المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سنة تسع وخمسين وخمسمائة - اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء - جـ ٣

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌المستعلى بالله أبو القاسم

- ‌سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وثمانين وأربعمائة

- ‌سنة تسعين وأربعمائة

- ‌سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة اثنين وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة أربع وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة خمس وتسعين وأربعمائة

- ‌الآمر بأحكام الله أبو علي المنصور

- ‌سنة ست وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة سبع وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة ثمان وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة تسع وتسعين وأربعمائة

- ‌سنة خمسمائة

- ‌سنة إحدى وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وخمسمائة

- ‌سنة أربع وخمسمائة

- ‌سنة خمس وخمسمائة

- ‌سنة ست وخمسمائة

- ‌سنة سبع وخمسمائة

- ‌سنة تسع وخمسمائة

- ‌سنة عشر وخمسمائةسنة إحدى عشرة وخمسمائة

- ‌سنة اثنتي عشرة وخمسمائة

- ‌سنة خمس عشرة وخمسمائة

- ‌سنة ست عشرة وخمسمائة

- ‌سنة سبع عشرة وخمسمائة

- ‌سنة ثمان عشرة وخمسمائة

- ‌سنة تسع عشرة وخمسمائة

- ‌سنة عشرين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وعشرين وخمسمائة

- ‌الحافظ لدين الله أبو الميمون عبد المجيد

- ‌سنة خمس وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ست وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وعشرين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة خمس وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة ست وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وثلاثين وخمسمائة

- ‌سنة أربعين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وأربعين وخمسمائة

- ‌الظافر بأمر الله أبو المنصور إسماعيل

- ‌سنة خمس وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة ست وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وأربعين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وأربعين وخمسمائة

- ‌الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى

- ‌سنة خمسين وخمسمائة

- ‌سنة إحدى وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة اثنين وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة خمس وخمسين وخمسمائة

- ‌العاضد لدين الله أبو محمد عبد الله

- ‌سنة ست وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وخسمين وخمسمائة

- ‌سنة ثمان وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة تسع وخمسين وخمسمائة

- ‌سنة ستين وخمسمائة

- ‌سنة احدى وستين وخمسمائة

- ‌سنة اثنتين وستين وخمسمائة

- ‌سنة ثلاث وستين وخمسمائة

- ‌سنة أربع وستين وخمسمائة

- ‌سنة خمس وستين وخمسمائة

- ‌سنة ست وستين وخمسمائة

- ‌سنة سبع وستين وخمسمائة

- ‌ذكر طرف من ترتيب الدولة الفاطمية

- ‌ذكر ما عيب عليهم

- ‌ذكر ما صار إليه أولادهم

الفصل: ‌سنة تسع وخمسين وخمسمائة

‌سنة تسع وخمسين وخمسمائة

فيها وصل رسل الفرنج في طلب مال الهدنة فماطلهم به ضرغام ودافعهم حتى شغل عنهم بقدوم شاور.

وفي ثامن عشر ربيع الأول قبض ضرغام على صبح بن شاهنشاه عين الزمان وأسد الغاوي وعلي بن الزبد في عدة تبلغ نحو السبعين من الأمراء سوى أتباعهم؛ وذلك أنه بلغه عنهم أنهم قد حسدوه واحتقروه وكاتبوا شاوراً ووعدوه القيام معه. ثم أخرجهم ليلا وضرب أعناقهم؛ فاختلت الدولة بقتل رجالها وذهاب فرسانها.

وفيها وجه ضرغام بأخيه ناصر الدين همام على طائفة من العسكر لقتال الأمير مرتفع ابن مجلي المعروف بالخلواص، متولي الإسكندرية، وقد جمع وسار؛ فعندما بلغ من معه من العربان قتل الأمراء البرقية فتروا عن القيام معه وطمعوا فيه، ووثب به قوم من بني سنبس وقبضوا عليه، وأتوا به إلى همام، فقدم به إلى القاهرة، فضرب ضرغام عنقه يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر وصلبه على باب زويلة؛ فنفرت القلوب من ضرغام.

