفرد. وما زالت عقارب العداوة تدب بينهما حتى وقعت الفتنة بين الطائفية الجيوشية والطائفة الريحانية، وكانت شوكة الريحانية قوية والجند يشنئونهم خوفا منهم فاشتعلت نيران الحرب بين الفريقين؛ وصاح الجند: يا حسن يا منصور، يا للحسنية.
والتقى العسكران؛ فقتل بينهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل. فكانت أول مصيبة نزلت بالدولة من فقد رجالها ونقص عدد عساكرها؛ ولم يسلم من الريحانية إلا من ألقى نفسه في بحر النيل من ناحية المقس. واستظهر حسن وصار الأمر إليه، فانضم له أوباش العسكر وزعارهم، وفرق فيهم الزرد وسماهم صبيان الزرد، وصاروا لا يفارقونه ويحفون به إذا ركب، ويلازمون داره إذا نزل.
فقامت قيامة الناس، وقبض على ابن العساف وقتله واختفى منه الحافظ وحيدرة؛
وجد في طلب حيدرة. وهتك بالأوباش الذين اختارهم حرمة القصر وخرق ناموسه من كونه نغص على أبيه وأخيه، وصاروا يحسنون له كل رذيلة، ويحرونه على أذى الناس.
فأخذ الحافظ في تلافي الأمر مع حسن لينصلح؛ وعهد إليه بالخلافة في يوم الخميس لأربع بقين من شهر رمضان، وأركبه بالشعار، ونعت بولي عهد المؤمنين. وكتب له بذلك سجلاً قرئ على المنابر، فكان يقال على المنابر: اللهم شيد ببقاء ولي عهد المؤمنين أركان خلافته، وذلل سيوف الاقتدار في نصره وكفايته، وأعنه على مصالح بلاده ورعيته، واجمع شمله به وبكافة السادة إخوته، الذين أطلعتهم في سماء مملكته بدوراً لا يغيرها المحاق، وقمعت ببأسهم كل مرتد من أهل الشقاق والنفاق، وشددت بهم أزر الإمامة، وجعلت الخلافة فيهم إلى يوم القيامة.
فلم يزده ذلك إلا شراً وتعديا؛ فضيق على أبيه وبالغ في مضرته. فسير الحافظ وفي الدولة إسحاق، أحد الأستاذين المحنكين، إلى الصعيد ليجمع ما قدر عليه من الريحانية فمضى واستصرخ على حسن، وجمع من الأمم ما لا يعلمه إلا الله؛ وسار بهم. فبلغ ذلك حسناً، فجهز إليه عسكراً عرمرماً وخرج؛ فالتقى الجمعان. وهبت ريح سوداء في وجوه الواصلين، وركبهم عسكر حسن، فلم يفلت منهم إلا القليل، وغرق أكثرهم في البحر وقتلوا؛ وأخذ الأستاذ إسحاق وأدخل إلى القاهرة على جمل برأسه طرطور لبد أحمر. فلما وصل بين القصرين رمى بالنشاب حتى مات، ورمي إليهم من القصر الغربي أستاذ آخر فقتلوه، وقتل الأمير شرف الأمراء.
فلما اشتد الأمر على الحافظ عمل حيلة وكتب ورقة ورماها إلى ولده حسن، فيها: يا ولدي، أنت على كل حال ولدي، ولو عمل كل منا لصاحبه ما يكره الآخر ما أراد أن يصيبه مكروه. ولا يحملني قلبين وقد انتهى الأمر إلي أن أمراء الدولة فلاناً وفلاناً وسماهم له وأنك قد شددت وطأتك عليهم وخافوك، وأنهم معولون على الفتك بك؛ فخذ حذرك يا ولدي.
فلما وقف حسن على الورقة قامت قيامته. فلما اجتمع أولئك الأمراء في داره للسلام عليه أمر صبيان الزرد الذين اختارهم وصار يثق بهم فقتلوهم بأجمعهم، وأخذ ما في دورهم. فاشتدت مصيبة الدولة بفقد من قتل من الأمراء الذين كانوا أركان الدولة، وهم أصحاب الرأي والمعرفة، فوهت واختلت لقلة الرجال وعدم الكفاة.
ومن حين قتل حسن الأمراء تخوفه باقي الجند ونفرت نفوسهم منه فإنه كان جريئا عنيفاً بحاثاً عن الناس يريد إقلاب الدولة وتغييرها لتقدم أصحابه، فأكثر من مصادرة الناس، وقتل سراج الدين أبا الثريا نجماً في يوم الخميس ثامن شوال. وكان أبو الثريا في أول أمره خاملاً في الناس، ثم سمع قوله في العدالة أيام الآمر. فلما قبض أحمد بن الأفضل علي أبي الفخر وسجنه عنده بدار الوزارة، وقد كان الداعي أيام الآمر، طلب من يكون داعيا، فاستخدم نجماً هذا داعياً ولم يقف على ما كان عنده من الدهاء. فلما كان في وزارة يانس جمع إليه الحكم مع الدعوة؛ فلما مات يانس وانفرد الحافظ بالأمر بعده حظي نجم عنده ورقاه إلى أعلى المراتب، وصار يدبر الدولة. وحسن عنده نصرة طائفة الإسماعيلية والانتقام ممن كان يؤذيهم في أيام أحمد بن الأفضل، فتأذى بهذا خلق كثير، وأثبت طائفة سماهم المؤمنين وجعل لهم زماماً قتله حسن بن الحافظ. ولما قتل الشريف بن العباس وأخذ نجم يعادي أمراء الدولة ورؤساءها ولا ينظر في عاقبة وكانوا قد حسدوه على قربه من الحافظ وتمكنه منه ومطاوعته له بحيث لا يعمل شيئا إلا برأيه فلما تمكن حسن بن الحافظ أغروه به فقتله وقتل معه جماعة. ورد القضاء لابن ميسر وخلع عليه في يوم الخميس ثاني ذي القعدة.
وفيها مات القاضي المكين أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد بن الحسين بن حديد بن حمدون الكناني قاضي الإسكندرية بثغر رشيد، وقد عاد من القاهرة في جمادى الآخرة؛ ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وكانت له مدة في القضاء؛ وهو الذي كان سببا في اغتيال أبي الصلت أمية الأندلس. وقد ذكره السلفي وأثنى عليه، ورثى بعدة قصائد.
وفيها مات أبو عبد الله الحسين بن أبي الفضل بن الحسين الزاهد الناطق بالحكم، المعروف بابن بشرى الجوهري، الواعظ ابن الواعظ ابن الواعظ ابن الواعظ، في جمادى
الأولى. وكان حلو الوعظ، إلا أنه تعرض في آخر عمره لما لا يعنيه، فنفاه الحافظ إلى دمياط؛ وذلك أن الآمر لما مات ترك جارية حاملاً، فقام الحافظ بعده في الخلافة على أن يكون كفيلاً للحمل حتى يكبر، فاتفق أنه ولد وخافت أمه عليه من الحافظ، فجعلته في قفة من خوص وجعلت فوقه بصلاً وكراثاً وجزراً حتى لا يفطن به، وبعثته في قماطه تحت الحوائج في القفة إلى القرافة، وأدخل به إلى مسجد أبي تراب الصواف، وأرضعته المرضعة، وخفي أمره عن الحافظ حتى كبر، وكان يعرف بين الصبيان بقفيفة. فلما حان نفعه نم عليه ابن الجوهري هذا إلى الحافظ، فأخذ الصبي وفصده، فمات، وخلع على ابن الجوهري ثم نفاه إلى دمياط فمات بها.