وكان شاور قد وصل في ثالث عشري ذي القعدة من السنة الماضية إلى دمشق مترامياً على السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، مستجيراً به على ضرغام، فأكرم مثواه وأحسن إليه، فتحدث مع السلطان في أن يرسل معه العساكر إلى مصر ليعود إلى منصبه ويكون لنور الدين ثلث دخل البلاد بعد إقطاعات العساكر، ويكون معه من أمراء الشام من يقيم معه في مصر، ويتصرف هو بأوامر نور الدين واختياره. فبقي نور الدين يقدم إلى هذا الغرض رجلا ويؤخر أخرى، فتارةً يقصد رعاية شاور لكونه التجأ إليه وكون ما قاله زيادةً في ملكه وتقويةً له على الفرنج؛ وتارة يخشى خطر الطريق وكون الفرنج فيه،

ص: 264

ويخاف من شاور أنه إذا استقرت قدمه في مصر خاس في قوله ويخلف بما وعد. ثم قوي عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزها وإزاحة عللها.

واتفق أن الواعظ زين الدين بن نجا الأنصاري سمع بسعة أرزاق مصر فقدم إليها في وزارة الصالح ابن رزيك فأقبل عليه وحصل له من إنعامه ومما أخذه له من العاضد في ثلاث سنين ما يناهز عشرين ألف دينار، وسوغه عدة دور بتوقيع. فسمع بالزاهد أبي عمرو ابن مرزوق يتحدث الناس عنه بأنه مهما قاله لهم وقع، وأنه يركب كل سنة في نصف شعبان حماراً له ويأتي معه جماعة إلى ذيل الجبل ويودعونه ويمضون، فيطلع أبو عمرو إلى الجبل؛ ويلقاه الناس في الليلة الثانية ويجتمعون كاجتماعهم للعيد، ويركب حماره، والناس تحته، وينتظر، وينزل بعد صلاة المغرب إلى مسجده بقصد زيارته وقد تجمع الناس في الأسطحة والدكاكين والطرقات، والشيخ يعمل الختمات. فوصل إليه وأقام حتى انفض الناس، فخلا به وتعرف إليه؛ فكان مما قال له: أتعرف بالشام أحداً يقال له شيركوه. فقال: نعم، أمير من أمراء نور الدين. فقال: هذا يأتي إلى هذه البلاد ويملكها، وكل ما تراه من هذه الدولة يزول حتى لا يبقى له أثر عن قرب. وانصرف ابن نجا عن الشيخ أبي عمرو وقد تعجب من قوله.

فلما قضى أربه من القاهرة وعاد إلى دمشق اجتمع بالملك العادل نور الدين وحكى له قول الشيخ أبي عمرو؛ فقال له: لا تخبر أحداً بذلك. ومضى اليوم وما بعده، إلى أن قدم شاور على السلطان نور الدين وقوي عزمه على تجهيز العساكر معه؛ فوقع اختيار السلطان على الأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي بن مروان، أحد أمرائه، فاستدعاه من حلب، فوصل إلى دمشق مستهل رجب منها، وأمره بالمسير إلى مصر مع العساكر صحبة شاور،

ص: 265

فامتنع وقال: لا، أمشي بألف فارس، إلى إقليم فيه عشرة آلاف فارس ومائة شيني فيها عشرة آلاف مقاتل وعندهم أربعون ألف عبد لخمس خلفاء، وهم مستوطنون في أوطانهم قريبة منهم خزائنهم، ونأتي نحن من تعب السفر بهذه العدة القليلة. فتركه وأرسل إلى ابن نجا، فلما جاء قال له: حديث الرجل الزاهد الذي بمصر أخبرت به أحداً؟ فقال: معاذ الله؛ والله ما سمعه مني أحد سوى السلطان. فقال: امض إلى أسد الدين شيركوه واحك له الخبر. فمضى إلى شيركوه وقص عليه الحديث بنصه، فطابت نفسه للسفر.

وسار العسكر وصحبته شاور يوم الاثنين خامس عشر جمادى الأولى، وقد أقر نور الدين شيركوه أن يعيد شاور إلى منصبه وينتقم له ممن ثار عليه. وخرج نور الدين إلى أطراف بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكر ليمنع الفرنج من التعرض لأسد الدين؛ فكان قصارى أمر الفرنج أن يمتنعوا من نور الدين ويحفظوا بلادهم.

وأخذ شيركوه في سيره إلى مصر على شرقي الشوبك حتى نزل أيلة، وسار منها إلى السويس؛ فلم يدر ضرغام، وقد وصل إليه رسل الفرنج في طلب مال الهدنة المقرر لهم في كل سنة على أهل مصر وهو ثلاثة وثلاثون ألف دينار وهو يدافعهم ويماطلون، إلا بطيور البطائق قد سقطت من عند أخيه الأمير حسام الدين، متولي بلبيس، في يوم الأحد

ص: 266

خامس عشري جمادى الأولى، يخبر فيها بوصول شاور وأسد الدين شيركوة ومعهما من الأتراك خلق كثير؛ فانزعج وتأهب لتسيير العسكر. وأصبح الناس يوم الاثنين السادس والعشرين من جمادى الأولى وقد شاع ذلك بينهم، فخافوا على أنفسهم وأموالهم وانتقلوا من مكان إلى مكان على عادتهم وجمعوا عندهم الأقوات والماء.

وخرج الأمير ناصر المسلمين همام بالعساكر أول يوم من جمادى الآخرة، وهم نحو ستة آلاف فارس بالخيول المسرجة والدروع الثمينة والسلاح العجيب، وقد أعجبوا بأنفسهم واطمأنوا بأنهم ظافرون. فوصلوا إلى بلبيس يوم الأحد ثانيه، فوافاهم شاور بالعسكر الشامي يوم الاثنين، فباتوا ليلة الثلاثاء، وأصبحوا وقد توهم منهم أسد الدين شيركوه وقال لشاور: يا هذا لقد غررتنا وقلت إنه ليس بمصر عساكر حتى جئنا بهذه الشرذمة. فقال: لا يهولنك ما تشاهد من هذه الجموع فأكثرها حاكة وفلاحون يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا؛ فما ظنك بهم إذا حمى الوطيس وكلبت الحرب. وأما الأمراء فإن كتبهم وعهودهم معي؛ وسترى إذا التقينا، لكني أريد منك أن تأمر العساكر بالاستعداد.

فلما ترتبوا نهاهم عن القتال، فتحرك المصريون وتأهبوا وأقاموا حتى حمى النهار، فسخن عليهم الحديد ولم يروا أحداً يسير إليهم فنزلوا عن خيولهم وأقاموا الخيم، وألقى بعضهم السلاح. فلما عاين ذلك شاور أمر بالحملة عليهم، فثار المصريون وحمل ناصر المسلمين همام والأمير فارس المسلمين على العسكر الشامي؛ فجرح همام والتفت فلم ير أحداً من عسكره، فكان أشجعهم من يصير على ظهر فرسه. وانهزموا بأجمعهم إلى بلبيس، وغنم العسكر الشامي جميع ما كان معهم، فقووا به، وتبعوهم وأسروا منهم جماعة الأمراء وغيرهم، ثم منوا عليهم وسيروهم في جمعهم.

ولحق الأمير همام بالقاهرة سحر يوم الأربعاء خامسه وهو مجروح، واختفى الأمير حسام في مدينة بلبيس فدل عليه بعض الكنانية فأسر وقيد.

ص: 267

وسار العسكر فوصلوا إلى القاهرة بكرة يوم الخميس سادسه، فنزلوا عند التاج بظاهر القاهرة، وانتشر العسكر في بلاد يريدون الأكل والعلف.

وكان ضرغام قد كاتب أهل الأعمال فوصلوا إليه لخوفهم من الترك، فضمهم إليه ومعهم الريحانية والجيوشية وجعلهم في داخل القاهرة؛ فأقام شاور بمن معه على التاج حتى استراحت خيولهم. ثم إنه استحلف شيركوه ومن معه أنهم لا يغدرون به ولا يسلمونه، ولا ينهزمون إلا عن غلبة. ومع هذا فإن طوائف من العربان كانت تطارد عسكر ضرغام بأرض الطبالة، وخرج أهل منية السيرج فقتلوا من الترك جماعة، فمالوا عليهم وانتهبوا المنية وأذاقوا أهلها نكالاً شديدا. وأقام شاور بمن معه في ناحية الخرقانية وشبرا دمنهور، ثم سار من ناحية المقس يريد القاهرة؛ فخرج إليه عسكر ضرغام وحملوا

ص: 268

عليه، فخاف من كان معه من الأمراء الذين كانوا مع همام أخي ضرغام ولحقوا بالقاهرة فانهزم هزيمة قبيحة. فسر بذلك ضرغام، وأحضر قاضي القضاة وأمره بحمل ما في مودع الحكم من مال الأيتام؛ فحملها إليه.

وكان شاور لما انهزم سار إلى بركة الحبش وصار إلى الرصد فملك ما هنالك، وأخذ مدينة مصر وأقام بها أياماً، ولم يبق مع شاور وشيركوه من الأمراء الذين كانوا مع همام سوى شمس الخلافة محمد وأولاد سيف الملك الجمل وابن ناصر الدولة وأولاد حسن؛ فقيد شيركوه ابن شمس الخلافة دون الناس كلهم.

وكره الناس من ضرغام أخذه أموال الأيتام مع ما سبق منه من قتل الأمراء وغيرهم، وعلموا عجزه عن شاور.

وكان شاور يركب كل يوم في مصر ويؤمن أهلها ويمنع الأتراك من التعرض إليهم، فمال الناس إليه. وبلغهم عن ضرغام أنه يتوعدهم إذا ظفر بشاور أنه يحرق مصر على أهلها من أجل أنهم أمكنوا شاوراً من دخول البلد وباعوا عليه وعلى من معه. فتحول شاور عن مصر ونزل اللوق، وطارد خيل ضرغام وقد خلت المنصورة والهلالية وثبت أهل اليانسية فقاتل الناس قتالاً خفيفاً. وصار شاور وشيركوه إلى باب سعادة وباب القنطرة من أبواب القاهرة، وطرحوا النار في اللؤلؤة وما حولها من الدور. وكانت وقعة عظيمة بين الفريقين قتل فيها من العسكرين خلق كثير.

فلما كان الليل اجتمع مقدموا الريحانية وفد فني منهم كثير، وأرسلوا إلى شاور يطلبون الأمان وكان قبل ذلك يبعث إليهم ويستميلهم فأمنهم.

ولما رأى الخليفة العاضد انحلال أمر ضرغام بعث يأمر الرماة بالكف عن الرمي، فخرج الرجال إلى شاور في الصباح، فسر بهم. وفترت همة أهل القاهرة، وأعمل كل منهم الحيلة في الخروج؛ وخرج ضرغام ومعه جماعة إلى خارج القاهرة، وجعلوا يترددون من باب إلى باب، وفيهم ابن ملهم وابن فرج الله وصارم بن أبي الخليل وجماعة مذكورون، فكانوا يطاردون من طاردهم. وأمر ضرغام بضرب البوقات والطبل على الأسوار

ص: 269

ليجتمع الناس؛ فلم يخرج إليه أحد وانفل الناس عنه. فعاد إلى القاهرة وصار إلى باب الرحبة من أبواب النصر ولم يبق معه سوى خمسمائة فارس، فوقف وطلب الخليفة أن يشرف عليهم من الطاق. فبلغ ذلك شاوراً فسرح في الحال ابنه سليمان الطاري إلى باب القنطرة ليملكه ويقف.

فلما طال وقوف ضرغام نادى: أريد أمير المؤمنين يكلمني لأسأله عما أفعل. فلم يجبه أحد. فصاح: يا مولانا كلمني، يا مولانا أرني وجهك الكريم يا مولانا بحرمة أجدادك على الله؛ وهو يبكي فلم يجبه أحد. وقويت الشمس فصار إلى الظل حتى قرب الظهر، فأمر بعض غلمانه أن يركض في قصبة القاهرة ويقول بصوت عال: ما كانت إلا مكيدة على الرجال، قد قتل الترك أصحاب شاور الريحانية. فما هو إلا أن سمع الناس ذلك وكانوا قد صاروا إلى بيوتهم فأسرعوا إلى خيولهم وعادوا من كل جانب مثل السيل، فرأوا ضرغاما على تلك الهيئة، والطاق لم يفتح له والخليفة لم يكلمه، فسقط في أيديهم وقالوا ارجعوا فهي كناية والغلبة لشاور؛ ورجعوا من حيث أتوا.

فوقف ضرغام إلى العصر ولم يبق معه غير ثلاثين فارساً، ووردت إليه رقعة فيها: خذ لنفسك وانج بها. فأيس من الظفر.

وبعث شاور إلى الخليفة العاضد يستأذنه في الدخول إلى القاهرة؛ فأذن له. فبعث شاور يأمر ابنه أن يدخل القاهرة، وهو عند القنطرة، فدخل وضربت أبواقه، وكانت من أبواق الترك التي لم تعهد بمصر، فما هو إلا أن علم به ضرغام، فمر على وجهه إلى باب زويلة، فتخطف الناس من معه، وعطعطوا عليه ولعنوه. فأدركه بعض الشاميين في غلمان شاور وطعنه فأرداه، ونزل إليه واحتز رأسه بالقرب من مشهد السيدة نفيسة، وذلك قريباً من الجسر الأعظم، في يوم الجمعة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة. وفر ملهم إلى مسجد تبر، فقتل هناك وترك مطروحاً، وأتى برأسه إلى عند شاور. وقتل ناصر الدين

ص: 270

أخو ضرغام عند بركة الفيل؛ وقتل فارس المسلمين. وبقى جسد ضرغام ملقىً يومين ثم حمل إلى القرافة فدفن بها.

وكان من الاتفاق العجيب أن ابن شاور قتل في يوم الجمعة حادي عشري رمضان سنة ثمان وخمسين، فقتل ضرغام يوم الجمعة ثامن عشري جمادى الآخرة سنة تسع؛ وقتل مع ابن شاور حسان ابن عمته فقتل مع ضرغام.. وكانت وزارة شاور الأولى تسعة أشهر ووزارة ضرغام بعده تسعة أشهر.

وكان من أعيان الأمراء وأحلى الفرسان، يجيد اللعب بالكرة والرمي بالسهام، ويكتب كتابة ابن مقلة، وينظم الموشحات الجيدة، كريما عاقلا، يحب العلماء والأدباء ويقربهم، إلا أنه سريع الاستمالة يميل مع من يستميله ولا يكذب خبراً عن عدو بل يعاقب سريعاً.

ص: 271

ولما جيء برأسه إلى شاور رفعت على قناة وطيف بها؛ فقال الفقيه عمارة:

أرى حنك الوزارة صار سيفاً

يحد بحدّه صيد الرّقاب

كأنّك رائد البلوى، وإلاّ

بشيرٌ بالمنيّة والمصاب

فكان كما قال عمارة.

وأقام شاور وشيركوه بعد قتل ضرغام في مخيمهما بناحية المقس يومي السبت والأحد. فلما كان يوم الاثنين طلع الوزارة في ثالث شهر رجب، وخرج الكامل بن شاور من دار ملهم، أخي ضرغام، وكان معتقلاً بها؛ وخرج معه القاضي الفاضل، وكان معه في الاعتقال، وقد تأكدت بينهما مودة، فأدخله إلى أبيه ومدحه عنده وأثنى عليه، فسماه حينئذ بالقاضي الفاضل وكان قبل ذلك ينعت بالقاضي الأسعد.

وفرح العاضد بدخول شاور. ولما خلع عليه سار من القصر إلى باب زويلة، وخرج منه إلى باب القنطرة فنزل بدار الوزارة. وركب شيركوه إلى مصر ورآها، وقصد الفقهاء مثل الكيزاني وابن حطيه، واجتمع بالشيخ أبي عمرو بن مرزوق وأخبره

ص: 272

كما أخبر ابن نجا أنه يملك الديار المصرية ويزيل هذه الدولة، لكنه لا يملكها إلا بعد أن يرجع إلى الشام ويأتيها ثانيا، ثم يرجع ويعود إليها ثالث مرة وحينئذ يملكها. وسأله عن بيت المقدس فقال: لا يكون فتحه على يدك وإنما يكون فتحه على يد بعض من في خدمتك من أقاربك. وهكذا جرى؛ فإن شيركوه لم يملك مصر إلا في مجيئه إلى القاهرة المرة الثالثة، ولم يفتح بيت المقدس إلا على يد صلاح الدين يوسف بن أخي شيركوه.

وفي رابع رجب قرئ سجل شاور بالوزارة.

واستمر شيركوه في مخيمه ويخرج إليه في كل يوم عشرون طبقا من سائر الأطعمة ومائتا قنطار خبزاً ومائتا إردب شعيراً. وأعد له العاضد ملبوساً وسريراً مرصعاً بالجوهر له قيمة عظيمة كان الآمر قد عمله، وأمره بالدخول ليخلع عليه، فامتنع. وأرسل إلى شاور يقول: قد طال مقامنا في الخيم وضجر العسكر من الحر والغبار؛ ويستنجز منه ما وعد به السلطان نور الدين. فأرسل إليه ثلاثين ألف دينار وقال: ترحل الآن في أمن الله وحفظه. فبعث يقول له: إن الملك العادل نور الدين أوصاني عند انفصالي عنه إذا ملك شاور تكون مقيماً عنده، ويكون لك ثلث مغل البلاد، والثلث الآخر لشاور والعسكر، والثلث الثالث

ص: 273

لصاحب القصر يصرفه في مصالحه. فأنكر شاور ذلك وقال: إنما طلبت نجدة وإذا انقضى شغلي عادوا؛ وقد سيرت إليكم نفقة فخذوها وانصرفوا وأنا أرضي نور الدين. فقال شيركوه: لا يمكنني مخالفة نور الدين ولا أنصرف إلا بإمضاء أمره.

فأخذ شاور عند ذلك يستعد لمحاربة شيركوه، واستعد أيضا شيركوه، وبعث بابن أخيه صلاح الدين بطائفة من الجيش يجمع الغلال والأتبان وغير ذلك ببلبيس. فغلق شاور أبواب القاهرة، وتغلب صلاح الدين على الحوف، وبث خيله، وحاز الأموال والغلال. وتقدم إلى جزيرة قويسنا، فخرج ثلاثة من الأستاذين بأمر الخليفة إلى استنفار الناس من الصعيد؛ وثار ابن شاس، والي جزيرة قويسنا، على الترك وقاتلهم حتى هزمهم وغرق منهم جماعة. فعاد صلاح الدين إلى عمه شيركوه، فتجهز ونزل بحري التاج.

وأخرج شاور خيمه وضربها في أرض الطبالة. فلما كان يوم الأربعاء الثالث والعشرون من شعبان التقى شاور وشيركوه في كوم الريش، فانكسر شاور إلى باب القنطرة ونهبت خيمه، وأسر أخوه صبح وجوهر المأموني؛ ودخل القاهرة فرمى بحجر من باب القنطرة

ص: 274

فدخل الكافوري مغشيا عليه.

وفي ذلك اليوم أحرق صف الخليج، وكاد شيركوه أن يدخل القاهرة؛ وبقي الحصار إلى يوم الخميس تاسع رمضان. وورد الخبر إلى شاور بأن الفرنج قاربوا مدينة بلبيس يوم السبت حادي عشر رمضان فأقام عليها وشيركوه بها. ولما كان في خامس عشر ذي الحجة تقرر الحال مع شيركوه على أن يدفع إليه شاور خمسين ألف دينار ورهائن على صبح، أخي شاور، وعاد إلى دمشق. ورجع الفرنج.

وقدم شاور إلى القاهرة في سادس عشر ذي الحجة. فكان مقامه على بلبيس نيفاً وتسعين يوماً.

وأخرج شاور العساكر والحشود مما يلي البستان الكبير خارج باب الفتوح، وزحف شاور، فخرج إليه شيركوه وحاربه، فخرج أكثر عسكر شاور وغورت أعينهم، ووقعت نشابة في عين الطاري، ابن شاور، اليمني، فبقي معه النصل مدة إلى أن قلعت وخرج منها بكلفة. فانهزم شاور ودخل القاهرة وأغلق أبوابها، وحاصره شيركوه طول النهار.

ص: 275

فلما كان الليل أحرق من باب سعادة إلى ناحية اللؤلؤة، كما فعل أولا، واشتد الأمر، وصار كل من يخرج من عسكر مصر يقتل. فركب شاور وخرج ثم عاد وقد ازدحم الناس على السور لتنظر إلى الحرب، فسقطت شرفة من شرفات السور على ابن شاور وغشى عليه، ودخلوا به إلى الكافوري وقد أيس منه؛ فجاء رئيس الأطباء وعصر في أذنه حصرما فأفاق. وأتاه الشراب من عند الخليفة فشربه وركب إلى داره وقد ورم وجهه.

واشتد قتال شيركوه على باب القنطرة وأحرق وجه الخليج جميعه، واحترقت الدور التي بجانبه من حارة زويلة. وانضم إليه بنو كنانة وكثير من عسكر المصريين. وبعث طائفة إلى حارة الريحانية وفتحوا ثغرة، فكان هناك قتال شديد. فجلس العاضد على باب الذهب وأمر بالخروج، فتسارع الصبيان وغيرهم إلى الثغرة وقاتلوا الترك والكنانية حتى أوصلوهم إلى منازلهم، وسدوا الثغرة.

وكان ضرغام عند قدوم شاور وشيركوه أرسل إلى الفرنج يستنجد بهم ويعدهم بزيادة القطيعة التي لهم، فامتنع ملكهم وقال لا يأتي إلا بأمر الخليفة وأما من الوزراء فلا يقبل فلما تحقق شاور أنه لا قبل له بشيركوه كتب إلى مري ملك الفرنج بالساحل يستنجده ويخوفه من تمكن عسكر نور الدين من مصر، ويقول له متى استقروا في البلاد قلعوك كما يريدون أن يفعلوا؛ وضمن له مالاً وعلفاً، ويقال إنه جعل له عن كل مرحلة يسيرها ألف دينار؛ وسير إليه بذلك مع ظهير الدين بدران. فسر الفرنج بذلك وطمعوا في ملك مصر.

ص: 276

وخرج مري من عسقلان بجموعه فقبض عن مسيره سبعة وعشرين ألف دينار.

فلما بلغ شيركوه ارتحل عن القاهرة إلى بلبيس وبها ما أعد له ابن أخيه من الغلال وغيرها، وانضم معه الكنانية، فخرج شاور في عسكر مصر، فاجتمع بالفرنج وخيم على بلبيس وأحاط بها، فكانوا يغادون القتال ويراوحونه ثلاثة أشهر. وانقطعت الأخبار عن نور الدين، وبلغه سير الفرنج إلى مصر.

وسار ملك القدس بجمع كثير ممن وصل لزيارة القدس مستعيناً بهم. فبينا الفرنج في محاصرة شيركوه إذ ورد عليهم أخذ نور الدين لحارم ومسيره إلى بانياس، فسقط في أيديهم وعولوا على الرجوع إلى بلادهم. فراسلوا شيركوه في طلب الصلح وعوده إلى الشام وتسليم ما بيده إلى المصريين. فأجاب إلى ذلك. وندب شاور الأمير شمس الخلافة محمد ابن مختار إلى شيركوه، فقرر معه الصلح على ثلاثين ألفاً فحملها إليه. وكانت الأقوات قد قلت عنده، وقتل من أصحابه جماعة. وأبطأت نجدة نور الدين فلم يأته منه أحد. وخرج من بلبيس أول ذي الحجة.

ص: 277

وممن قتل معه من أصحابه على بلبيس سيف الدين محمد بن برجوان، صاحب صرخد، بسهم أصابه، فأنشد وهو يجود بنفسه:

يا مصر، ما كنت في بالي ولا خلدي

ولا خطرت بأوهامي وأفكاري

لكن إذا قالت الأقدار كان لها

قوىً تؤلف بين الماء والنّار

وقتل من الكنانية عالم عظيم. وحصل للفرنج من شاور أموال جمة، فإنه كان يعطيهم عن كل يوم ألف دينار.

وأقام شيركوه بظاهر بلبيس ثلاثة أيام وسار إلى دمشق، فدخلها يوم الأربعاء ثالث عشري ذي الحجة.

فيها عزل شاور أبا القاسم هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن أبي كامل، المعروف بالقاضي المفضل ضياء الدين بن كامل الصوري، عن قضاء القضاة، وولي مكانه القاضي الأعز أبا محمد الحسن بن علي بن سلامة، المعروف بالعوريس.

ص: 278